جمعيات بعلبك الثقافية.. نحو مساحات آمنة يصنعها شباب

بعلبك هي المدينة المكسوة بوشاح القرى، إلى الآن يعتبرها أبناؤها -خاصة الشباب منهم- مجرّد “ضيعة” بعيدة عن كلّ مستلزمات العيش، فينزحون إلى بيروت لاستكمال دراستهم الجامعية من جهة وذلك لانعدام وجود الجامعات، وللإنخراط في الحياة الاجتماعيّة-الثقافية التي يفتقدونها من جهة أخرى. فالشباب محكومون بفورة حماسيّة اندفاعيّة خاصّة متعطّشة دائمًا للمعرفة، الّتي وإن استُثمِرَت تحرّك كلّ ما حولها. وإن لم تُستثمَر كانت النتيجة حال بعلبك والشباب البعلبكي الّذي لم يجد مكانًا في مدينته للبقاء.

وهذا ما تغيّر وتبدّل في السنوات الأخيرة، حيث بدأت تظهر جمعيات ونواد ثقافية تعمل على استقطاب فئة الشباب تحديدًا، إضافة إلى تسليط الضوء على قضاياهم، ومنحهم فرصة أن يكونوا فاعلين ومؤثرين في بيئتهم على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والنفسي. أدّى فعل التراكم هذا إلى تحسين واقع الشباب في بعلبك، وخلق العديد من الفرص للجيل الجديد تحديدًا، الأمر الذي عزز حبهم وانتماءهم لمنطقتهم.

اللّقاء الثقافي

على صعيد المبادرات العفوية، انطلق منذ ثلاث سنوات في بعلبك تجمع شبابي تحت عنوان “اللقاء الثقافي” حيث يضم اليوم حوالي 240 شابًا وصبية من بعلبك وضواحيها، تتراوح أعمارهم بين 17 و 30 عامًا. ينظم اللقاء جلسات أسبوعية لمناقشة مواضيع عدة منها عرض ومناقشة الكتب والأفلام، مواضيع ثقافية وتاريخية، معلومات عامة، موسيقى، دورات في المسرح والتمثيل، ورشات فنية وتدريبية وغيرها. كما يخصص اللقاء أمسيات شعرية شهرية حيث يستضيف شعراء وكتّاب لبنانيين وعرب من بينهم الشاعر شوقي عبد الأمير والسجاد السلمي والكاتب الفلسطيني سعيد أبو نعسة وغيرها من الأسماء المرموقة في عالم الشعر والأدب.

بعلبك هي المدينة المكسوة بوشاح القرى، إلى الآن يعتبرها أبناؤها -خاصة الشباب منهم- مجرّد “ضيعة” بعيدة عن كلّ مستلزمات العيش

أفسح اللقاء الثقافي المجال للكثير من الشعراء والكتّاب الجدد من خلال احتضان مواهبهم وتوجيهها فيشركونهم بالأمسيات وبتنظيم ومتابعة توقيع كتبهم ونشر أعمالهم في موقع اللقاء الثقافي الالكتروني. كما أطلق اللقاء مسابقة “أحمد رحّال الشيباني” للقصة القصيرة حيث وصل عدد المشاركات إلى حوالي 600 من لبنان والعالم العربي. يشير “أحمد شيبان” أحد مؤسسي اللقاء الثقافي لـ “مناطق نت” أن اللقاء يطمح للوصول الى أكبر عدد من الشباب في البقاع حيث اتضح أن الهم الثقافي عند أبناء هذه المنطقة ليس هامشيًا بل إنّه من أساسيّات الحياة خصوصًا عند الفئات الشابة الصغيرة المشحونة بالطاقة والاندفاع للمعرفة.

