جدل حول ترميم حارة المآذنة في أحياء صيدا القديمة
لم يبقَ ترميم الواجهة البحريّة في مدينة صيدا يتيمًا، بعد أن قلب المشهد رأسًا على عقب، إذ بادرت “جمعيّة محمّد زيدان للإنماء” بدءًا من العام الماضي إلى ترميم حارة المآذنة في حيّ المسالخيّة داخل المدينة الأثرية القديمة، وهي حارة داخليّة تسكنها أكثر من 25 عائلة في 25 بيتًا متفاوتة الأحجام. وبعد ترميم جدران الحارة تحولت إلى مكان يقصده زوّار المدينة القديمة لمشاهدة جماليّة مميّزة من البناء المعماري الأثريّ الذي تزهر به حارات صيدا التاريخيّة.
تضمّنت عمليّة الترميم جميع الجدران الخارجيّة للحارة بالإضافة إلى مداخل المنازل، باستثناء زاوية صغيرة في أحد زواريب الحارة ويبدو أنّها سقطت سهوًا. كما جرى ترميم أقسام من المنازل الموجودة، وخصوصًا أرضيّة المداخل وبعض الغرف، والحمّامات (المراحيض). وقد استغرقت عملية الترميم عامًا كاملًا.
لا توجد دراسات تاريخيّة في المدينة تحدّد عمر بناء منازل حارة المآذنة، لكن اللافت للنظر، أنّ “خان الفرنج” بني العام 1548 عند طرف مدينة صيدا آنذاك، وهذا يعني أنّ الحارات القديمة بنيت قبل هذا التاريخ، إضافة إلى ما كان يطرأ عليها من زيادة وإزالة، وصولًا إلى العام 1831، تاريخ حملة إبراهيم باشا حيث استقرّ نمط أبنية الحارة والمدينة القديمة إلى الزمن الحاليّ مع تعديلات بسيطة.
ترميم جزئيّ أم كلّيّ؟
تتعدّد العائلات القاطنة في الحارة، منها: الظريف، حجازي، الأسود، البيضاوي، نضر وغيرها. جالت “مناطق نت” في الحارة والتقت عددًا من أصحاب المنازل، ممّن أبدوا شكرهم لجمعيّة “محمّد زيدان للإنماء” على ما قامت به من ترميم وتأهيل لشوارع الحارة، ويلفت عدد من قاطني المنازل النظر إلى أنّهم كانوا يفضّلون أن تكمل الجمعيّة أعمالها بترميم وتأهيل المنازل من الداخل، “لأنّ الأهالي ما زالوا يعانون من مشكلات عديدة في الأبنية، خصوصًا من تسرّب المياه من الأسقف والأسطح الداخليّة”، لكنّ بعضهم أكّد أنّ الجمعيّة قامت بإصلاح داخليّ في عدد من المنازل.
تقول سوسن الديماسي، أرملة حسين خرام لـ”مناطق نت”: “لا بدّ من أن أشكر مؤسّسة زيدان على ما قامت به من أعمال لتحسين أوضاع الحارة، وإصلاح بعض المنازل من الداخل، لكن ليس كلّها. قالوا لي إنّهم يرغبون بذلك، إنّما المشكلة تكمن في الموازنة المرصودة، واكتفوا بتبليط أرضيّة مدخل منزلي، ولم يكملوا تبليط الغرف، على كلّ حال، كلّ الشكر لهم”.
وتضيف أم خالد الظريف المقيمة في الحارة في حديث إلى “مناطق نت”: “من الجيّد أن يشعر البعض بأوضاعنا، وهذا ما حصل مع مؤسّسة زيدان، التي أصلحت وحسّنت الحارة. لقد رمّموا بعض المنازل من الداخل أيضًا، وأقسامًا من منازل أخرى. وبالنسبة إليّ، لقد رمّموا غرفة نوم ابني وبنوا حمّامًا جديدًا فيها، كلّ الشكر لهم على ما فعلوه”.
يلفت عدد من قاطني المنازل النظر إلى أنّهم كانوا يفضّلون أن تكمل الجمعيّة أعمالها بترميم وتأهيل المنازل من الداخل، لأنّ الأهالي ما زالوا يعانون من مشكلات عديدة في الأبنية
الترميم بين البلديّة و”الآثار”
من جهته علّق مهندس بلديّة صيدا الدكتور زياد الحكواتي حول هذه الملاحظات لـ”مناطق نت” بالقول: “عندما تقترح إحدى الهيئات أو الجمعيّات مشروعًا للترميم والتأهيل، تُعطي البلديّة موافقتها بعد دراسة المشروع، وتحيله إلى الجهة المعنيّة، أيّ إلى مديريّة الآثار المعنيّة بالإشراف ومراقبة أعمال الترميم”. ويتابع الحكواتي: “أمّا بخصوص الترميم في داخل المنازل فهي مسؤوليّة المقيمين فيها، وليست مسؤوليّة البلديّة، والقيام بهذا الجزء أو عدم القيام به يعود إلى اصحاب المشروع المقدّم”.
بدوره أوضح رئيس “جمعيّة محمّد زيدان للإنماء”، الدكتور حاتم خضر بديع، لـ”مناطق نت”: “أنّ الجمعيّة تهتمّ بتحسين الظروف المعيشيّة لسكّان صيدا من خلال تنفيذ مشاريع ترميم وصيانة للمنازل المتضرّرة”. ويضيف بديع: “تعتمد الجمعيّة على تمويل خاصّ لضمان تنفيذ هذه المشاريع بشكل مستقلّ ومن دون أيّ تأثيرات خارجيّة، وهي غير ملزمة بأيّ أعمال إلّا تلك التي تراها ضروريّة ومناسبّة”.
معايير الترميم
ويشير بديع إلى أنّ الجمعيّة: “تقوم باختيار المنازل التي تنوي ترميمها كلّيًّا أو جزئيًّا، وذلك وفق معايير خاصّة بالجمعيّة، ثمّ تبادر إلى الكشف على المنازل وتحضير خطط ترميميّة وصيانة تتماشى مع الميزانيّة المتاحة، إذ يتمّ الالتزام بتنفيذ الأعمال التي تراها الجمعيّة ضروريّة ومناسبة فقط، ولا تتحمّل أيّ التزامات إضافيّة خارج نطاق هذه الأعمال. أيضًا، تقوم الجمعيّة بإعلام القاطنين داخل المنازل عن الأعمال التي ستنفّذ لضمان الشفافيّة والتعاون، إضافة إلى ذلك لا تقوم الجمعيّة بترميم أو إنشاء أيّ مخالفات بناء، لضمان احترام القوانين والتشريعات المحلّيّة، وهي غير مسؤولة عن مشكلات النظافة العامّة أو مكافحة القوارض”.
صيدا ستة آلاف عام
أظهرت الحفرّيات الأخيرة التي حصلت قبل أعوام عند البوّابة الفوقا المعروفة باسم بوّابة عكّا في صيدا، أنّ عمر هذه المدينة يعود إلى أكثر من ستة آلاف عام. وبيّنت الحفريّات كذلك أنّها من أولى المدن التي بنيت على الساحل الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط. ويصفها عديد من المسؤولين “بأنّها كنز ثمين يجب استثماره سياحيًّا وتاريخيًّا”. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ صيدا لم تحظَ تاريخيًّا باهتمام السلطات، سواء المحلّيّة أو المركزيّة المتوالية.
لقد تعرّضت صيدا إلى تبعات زلزال العام 1956، أدّت إلى تدمير وإلحاق ضرر بأكثر من 400 منزل في أحياء عدّة من المدينة، خصوصًا حيّ رجال الأربعين وحي الزويتيني، وبدلًا من إعادة بناء ما تهدّم وترميم ما أصيب من أبنية قديمة وتاريخيّة تشكّل جزءًا من الإرث الثقافيّ والمعماريّ للمدينة، أقدمت مصلحة التعمير آنذاك على إزالة ما تهدّم وأصيب، وتشييد مبانٍ حديثة لا علاقة لها بتاريخ أبنيّة المدينة العتيقة. وقد علّق أحد المهندسين الكبار في لبنان حينذاك المهندس الراحل بهاء البساط على ما حصل بعبارة “لقد ارتكبت السلطة خطيئة لا تُغتفر”.
بعد العام 1992، بدأت منظّمات وجمعيّات دوليّة ومحلّيّة ترميم وتأهيل شوارع وساحات أساسيّة في المدينة القديمة، بالإضافة إلى ترميم جزء من الواجهة البحريّة أيضًا، إلّا أنّ عمليّات الترميم والتأهيل هذه لم تستند إلى مخطّط توجيهيّ عامّ معتمد من السلطات المحلّيّة بالتشارك مع المجتمع المحلّيّ، إذ إنّ عمليّات الترميم استندت إلى مشاريع غير مترابطة في ما بينها، قامت بها منظّمات دوليّة وجمعيّات محلّيّة مختلفة.
آراء وتعليقات
في ختام الجولة يقول أحد المهندسين المعماريّين المهتمّين (آثر عدم ذكر اسمه)، لـ”مناطق نت”: “إنّنا نقيّم إيجابًا ما يحصل من ترميم، وعلى الرغم من أهمّيّة ما يجري تحقيقه بالمفرّق من ترميم ومن إظهار للإرث الثقافيّ والمعماريّ والتاريخيّ لأبنية في صيدا العتيقة، لكن ما يمكن ملاحظته أنّ هذه الأعمال تقتصر على جدران أبنية وساحات شوارع رئيسة، من دون أن تولي المنظّمات والجمعيّات أيّ اهتمام بالحارات الداخليّة والمنازل الموجودة في داخل الحارات المذكورة”.
ويتابع المهندس عينه: “من المفيد في أعمال الترميم بذل المزيد من الجهد والدراسة لإعادة المباني إلى شكلها الأساس وإزالة الإضافات التي تشوّه المنظور المعماريّ وتفقده القيمة الجماليّة، فالحجر الرمليّ بحاجة إلى ترميم بخصائص مهنيّة محدّدة”.
ورأى أحد الناشطين في صيدا القديمة تعليقًا على ما يحصل من أعمال: “أنّ ما يحصل مهمّ جدًّا لكنّه غير كافٍ لتطوير وتنمية المدينة، فإلى جانب تأهيل الحجر يجب العمل على تمكين البشر، ومدّهم بالإمكانات المطلوبة لتحسين أوضاعهم الاجتماعيّة والمعيشية”.
ختامًا، على الرغم من أهمّيّة ما يحصل من أعمال ترميم وتأهيل، لكنها تبقى ناقصة طالما أنّها لا تشكّل جزءًا من مخطّط توجيهيّ متكامل، حيث تأتي الأعمال لتكمل بعضها البعض وترتبط بسياسة تنمويّة اجتماعيّة واحدة.