تجفيف المشمش في القاع سوق بديلة للمزارع
يعيش المزارع اللبنانيّ هاجسًا مستديمًا يتكرّر عند حلول كلّ موسم، سواء كان موسم فاكهة أم خضار، ويتمثّل في أنّ السوق المحلّيّة صغيرة لا تستوعب كلّ الإنتاج، أمّا التصدير فدونه عقبات كثيرة، أوّلها إقفال السوق الخليجيّة بوجه المزارع اللبنانيّ وآخرها فرض ضريبة الـ2000 دولار على كلّ شاحنة برَّاد زراعيّ يعبر في سوريا، فما الحل إذا؟
في بلدة القاع البقاعيّة عند الحدود مع سوريا، دخل معمل تجفيف الفاكهة حيّز العمل، لعلَّه يُشَكِّل بديلًا ناجعًا، يَقي المزارع من خطر تلف مواسمه وضياع تعبه.
معمل التجفيف
منذ قرابة سنتين، وضمن مشروع “أرض” المموّل من الاتّحاد الأوروبّيّ، بدأت “جمعيّة مار يوحنّا بولس الثاني” بدعم إنشاء التعاونية النسائية التي ضمّت ستّين سيّدة، وباشرت العمل في إنشاء معمل تجفيف الفاكهة الذي يشتغل به حاليًّا 25 سيّدة في بلدة القاع، إضافة إلى تدريب عدد من سيّدات البلدة على عمليّة التصنيع الغذائيّ الزراعيّ.
تقول المهندسة الزراعيّة حنين ناصر، والناشطة في جمعيّة مار يوحنّا بولس الثاني في حديث لـ”مناطق نت”: “إنّ موضوع التجفيف بدأ مع مجموعة من سيّدات القاع، ممّن شاركن على مدار سنتين ضمن أنشطة وتدريبات الجمعيّة لتأسيس تعاونيّة تختص بالتصنيع الغذائيّ والمؤونة. على إثرها تمَّ إنشاء “الجمعيّة التعاونيّة للتصنيع الغذائيّ والتسويق في القاع” بالتعاون الكامل مع البلديّة.
أمّا في ما يخصّ تجفيف المشمش، تتابع ناصر: “فقد حضر إلى لبنان خبير تركيّ عدّة مرّات، وكانت مهمّته إضافة إلى التدريب، إجراء الأبحاث والدراسات لمعرفة الأنواع الأفضل لعمليّة التجفيف”. وبعد جهود ودراسات تشير ناصر إلى أنّه “تمَّ تحديد نوع المشمش “بندوق عجمي” أنّه الأفضل ويضاهي المشمش التركيّ، وقد تمّ هذه السنة إنتاج أولى الكمّيّات منه بجودة عالية ومعايير مستوفية الشروط من حيث الشكل واللون والطعم”.
وتلفت ناصر إلى أنّ كمّيّات المشمش التي جرى العمل عليها هذه السنة، بلغت نحو 3.5 أطنان، نتج عنها 691 كيلوغراماً من المشمش المجفّف، وهذه الكمّيّات قابلة للارتفاع بسبب نجاح المشروع.
فرص عمل للنساء
“لعمليّة إنتاج المشمش المجفف إيجابيّات عديدة، فهو أمَّن فرص عمل للسيّدات المنتسبات إلى التعاونيّة وغير المنتسبات وهو أمر بغاية الأهمّيّة، وخلق مساحة مشتركة لكلّ السيّدات، وزرع فيهنّ روح العمل كفريق وثقافة الجماعة” والكلام لناصر التي تضيف: “يد واحدة لا تصفّق، ونجاح هذا المشروع رهن بتضافر جهود جميع السيّدات اللواتي سيكُوننّ أوّل مجموعة في لبنان لها اسمها الجدّيّ في هذا المجال، فهذا المنتج هو صديق للبيئة، لا تدخله أيّ مواد كيماويّة إضافيّة، فقط أشعة الشمس والـ”الطبخة السرّيّة” للوصول به إلى الشكل واللون والحجم والجودة كي يضاهي المشمش التركيّ المجفّف المشهور عالميًا”.
عن كيفية استفادة المزارع من هذا المشروع تؤكّد ناصر: “أنّ ما نشاهده سنويًّا عبر الإعلام ووسائل التواصل من رمي المزارعين لمحاصيلهم في الطرقات بسبب الكساد، وعدم توافر فرص التصدير والتسويق أمر مؤسف، وهذا يختلف هنا في القاع وجوارها الآن، حيث أصبح للمزارع خيار آخر يتمثّل بالتصنيع الغذائيّ لمنتجاته الزراعيّة”.
وتوضح ناصر أنّه “من الممكن أن يبدأ ذلك خلال المراحل الأولى لعمليّة الإنتاج، حيث نقوم بالتواصل مع المزارع لإرشاده حول الأسمدة والأدوية والمبيدات الضروريّة، كي يصل بمنتجه إلى الحجم والنوعيّة المطلوبة”. مؤكدةً أنّه “إذا سارت الأمور وفق ذلك، فالنجاح مضمون للمزارع ويستطيع من خلاله منافسة أفخر أنواع المشمش المجفّف المستورد”.
تختم المهندسة ناصر كلامها بالقول: “نحن كجمعيّة مار يوحنّا بولس الثاني تمويلنا من ضمن مشروع “أرض” من الاتّحاد الأوروبّيّ، لكن هدفنا وغايتنا المزارع اللبنانيّ وتأسيسه تعاونيّاته. نعمل الآن في القاع واللبوة وعرسال والنبي عثمان وعدّة مناطق مع تعاونيّات زراعيّة بهدف رفع مستوى الإنتاج الزراعيّ اللبنانيّ، وسنبقى طالما أنّ ظروف الاستمرار متوافرة”.
آفاق جديدة للمزارعين
من جهتها تتحدّث ريتّا مخلوف، وهي مربّية في مدارس القاع، ومسؤولة التنسيق والتواصل في التعاونيّة النسائيّة لـ”مناطق نت” عن أهداف الجمعيّة فتقول: “منذ البداية كان ولا يزال فتح آفاق جديدة أمام الزراعة في بلدتنا هو هدف الجمعيّة، وذلك من خلال خلق أسواق جديدة لتصريف الإنتاج خضارًا كان أم فاكهة”. تتابع مخلوف: “خضعنا لدورات مكثّفة مع خبير تركيّ متخصّص في تجفيف الفاكهة وكيفيّة توضيبها وتجهيزها كي تصل إلى السوق بأفضل صورة ممكنة، وتنافس المنتجات الزراعيّة المستوردة من الخارج”.
عن الهدف الاجتماعيّ الاقتصاديّ للتعاونيّة تؤكّد مخلوف: “إنّها من أجل خلق فرص العمل والإنتاج أمام سيّدات القاع، وأيضًا لكسر الصورة النمطيّة عن المرأة في قرى الأطراف من أنّها لبيتها وزوجها فقط”. وتضيف مخلوف: “أثبتت المبادرات النسائيّة التي أطلقت في بلدتنا جدواها، وهي أدّت إلى جعل المرأة شريكة فعليّة وفاعلة للرجل في إعالة البيت والأسرة، وأدّت أيضًا إلى اكتساب النساء للروح الجماعيّة والعمل كفريق متكامل، وهذا ما نحن عليه اليوم، فريق نسائيّ متكامل يعمل لمصلحة أعضائه وبلده ووطنه”.
حول العمل السياسيّ ومشاركة المرأة في صناعة القرار تتحدّث مخلوف: “من خلال عملي السابق والحاليّ وفي التعاونيّة الآن، تكوّنت لديّ قناعة راسخة بأنّ العمل الاجتماعيّ الناجح والمبادرات الجماعيّة، هما المدخل الآمن لخوض المرأة غمار العمل السياسيّ والمشاركة في صناعة القرار، بعيدًا من التأثير السياسيّ “شكليًّا” أو العائليّ العصبيّ اللذين لم ينجحا في تقديم أيّ نماذج رائدة في العمل النسائيّ، بل إنّ بعضها أساء لقدرات المرأة وإمكاناتها”.
هدفنا السوق الأوروبّيّة
بدوره شدَّدَ رئيس مجلس إدارة التعاونيّة الزراعيّة في القاع “سوا” طارق طعمة على ضرورة تكامل وتضافر الجهود مع التعاونيّة النسائيّة لما فيه مصلحة القاع. ويقول لـ”مناطق نت”: “هدفنا الكبير هو وصول منتجاتنا الزراعيّة إلى السوق الأوروبّيّة، لكن دون ذلك شروطًا وخطوات علميّة عمليّة يجب اتّباعها”.