من أنشطة اللقاء الثقافي

يظلّ الشباب مشحونًا دائمًا بالأفكار الجديدة الّتي تتحوّل عادةً إلى قوة تغييريّة مركزيّة. منح اللقاء الثقافي وأمثاله فرصة التحدث لهؤلاء الشباب، لأنه شكّل مساحة آمنة لطرح كلّ الأفكار. تقول “مريم أبو خضر” (١٩ عامًا) وهي من سكان زحلة، إنها تتكبد عناء الطريق إلى بعلبك أسبوعيًا لكي تشارك في جلسات اللقاء لأنها وجدت مساحة آمنة للتعبير عن ذاتها والدعم والتوجيه الكافي في مجال الثقافة والأدب. تضيف: “كلنا لدينا أفكار بداخلنا إذا لم نعبّر عنها تموت. اللقاء الثقافي كان المكان الذي أستطيع أن أحكي فيه عن أفكاري التي لا أعبّر عنها في محيطي لأنّهم لا يفهمونني”.

Uspeak

من الجمعيات التي عرفت بنشاطاتها التربويّة، هي جمعية يوسبيك (USPEaK) والتي تعرّف عن نفسها كمنظمة تقودها النساء. منذ عام 2015 عملت يوسبيك على تمكين الشباب والنساء وإشراكهم في الحياة الاجتماعية وصنع القرار حيث وصلت الى أكثر من 2400 امرأة و1000 شاب. أطلقت المنظمة مشروع “أكاديمية القادة” التي تستهدف الفئات الشابة في بعلبك والذي يضم دورات مكثفة في الكمبيوتر والبرمجة واللغة الانكليزية والثقافة والحضارات وريادة الأعمال.

تقول مؤسّسة الجمعية “روان ياغي” لـ “مناطق نت: “نحن نستخدم التربية والتعليم لبناء ثقافة مجتمعية عند الشباب والنساء كي ينخرطوا في الحياة الاجتماعية، هذه هي الديمقراطية الحقيقية”. تعمل  المنظمة على تطوير مشروع اللغة الانكليزية المتقدمة للنساء حيث تفسح المجال أمام النساء من مختلف المناطق اللبنانية للحصول على فرص توظيف أكبر من خلال تعلّم اللغة الانكليزية.

روان ياغي: نحن نستخدم التربية والتعليم لبناء ثقافة مجتمعية عند الشباب والنساء كي ينخرطوا في الحياة الاجتماعية، هذه هي الديمقراطية الحقيقية

لم تغب الجمعيّة عن كلّ نواحي المجتمع البعلبكي، فاهتمت بالأعمال البيئية في بعلبك-الهرمل بحيث أتاحت للشباب فرصة المشاركة بالأنشطة البيئيّة، ما عزّز وعي هذه الفئات حول أهمية المحافظة على الثروة البيئية في المنطقة. كما تهتم المنظمة بالصحة النفسية حيث تقدم الدعم للشباب من خلال جلسات تثقيفية تتمحور حول أهمية التركيز على الصحة النفسية والاهتمام بها من خلال إعطائهم مساحة آمنة للتعبير عن مشاكلهم.

من أنشطة Uspeak

كلّ هذه الأنشطة الّتي كانت غائبة لسنوات حوّلتها الجمعيّة إلى دافع شبابيّ مركزيّ، فصار البعلبكيّ مشاركًا ومنغمسًا في مدينته بل مسؤولًا عنها، إمّا من خلال تعزيز شعوره بالإنتماء إليها لناحية الإرتباط بهذه النشاطات، وإما من خلال معرفته بها وبتاريخها وبجمالها أكثر. تقول “نورهان أمهز” (٢٩ عامًا)، والتي تلقت دورات مكثفة عن بعلبك وحضاراتها ضمن مشروع “أكاديميّة القادة” في جمعيّة “يوسبيك”، إنها اليوم تحقّق أهدافها من خلال العمل على كتيّب عن بعلبك-الهرمل وعن الآثار التاريخية في المنطقة. كما إنّها ستطلق عما قريب وكالة سياحية في بعلبك تهدف إلى تنظيم جولات سياحية لتعريف الزوّار وحتى المقيمين على غنى هذه المنطقة بالمعالم والحضارات التاريخية.

جمعيّة “كَرَم الإنسانيّة”

جمعية كَرَمَ الانسانية (Karama Association) هي من الجمعيات التي برزت منذ ما يقارب السنتين، تعبّر عن نفسها بشعار “كفاءةٌ رعت مجتمعًا”، الذي يحمل في طيّاته عددًا من الأهداف التي تسعى إلى نهوض المجتمع من خلال نهوض شبابه. يقول مدير الجمعية “حمزة دياب” لـ “مناطق نت”: رسالتنا خدمة الإنسان لمجرد كونه إنسانًا يستحق العيش الكريم تماشيًا مع النهج القائم على حقوق الانسان”.

كَرَمَ

تضم الجمعية أكثر من 70 متطوّع ومتطوّعة من فئة الشباب في بعلبك، في حين تم استهداف أكثر من 200 شاب وصبية خلال الأنشطة التي تقوم بها الجمعيّة في المنطقة. على صعيد الصحة العامة، نظمت برامج عدة، ودورات تثقيفية بما يخص الأمراض المعدية والصحة الانجابية والتغذية، والإسعافات الأولية وغيرها.

في ظل الواقع الذي نعيشه محمّلين بضغوطات نفسية هائلة عملت كَرَمَ على تطوير ودعم الصحة النفسية في بعلبك، حيث أخذت على عاتقها مسؤولية تقديم الدعم النفسي الاجتماعي للشباب والقيام بحملات توعوية، وأنشطة للتفريغ النفسي. كما عملت على إشراك الشباب البعلبكي في العمل الاجتماعي كتقديم الدعم للفقراء ورفع كفاءة الشباب الذي بدوره يخفف نسبة البطالة. وتوسعت نشاطاتها لتشمل الجانب الإعلامي لنقل وجه المدينة الحضاري، والجانب التربوي لدعم الطلاب والأساتذة.

تقول “آلاء” (٢١ عامًا) أنّها كانت تعيش في دوامة من العزلة والإكتئاب بعد أن سرقت منها الحياة أختها. وتتابع: “لقد تحولت إلى شبح، لم أغادر غرفتي. أما اليوم، أصبحت أدير نشاطات تخص الصحة النفسية والتربوية وأطمح أن أكمل دراستي لأتخصص في علم النفس حتى أساهم في تحسين المجتمع، وهذا كله بفضل الخدمات النفسية والتربوية التي تقدمها كَرَمَ فقد كانت بمثابة العكاز الذي سندني في أصعب أوقاتي” .

عملت كَرَمَ على تطوير ودعم الصحة النفسية في بعلبك، حيث أخذت على عاتقها مسؤولية تقديم الدعم النفسي الاجتماعي للشباب والقيام بحملات توعوية، وأنشطة للتفريغ النفسي

لا يمكننا نكران أن بعلبك مدينة محرومة تتجاهلها الدولة منذ سنوات، الأمر الذي زعزع مستقبل شبابها وأثّر على واقعهم. إلّا أن شبابها اليوم يبحث عن فرص لترقيع ما حل بمدينتهم ليفسحوا لأنفسهم مجالًا للبقاء.

عدد كبير من الشباب البعلبكيّ يحاول إيجاد مساحته الخاصة ويخلق الفرص لنفسه ولمن حوله من خلال هذه الجمعيات والتجمعات وغيرها الكثير ممّن لم نذكر بعد. بعلبك من المدن التي لا يستطيع المرء الهرب منها، كما يصفها ابنها الشاعر والرسام محي الدين الجبي، بقوله: “أجيء اليك كطفل أضاع مرايا الطفولة، أضاع تفاصيل أيامه في الزوايا الظليلة. أجيء اليك وقد أرهقتني الخطايا وأعباء عمري الطويلة”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى