جبشيت الجنوبية بين زمنين في ذكريات السيد هاني فحص

عن ماضٍ لا يمضي يكتب الراحل السيّد هاني مصطفى فحص المولود في العام 1946، والمتوفي في العام 2014 ، أمه فاطمة عباس فحص، رقم سجل قيده 158 جبشيت قضاء النبطية، التي قال عنها الإمام المصلح السيّد محسن الأمين في خطط جبل عامل أنها “قرية من قرى الشقيف قرب النبطية، سكنها من العلماء الشيخ أبو خليل الزين وذريته الأفاضل والسادة من آل فحص”.

يكتب الشيخ في صيغة ذكريات “بين التبغ والزيتون والزعفران” (2010) من دون تسلسل زمني صارم، بشفافية عالية وبوح بلغة الأدب الرفيع، يروي أيامه ولياليه، كما فعل الأديب المصري طه حسين. ولا يضع في اعتباره مدح نفسه، بل الكلام عما شهده من حوادث، أفضى معظمها الى “خيبات” وهي كثيرة. وهو المتحدر من صفوف الفلاحين، وإن لم يعد منهم، كما يقول، فهولاء ينشرون الفرح و”ينشرح صدرنا عندما يأتون الينا، لأنهم يرممون ذاكرتنا عنا فيرممون مشاعرنا ويمنحوننا توازناً، ويجددون قدرتنا على الشعر والحب”.

بلدة جبشيت الجنوبية، مسقط رأس السيد هاني فحص
البيوتات الريفية

هذا الشيخ الدارس في النجف الأشرف في العراق، قُبلة التعلم الديني آنذاك، رأى الى التمايز الحاصل في البيوتات الريفية بسبب من “التحصيل العلمي”، إذ “يُحدث فاصلاً في المظهر والحركة واللغة امتداداً الى القيافة وترتيب المنزل والأرض المحيطة به”، فكان العلم وسيلة ترف لغير الميسورين، غير المعتمدين على ثروة عقارية تنتقل اليهم عبر الإرث. كما مثلت الأحزاب وسائل أخرى، فخاله مصطفى انتسب الى الحزب السوري القومي الإجتماعي ثم غادره، ولم يسمع السيّد عن أي شيوعي في قريته، في حين أن الشيخ علي الزين، العلامة الكبير، الباحث عن “تاريخ جبل عامل”، كان نصيراً لحزب البعث.

ومن آيات الفلاحين الحميدة مشاركة المرأة للرجل في كل شيء، في أمور العمل والمنزل، يزرعان ويشّكان ويقطفان معاً شتلة التبغ التي غدت رمزاً لتعب وشقاء الفلاحين في الجنوب اللبناني، ومعاناتهم المزدوجة أو قل قهرهم من شركة “الريجي” ووكلائها وعملائها ومن ثم الوقوع تحت رحمة الموسم. وينبه ابن جبشيت الى ما أحدثه الإنصراف الى هذه الزراعة وحدها من تعطيل لأمور زراعية كثيرة، منها: منع الإكثار من زراعة العنب أو الرمان في القرية واللوز والجوز والمشمش، وما اقتضاه الأمر من قطع أشجار التين والزيتون.

علائق جديدة

يتحدث الشيخ الجليل عن التغير الذي طاول قريته، بسبب التهديم الإسرائيلي المتكرر، وغزو الباطون العامودي، فالجامع، على ما اعتادت مسامعنا، أصبح اسمه “المسجد” وذلك “بعد انتشار اللغة الفقهية”، حيث كان يتعامل فحص معه كأنه له “أو لنا، وكذلك الحسينية التي لم تعد لنا، لأنها مسيسّة ومشوهة في الوظيفة وأنماط العلائق بها”.

يتحدث الشيخ الجليل عن التغير الذي طاول قريته، بسبب التهديم الإسرائيلي المتكرر، وغزو الباطون العامودي، فالجامع، على ما اعتادت مسامعنا، أصبح اسمه “المسجد” وذلك “بعد انتشار اللغة الفقهية”، حيث كان يتعامل فحص معه كأنه له “أو لنا، وكذلك الحسينية التي لم تعد لنا، لأنها مسيسّة ومشوهة في الوظيفة وأنماط العلائق بها”.

والى التعليم الذي تلقاه، في المدرسة، ولاحقاً في الحوزة، واظب فحص كما المعلم الأول، القارىء في كتاب الطبيعة، على “قراءة الأرض وعاداتها وأترابها بكل ألوانه، وحصاها وأنواعه وصخورها وأشكالها”.

وبدا الشيخ في يفاعته منجذباً الى الكتابة في لغة مختلفة عن المألوف في الحوزة، ما اثار حفيظة الآخرين، ولا سيّما الكسالى منهم، وهذا بزعمه، موجود في كل المؤسسات، بغض النظر عن هويتها الطائفية “حيث يسود الحسّد وتقل الغبطة”. وتبقى القرية في البال، ولو بعدت المسافات، ويبقى النأي عنها والترحال الى مدن الله الواسعة فرصة مفتوجة لـ”الإبداع والتغيير والتعارف والتثاقف”، وتظهر العودة اليها بعد حين من الهجر مناسبة لإعادة تشكيل النفس “على المكونات الأولى” فالـ”القمر قمرها والشمس شمسها والزمان زمانها”، وحين يدرك  الشيخ الملل يجلس الى شتلة تبغ عالية مميّزة يبثها الشكوى.

ولأن الأموات يمسكون بتلابيب الأحياء، أو قل يسكنوهم، فلا بد للأم والأب من الحضور، وخصوصاً الأب الماثل في جنبات الولد، يذكر فضائله، اذ تركه “طفلاً في البرية، وفتى في الحرية”.

شهر رمضان وبساطة استهلاله

يستذكر السيّد المعمم شهر رمضان في القرية وبساطة استهلاله، فمن رأى الهلال يذهب إن شاء الى مدينة النبطية يدلي بشهادته، حيث يخضع للإستجواب من قبل الشيخ فيها، فالناس تعرف بعضها بعضاً، والدين يمنع من الكذب، وما إن يؤذن المؤذن بالهلال يصوم الناس، ولا داع للجدل والمماحكة الفقهية ولم يكن من فرق” بين الحكم والفتوى”، ولم تحضر عبارة “يوم الشك” على الألسن، ولا فكرة السفر احتياطاً بداعي الإفطار، فذلك لم يكن ميسوراً لأكثر المؤمنين، وكان اتفاق العلماء تيسيراً لشؤون العباد والبلاد. 

وفي مقارنة لافتة وصائبة بين ذلك الماضي الجميل، حيث العيش مع الأهل “في سائل زمني متصل” وبين الجيل الجديد  اللاهي حيث “تبدو أوعية لا تتصل ولا تستطرق”. وحاضر القرية مؤلم، والقطيعة معها تلوح خياراً في الأفق بسبب “ذمامة العصبية السياسية النابذة”، هذا وتؤدي وغلبة عصبية الحزب الواحد الى “خراب اجتماعي وثقافي”، ومن المهم بالنسبة له الحفاظ على القرى بعيداً من التعصب، حيث يتقدم الآن الشأن السياسي على الشأن العلمي في ما خص العلاقات بين الأفراد، فقد غاب الفرح وساد الحزن، واذا ألفى نظرة على بيوت الحيّ وجدها “تتشح بالصمت، مقفلة الأبواب على قلوب مقفلة ومضربة عن كلام المحبة”، ما انعكس على مزاج الشيخ، حين استذكر غناء الأطفال وتوقهم الى العيد  وفرحته، مُنشدين” بكرا العيد…بنعيد، وبندبح بقرة السيد، والسيد ما عندو بقرة، مندبح بنتو هالشقرة”. فيُطلقها صرخة مدويّة يأساً من راهن الأيام:” إن السيد مذبوح هذا العيد، والعيد الذي مضى، والأعياد الآتية”.

حاضر القرية مؤلم، والقطيعة معها تلوح خياراً في الأفق بسبب “ذمامة العصبية السياسية النابذة”، هذا وتؤدي وغلبة عصبية الحزب الواحد الى “خراب اجتماعي وثقافي”، ومن المهم بالنسبة له الحفاظ على القرى بعيداً من التعصب، حيث يتقدم الآن الشأن السياسي على الشأن العلمي في ما خص العلاقات بين الأفراد، فقد غاب الفرح وساد الحزن، واذا ألفى نظرة على بيوت الحيّ وجدها “تتشح بالصمت، مقفلة الأبواب على قلوب مقفلة ومضربة عن كلام المحبة”
معجم الفلاحين والأرض

لا تنفك تعمل ذاكرة الفلاح عند السيّد فتطفو على السطح صورها وأبجديتها، بدءاً من عين الماء وشحها في الصيف، وما تفرضه من تقنين في الإستخدام، الى البركة حين تفيض فتخصب الحقول والسهول، الى البقرة وطقوس حلبها وتوالدها و”السمخ” أي لبن ما بعد الولادة وتحوله الى “لباء أو الشمندور”، الى الغنم والماعز، وأنواع الشجر وثمارها ولا سيّما التين “البقراطي” المبكر و”العسلاني” و”البيضاني” و”الحمراني”، وأيامها لم يكن التين ليُباع، اذ “كان قيمة لا شيئاً فحسب”، أما الرمان فكان موضوعاً للسرقة وكأنه في تدليه في الحدائق يستفز الصبية المارين، والعنب يفضله الصغار حُصرماً يغزون على حباته بعيداً من أعين أصحاب البساتين، ويظهر من قول السيّد هاني “إن قلة العنب كانت مانعاً من موانع التكارم فيه”، بعكس نبتة الصبير المتاحة للأيدي العابرة والمنح. أما الزيتون، تلك الشجرة المباركة، فقد عايّن منها “البلدي” و”الطلياني”، أما الصعتر الممزوج بالسماق والغارق في الزيت فهو الإفطار، وأتى ذلك ارتقاء “من الخبز مع الشاي والخبز مع الزيت وحده”. وأما القمح، ذو السنابل الذهبية، فيُعرف منه “الحوراني” و”الطلياني”  و”البلدي” (أو الدوشاني)، ومن بعد حصاده يُزرع الشعير، وبعده يُزرع العدس والكرسنّة والفول والبازلاء، ويروي السيّد طقوس الزرع والحصد، وتبقى الأرض عشيقة  الفلاح، حتى أن النسوة كانت تغار منها، وبعضهن يطلبنها مهراً.

تغيّر الأحوال

لكن، لا شيء يبقى على ما هو، وسبحان مغيّر الأحوال. فمع نهاية الخمسينات من القرن المنصرم، ومع وصول الزفت وشق الطرقات واتصال القرى بالمدن وبالأسواق، ومد خطوط الكهرباء، وبدء البث التلفزيوني وانتشار الأجهزة الكهربائية مثل الثلاجة والغسالة والأطعمة المصنّعة، دخل الريف اللبناني عموماً، والجنوبي أيضاً، في مرحلة من التحديث. فهجر أكثر الفلاحين الأرض بحثاً عن عوائد أفضل، وغدت جبشيت القريّة ذكرى في خاطر “أبو حسن” المقاوم منذ البدايات، كما ابن بلدته الشهيد الشيخ راغب حرب الذي اغتالته اسرائيل في 16 شباط من  العام 1984على يد عملائها إبان احتلالها الجنوب اللبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى