تنميط الأوكرانيات.. بإعلام التفاهة

لم يشفع لأوكرانيا التي تعيش أياماً عصيبة على شفا حرب، جامعاتها وصروحها العلمية العالمية، وتراثها الغني في كل المجالات، وسهولها التي كانت تعتبر سلة حبوب الإتحاد السوفياتي، ولا ترسانتها النووية. لم يشفع لها أن مواد الحديد الموجودة في أراضيها تعتبر الأجود في العالم. لم يشفع كل ذلك لأوكرانيا لكي تصبح دولة عظيمة بعيون اللبنانيين، فبقيت في نظرهم أرض بغاء وسوقاً للجنس، وأن فتياتها هم الأجدر في ذلك. أيضاً لم يشفع لأولئك الفتيات امتشاقهن السلاح وارتدائهن الزي العسكري استعدادًا للدفاع عن بلادهن أمام الغزو الروسي المحتمل. فبقيت الصورة الأولى راسخة في عقول اللبنانيين لم تبددها الثانية، بل زادتها ابتذالاً وانحطاطاً وذلك أثناء تداولهم لتلك الصور.

إنه الإفراط في التنميط الذي يحكم نظرة اللبنانيين إلى الآخر المختلف، فيصبح ذلك الاختلاف نقيصة يعايرونه به ويكونون صورة نمطية عنه، تبدو أثناء الترويج المكثف لها أحد أكثر أشكال العنصرية فجاجة في تنميط الآخر وازدرائه. هذا التنميط البغيض الذي يمارسه اللبنانيون شفاهة وتناقلاً للصور تعليقاً وسخرية، لم يقتصر على ذلك بل تعداه إلى التوثيق والإعلان بشكل رسمي عن ذلك التنميط. وقد جاء على لسان صحيفة ميزتها أن صاحبها هو نقيب الصحافة الذي يفاخر أن سلطتها هي رابعة في ترتيب السلطات.

الإعلان الذي نشرته جريدة “الشرق” لصاحبها الكعكي ووضعته في إحدى صفحاتها هو عبارة عن صورة لفتاة أوكرانية تعمل في مجال الإعلان Top model وتظهر الكثير من مفاتنها، مع العنوان التالي “عمل انساني، تبنوا أوكرانية لحمايتها من الإحتلال الروسي”. بالطبع الإعلان لاقى استنكاراً واستياءً واسعاً، وأيضاً احتجاجاً من السفير الأوكراني في بيروت. بالتأكيد إدارة جريدة الكعكي لم تنشر الإعلان بشكل عفوي وهي تدرك تماماً أنه سيلقى مثل هذه الردود، لكن الصحيفة تمعن في ذلك طمعاً بالسكوب والترند اللذين يلهث وراءهما جزء كبير من وسائل الإعلام، وأصبح تقليداً لا يقف عند مستوى أو حد، بل هو مباح طالما يخدم الغاية منه. لكن بالتأكيد جريدة الكعكي لم تكن تتجرأ على ذلك لو أن الموضوع يتعلق بجهة غير أوكرانيا، فعندها سيحسب الكعكي ألف حساب، لكن مع الأخيرة فإن “الشرق” تستفيد من قدر التسامح الكبير الذي تؤمن به تلك البلاد، فيستغله الكعكي ابتذالاً وانحطاطاً.

بعيداً عن المعايير الإعلامية والأخلاقية المستندة إلى القانون والتي على ما يبدو لم يسمع بهما الكعكي، فإن بناء السخرية على مصائر الأوطان وأوجاعها فهو بلا شك أعلى مراحل الإسفاف الذي ممكن أن يصل إليه أحد، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بمصير شعب بأكمله يعيش لحظات رعب وخوف، جراء ما ينتظره من أيام سوداء يبدو أن الكعكي لم يعشها في بلده الذي مزقته الحروب وما زالت مستعرة بأشكال مختلفة حيث الإنقسام السياسي لا زال على أشده والانهيار الإقتصادي يرزح بثقله على كاهل اللبنانيين الذين يبحثون دون هوادة عن طريق للفرار منه. نسي الكعكي أن بلده يعيش الآن على التسول والاستعطاء، وأنه لولاهما لكان الناس جوعى في الطرقات وربما أكثر.

المفارقة أن جريدة الكعكي وهي صحيفة في النهاية، لم تعرف أو تعرف والأمر سيان، أن الفتيات الأوكرانيات اللواتي تنمطهن صحيفته، سينتج عن الحرب في حال اندلعت في بلادهن أزمة غذاء ستطاول العالم وخصوصاً بلدان الشرق الأوسط ومنها لبنان. جريدة الكعكي لا تعرف أن جامعات أوكرانيا احتضنت آلاف الطلاب اللبنانيين حيث عادوا منها أطباء ومهندسين وحملة إجازات، وهم بمعظمهم من عائلات فقيرة، شاءت الظروف أن يشقوا طريقهم إلى هناك بعدما كانت تلك الإختصاصات حكراً على أبناء الأغنياء والطبقات الميسورة. الكثير من أولئك الشباب تزوج بأوكرانيات عادوا معهم إلى لبنان ويعيشون هنا كنساء يمارسن أعمالهن المتنوعة كربات بيوت وكعاملات واكتسبن الجنسية اللبنانية.

التنميط الذي يرى اللبنانيون غيرهم من خلاله لا يقتصر على الأوكرانيات وحدهم، بل هناك صوراً نمطية أخرى جاهزة للكثير من الجنسيات التي يحتكون بها ويتعاملون معها، وهي لا تقف عند حد أو مستوى فهناك التنميط المهني الذين يسمون به العاملات والعمال الأجانب حيث يجردونهم من أي جانب إنساني آخر. وهذا ينطبق على السوري من أنه عامل بناء أو في الحقل الزراعي، أو المصري كعامل في محطات الوقود أو السوداني كناطور، أو السيرلانكية والأثيوبيية كعاملات منازل وغيرها من الصور النمطية التي تجرد كل هؤلاء من كونهم بشر وحصرهم في تلك الجوانب فقط.

ما جاهرت به “الشرق” لصاحبها نقيب الصحافة عوني الكعكي في تنميطها للأوكرانيات بأنهم فتيات بغاء، ليس نموذجاً يتيماً محصوراً بالكعكي فقط، بل هو ثقافة مجتمعية تنبذ الآخر المختلف وتنمطه تبعاً لصورة هي في الحقيقة تختزل أبعاداً إنسانية عميقة ومعاناة هي التي فعلت فعلها في صناعة تلك الصورة.

أيضاً الإيحاء في الإعلان “عمل انساني، تبنوا أوكرانية لحمايتها من الإحتلال الروسي” يكتنز الكثير من الإيحاء المبتذل وهو يعبر عن عقلية قبلية تعود لمئات السنين وعمادها الغزو والسبي واللذان على ما يبدو لا يزالان يتحكمان بعقلية الكعكي وجريدته. ما نحتاجه اليوم في هذا المستنقع الذي نعيش فيه، قوانين صارمة تضع معاييراً أكثر صرامة تجرم كل ما قاله الكعكي وما قد يقوله أمثاله، وتحمينا من إعلام أقل ما يقال فيه أنه تافه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى