تحوّلات شارع الحمرا في بيروت خيبات وإضاءات وتفاؤل
منذ مطلع التسعينيّات، يخسر شارع الحمرا قطعًا من لوحة “البّازل” الكبرى التي تشكّله، فأغلقت مقاهيه الأشهر (ويمبّي، مودكا، كافّيه دي بّاريه..) لتتحوّل إلى متاجر ثياب وأحذية، كما أقفلَت صالات السينما المرصوصة من أوّل الشارع حتّى آخره، ليتعدّى عددها العشر (الحمرا، بيكاديلّلي، سارولّا، ستراند، بافيّون، إلدورادو…) ثم تغيّر دور أكشاك الصحف (كيوسك) لتصبح مراكز بيع أقراص أغاني وأفلام ممغنطة، ومظلّات وكلسات (جوارب) وأحزمة خصر، ويصل الدور إلى مكتبات الشارع التي نجت منها واحدة، هي الأكبر والأشهر.
غريبة هي قوانين “التقدّم”، حيث تحافظ على تألّق المكان طوال سنوات الحرب، وما سبقتها من أعوام، ليكون الانحدار ديدن “الحمرا”، في مرحلة السلم “النسبيّ”.
انحسار قرّاء الصحف
منذ العام 1964 يحضر نعيم صالح يوميًّا إلى شارع الحمرا، رفقة والده الذي يبيع الصحف، فكان ذلك الطفل شاهدًا على تبدّل واجهات المحال والمتاجر، وتغيّر عناوين المجلّات، وافتتاح المسرحيّات، وتعليق أفيشات (ملصقات) الأفلام، ومرور النجوم على هذا الرصيف، من داليدا إلى شارل أزنافور، مرورًا بلويس أرمسترونغ، وبّول أنكا. أيضًا كان الشارع نقطة عبور ضروريّة لفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، وفريد شوقي وفؤاد المهندس وعادل امام، وعادل أدهم. الجميع مرّوا من هنا. لا أحد استطاع تجاوز محوريّة هذا الشارع برمزيّته الثقافيّة والتجاريّة والسياحيّة.
“شارع الحمرا هرِمَ. لقد مات هؤلاء الذين صنعوا سحره. هكذا بكل بساطة، كبروا في السن، وغادروا. هذا أمر طبيعيّ، لكنّ الجيل الجديد لم يتسلّم الأمانة، حيث دخل الانترنت على الخطّ، ليغيّر قوانين التتابع، ونقل التجارب من جيل إلى آخر”، يقول نعيم، الذي ورث مهنة والده، ليصبح الـ”كيوسك” الخاص به معلمًا ومحطّة لكل باحث عن الأخبار الطازجة، والمجلّات العربيّة والأجنبيّة، والكتب الصادرة عن كبريات الدور.
ثمّ يتابع متحدّثًا لـ”مناطق نت”: “أقيس الأمر على أولادي، جميعهم لا يقرأون الصحف ولا يميلون إلى حملها، علمًا أنّهم متخرّجون من أكبر الجامعات”. ثم يؤكّد خبرة يوميّة بمعايشة الجرائد: “كانت هناك 28 مطبوعة يوميّة في لبنان، أصبحت سبعًا اليوم!”، وينقل عن نقيب الصحافة الراحل محمّد بعلبكي أنّ عدد مطبوعات لبنان تجاوز الـ800 في عصرها الذهبيّ.
منظّفات ويانصيب
تحوّلات مهنة بيع الصحف رأيناها بأمّ العين في “كيوسك” محمود أبو الحسن، الذي يعاونه شقيقه بائعًا لأوراق اليانصيب، كمورد إضافي للرزق، إذ شاهدنا مجموعة من غالونات التنظيف، مركونة إلى جوار الكتب والمجلّات في زاويته المقابلة لمقهى “روسّا”، الذي كان الـ”كوستا”، ومن قبلهما كان الـ”هورس شو” أشهر مقاهي الحمرا.
“أنا هنا منذ أربعين عامًا، أبيع الصحف يوميًّا، وقد شهدت علامات الانحسار منذ العام 1997، لنصل إلى يومنا الحاليّ حيث يكاد شراء الصحف ينحصر بفئة الكهول وما فوق، هؤلاء الذين لم يغيّروا عاداتهم في معرفة الأخبار والتحاليل عبر الورق المحمول” يقول أبو الحسن لـ”مناطق نت”.
“برزخ” المكابدة اليوميّة
منذ ثلاث سنوات تأسّست مكتبة ومقهى “برزخ” في شارع الحمرا، بمبادرة من عناصر شبابيّة مثقّفة، مثل منصور عزيز الذي يتابع عن كثب جميع التفاصيل، فاتحًا حاسوبه المحمول، ليثبّت موعدًا هنا ويناقش اشكالية هناك. أمّا صَبا الصدر (حفيدة السيّد موسى الصدر) فتقوم بمتابعة شؤون المكتبة، مضمونًا وتنسيقًا، في حين يقوم خضر عيسى بالإشراف على تأمين طلبات الزبائن الراغبين بالقراءة، وكذلك طلبات القهوة والشاي.
“غالبًا ما تكون الأنشطة يوميّة هنا في المكتبة. ندوات وأمسيات شعريّة وقراءات في كتب وعزف موسيقى. الأمور ليست دائمًا على ما يرام، لكنّنا نعمل هنا كمناضلين لإثبات أنّ شارع الحمرا والبلد عمومًا يستحقّان الأفضل” يقول عيسى لـ”مناطق نت”، مؤكدًا أنّ الحرب على غزّة، وفي جنوب لبنان أثرّت بطبيعة الحال في بعض الأنشطة، لكنّ الجميع يفعلون ما يستطيعونه.
تتابع وليس تناسخ
نستطيع وصف الكاتب والناشر سليمان بختي (دار نلسن): إنّه من المحرّكين الفعليّين للأنشطة والندوات في الشارع الأشهر. يطبع، يناقش، يحاضر، ويجمع شمل الأدباء والمفكّرين في “مكتبة الدار” في شارع أنطوان الجميّل، المتفرّع من شارع الحمرا.
يقول بختي لـ”مناطق نت”: “نحن في صدد إصدار كتاب يتعلّق بذاكرة شارع الحمرا، لناحية التقاء المثقّفين ومجادلاتهم وصولاتهم. ليس تأريخًا كفعل قطيعة مع الماضي، إنّما محاولة لحثّ الجيل الشاب على استكمال الطريق، من دون أن يكون الأمر استنساخًا للماضي، فلكلّ زمان لغة وأدوات”. يشارك بختي في جميع التظاهرات الثقافيّة والشعبيّة في الشارع، حاجزًا مساحة صغيرة لكتب الدار، حتّى لا تكون الفعاليّات ترفيهيّة استعراضيّة حصرًا.
عودة سينما “كوليزيه”
كشكل من أشكال مقاومة التصحّر، يستكمل الممثّل والمخرج قاسم اسطنبولي عمليّات تأهيل دور السينما القديمة، التي بدأها في صور والنبطية ثمّ وطرابلس، وها إنّه يتابع مع مجموعة من المتطوّعين في “جمعيّة تيرو للفنون” عمليّة استصلاح سينما “كوليزيه” في الحمرا، بغية إعادتها إلى دورها السابق، مع قابليّة استقبالها للعروض المسرحيّة، فتتفاعل الأنشطة، مع مسارح ثانية مثل “مسرح المدينة”، الدائم الحركة.
يستكمل الممثّل والمخرج قاسم اسطنبولي عمليّات تأهيل دور السينما القديمة، التي بدأها في صور والنبطية ثمّ وطرابلس، وها إنّه يتابع مع مجموعة من المتطوّعين في “جمعيّة تيرو للفنون” عمليّة استصلاح سينما “كوليزيه” في الحمرا
جماليّات الريف على جدران المدينة
قليلة هي الصالات التي تستقبل معارض تشكيليّة في شارع الحمرا، بل إنّ معظمها يأخذ مكانه في الشوارع الفرعيّة، مثل صالة “أجيال”، و”النادي الثقافي العربيّ”، و”غاليري زمان”، و”دار الندوة” التي تستقبل معرضًا للفنّان حيدر حيدر، المهتمّ بفضاءات الطبيعة والمشهديّات النقية لزمن عرفناه في الكتب المدرسيّة وقصص مارون عبّود. حيدر يرسم الفلّاح والفارس والنهر وغابة السنديان. هي مفارقة في أن تحتّل تلك الأعمال مساحة من شارع الحمرا، الذي يمّثل مركزيّة المدينة بكلّ ما تحتويه من إسمنت وأرصفة وزجاج.
منذ بضع سنوات، تهتمّ بلديّة بيروت بتجميل العاصمة، مخصّصة مساحات ضخمة للوحات الفنّيّة المنفّذة على جدران الأبنية، بمساحات تحتلّ طوابق عديدة. هكذا تعاونت مع فنّانين لبنانيّين وعرب لإنجاز تلك اللوحات التي يختبئ بعضها خلف الأبنية الرئيسيّة، وبعضها الآخر لا يمكن رؤيتها إلا عندما نركن السيّارات في أحد مواقف الشارع.
إنّ لوحة المطربة صباح هي العمل الأشهر الذي يستقبلك في أوّل الشارع، بضحكتها المعروفة، المكلّلة بتخطيط حروفيّ عربيّ، أعطى البّورتريه بعدًا ثقافيًّا، ومتانة في الرسالة التي تحملها، إذ تمثّل صباح ثنائيّة الموّال التراثيّ والأغنية الإيقاعيّة الحديثة، وهي اختصار للبنان إذا جاز التوصيف.
برنامج “شارع الحمرا”
منذ أربع سنوات ونصف السنة، انطلق برنامج “شارع الحمرا” على قناة LT من إعداد وتقديم الإعلاميّ فراس خليفة، الذي بدا وكأنّه حارس من حرّاس الشارع، يتابع جميع تفاصيله وأحداثه وفعاليّاته، حتّى تلك التي لا تتقاطع وبرنامجه الذي يستقبل مثقّفين ومحرّكين للمشهد الثقافيّ، وغالبًا ما تكون تلك اللقاءات في أحد مقاهي الشارع أو إحدى صالاته. أمّا مقدّمات الحلقات فغالبًا ما يعتمدها على رصيف شارع الحمرا دامجًا العنوان بنسيج المكان، وإيقاعه النابض بالمارّة والسيّارات.
يقول خليفة لـ”مناطق نت”: “لم تأتِ تحوّلات شارع الحمرا بشكل مفاجئ، فتاريخيًّا لم يعرف الشارع حالة واحدة مستقرّة، -وهو شارع حديث بالمناسبة وليس من أعرق شوارع المدينة- فكانت له منذ الخمسينيّات مراحل صعود وهبوط وركود، لمجموعة عوامل وأسباب”.
ويتابع: “منذ نحو 15 سنة، يعاني شارع الحمرا من حالة ضمور، متراجعًا كدور ووظيفة، ولم يكن الأمر منحصرًا به، بل هي حال متّصلة ببيروت، الدور والوظيفة. بالموازاة برزت عواصم عربيّة أخرى في سياق غير مرتبط بما يحصل هنا بالضرورة”.
ويختم خليفة بكثير من التفاؤل: “هذا المختبر الذي يسمّى بـ “شارع الحمرا”، من الصعب إيجاده أو تصنيعه في أيّ مكان آخر، فهذا الشارع كجزء من رأس بيروت، يحتوي على خليط مدهش من الثقافات والأديان والجنسيّات. وما يعانيه الآن ليس نهاية المطاف، ولا يجب أن نغرق في حالات الإحباط. فقط علينا أن نفكّر ونبادر”.