ريتا مخلوف: أثبتت المبادرات النسائيّة التي أطلقت في بلدتنا جدواها، وهي أدّت إلى جعل المرأة شريكة فعليّة وفاعلة للرجل في إعالة البيت والأسرة
يضيف طعمة: “حتّى اليوم نقول إنّه لدينا نحو عشرة آلاف دونم تُزرع بالخضار، وستّة آلاف بالفاكهة، لكنّ هذه معلومات عامّة، لا تستقيم إلّا بإحصاء علميّ ودقيق لكمّيّة المنتجات الزراعيّة وأنواعها، ومن ثمّ فرزها بين ما يصلح للتصدير وبين ما يُخصّص للسوق المحلّيّة والتجفيف والمربّيات والعصير وسواه”.
يتابع طعمة: “تعاونيتنا تضمّ 66 مزارعًا، لكن هدفنا الوصول إلى كلّ مزارعي القاع، والعمل على تنظيم دورات علميّة تدريبيّة من شأنها تحسين قدرات المزارع وكفاءته”. ويختم طعمة مناشدًا الدولة “بضرورة معالجة موضوع الريّ والآبار قبل وقوع الكارثة على المزارعين”.
بلدية القاع
عن المشاريع الزراعيّة والإنمائيّة في بلدة القاع، تحدّث رئيس البلديّة المحامي بشير مطر لـ”مناطق نت” فقال: “لقد أثمر تعاون البلديّة مع جمعيّة مار يوحنّا بولس الثاني تأسيس تعاونيّة زراعيّة ضمّت غالبيّة مزارعي بلدة القاع تحت اسم “سوا” العام 2021، تبعها إنشاء برّاد زراعيّ ومبنى “هنغار” جُهِّز بمعدّات لفرز الفاكهة وتوضيبها، وحصلنا على وسيلة نقل مبَرّدة (بيك أب)”.
يضيف مطر: “أسّسنا تعاونيّة مدرسيّة بالتعاون مع جمعيّة مار يوحنّا بولس الثاني، واتّحاد تعاونيّات تورنتو الإيطاليّ في مدرسة سيّدة البقاع، هي الأولى من نوعها، وهي كانت باكورة التعاون بيننا، ومن ثمّ بادرنا إلى تأسيس تعاونيّة نسائيّة للتصنيع الغذائيّ ضمن مشروع “أرض” المموّل من الاتّحاد الأوروبّيّ”.
ويشير مطر إلى إنشاء مركز للتعاونيّة النسائية، وهو عبارة عن مبنى جاهز “هنغار”، أمّا الأهم من كلّ ذلك يقول مطر: “هو ترسيخ مفهوم العمل التعاونيّ في مجتمعنا، لمواجهة التحدّيات المستقبليّة، بهدف تطوير القطاع الزراعيّ لجهة الإنتاج والتصنيع، وتوفير فرص العمل وفتح آفاق مستقبليّة لنا كمنطقة زراعيّة”.
يتابع مطر: “مشكلتنا الفعليّة اليوم هي اتّفاقية تقاسم مياه نهر العاصي، وما خلَّفته من إجحاف بحق المزارع اللبنانيّ في كلّ حوض العاصي وليس القاع فقط. اليوم زرنا معالي وزير الطاقة بهدف إيجاد حلول قانونيّة ضمن الاتفاقيّة أو طرح تعديلها، لكنّ الأمر ليس بالسهولة التي نريدها، فالمزارع اليوم ممنوع من حفر بئر جديدة، ممنوع من ترميم وتنظيف الآبار القائمة سواء كانت مسجَّلة أم غير مسجّلة، وهذا ما يُعَرّض البساتين والمحاصيل إلى خطر التلف”.
ودعا مطر المزارعين وشاغلي الأراضي بشكل قانونيّ “أو غير ذلك، إلى ضرورة ترشيد استهلاك المياه قدر الإمكان والتعاون في ما بينهم، لتمرير هذه المرحلة ريثما يتمّ إيجاد حلول فعليّة ونهائيّة”.