جنون أقساط المدارس الخاصّة جنوبًا برغم الحرب والنزوح

عندما كان الجنوب محتلًا قبل العام 2000 كنّا نعيش في منطقة إقليم التفّاح المواجهة لعدد من المواقع الاسرائيليّة، وكان التعليم في بلدات الجنوب مرتبطًا بالواقع الأمنيّ بشكل أو بآخر، لذلك كانت مدارس مغدوشة الرسميّة وجهة أساسيّة للطلاب، ولسببين اثنين: الأول، بُعدها عن خطّ المواجهة والشريط المحتلّ وبالتالي عن القصف، والثاني “قوّتها” كمدرسة رسميّة تنافس أهمّ المدارس الخاصّة.

هروب إلى المدرسة الخاصّة

بعد العام 2000 تحرّر الجنوب وأهله من سطوة الاحتلال، ومع مرور السنوات بدأت المدارس الرسميّة تشهد تراجعًا في المستوى، ليس في مغدوشة فحسب، بل في كلّ المناطق، والتراجع سببه البسيط رغبة “السلطة” بذلك، من أجل تنفيع المدارس الخاصة. وأخيرًا بعد بدء الأزمة الاقتصاديّة وانعكاسها على كلّ جوانب الحياة في لبنان، وجائحة الكورونا التي ضربت لبنان والعالم، أصبح وضع المدارس الرسميّة صعبًا للغاية، فتقدّمت المدارس الخاصة وتفوّقت.

“أصبحت المدرسة الخاصّة ملجأ لمن يرغب بتعليم أولاده، لأنّ المدرسة الرسميّة تظلّ مقفلة وفي إضرابات مستمرّة بسبب وضع الأساتذة فيها” يقول عبّاس وهو مواطن جنوبيّ كان يرغب بتعليم ابنه في المدرسة الرسمية ببلدته، سجّله موسم 2022 – 2023 فضاع العام الدراسيّ بالتوقّف عن التعليم والإضرابات، مّا جعله ينقله إلى مدرسة خاصّة.

مدارس الجنوب.. ارتفاع في الأقساط

يُشير عبّاس في حديث لـ”مناطق نت” إلى أن قدرته المادّيّة قد لا تناسب المدرسة الخاصّة، لكنّه يشعر بعبء كبير وتقصير أكبر إن لم يسجّل ابنه الوحيد فيها، كي لا يكون سببًا بعدم حصوله على التعليم الجيّد. ومثل عبّاس كثر، إذ إنّ التسرّب المدرسيّ من الرسميّ إلى الخاصّ كبر بعد الأزمة الاقتصاديّة التي عصفت بالمدارس الرسميّة، حيث يكشف مدير إحدى المدارس الرسميّة في إقليم التفّاح “أنّ عدد تلامذة المدرسة انخفض حوالي 35 بالمئة خلال العامين الماضيين”.

ويشير إلى “أن المدرسة قد لا تستطيع الاستمرار بحال استمرّ هذا التسرّب منها إلى المدارس الخاصّة”. علمًا أنّ آخر إحصاء لعدد التلامذة في المدارس الرسميّة كان الموسم الدراسي الماضي 304 آلاف تلميذ، بحسب “الدوليّة للمعلومات”، ما يشكّل نحو 30 بالمئة من إجماليّ عدد الطلّاب في لبنان.

كان التسرّب إلى الخاص في بداية الموسم الدراسيّ الحاليّ أمرًا يسيرًا على كثير من العائلات في الجنوب، بسبب الأقساط التي كانت إلى حدّ ما مقبولة، فغالبيّة المدارس بحسب معلومات “مناطق نت”، كان قسطها السنويّ دون ألف دولار، بحدود الـ600 تقريبًا في “مؤسّسات أمل التربويّة”، ومثلها في “مدارس المهديّ” و”مدارس المبرّات الخيريّة”، بينما كانت نحو 1600 دولار في ثانوية السيّدة للراهبات الأنطونيّات في النبطيّة، وما يشبهها في المدرسة الإنجيليّة الوطنيّة، وهنا تتفاوت الأرقام بين مرحلة وأخرى في داخل المدرسة الواحدة، فهي تكون أرخص في مرحلة الروضات وتزداد كلّما كبر التلميذ، إلّا في “مدارس المهدي” حيث أنّ مرحلة الروضات هي الأغلى.

غلاء الأقساط والحرب

بدأت الحرب في الجنوب في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، في مطلع العام الدراسيّ، فتأثّر الجنوب ولبنان، وكان للقطاع الاقتصاديّ نصيبه الكبير من الضرر، خصوصًا في الجنوب، وتحديدًا لأصحاب المصالح والمحال والمؤسّسات التجاريّة، أيّ من هم من غير الموظّفين، وعلى رغم ذلك يحاول الجنوبيّون الاستمرار والتحمّل والصبر.

لكن ما لم يتمكّن الجنوبيّون من استيعابه، هو الرسائل التي وصلت إليهم منذ أيّام تبلغهم بالأقساط الجديدة للمدارس، فبحسب معلومات “مناطق نت” لم تبقَ الأقساط على ما كانت عليه في أيّ مدرسة خاصّة في الجنوب عامّة، وقضاء النبطية بخاصّة، فمعظم الأقساط الجديدة شهدت ارتفاعًا بنسبة وصلت في بعض الأحيان إلى نحو 50 بالمئة، فالأقساط في مؤسّسات أمل التربويّة تخطّت الألف دولار بقليل، ما بين 1000 و1200 دولار أميركي، ومثلها في مدارس المهديّ، وأكثر بقليل في مدارس المبرّات، التي يصل قسطها السنويّ إلى قرابة 1400 دولار في الجنوب و1600 دولار في بيروت، وهنا طبعًا نتحدّث في أرقام تقريبيّة بسبب اختلاف الأقساط مع اختلاف المراحل الدراسيّة.

في مدرسة الراهبات في النبطيّة حديث عن زيادة الأقساط حوالي 250 دولارًا أميركيًّا، لتصبح بحدود 1850 دولارًا، وحديث عن تشابه الزيادة في المدرسة الإنجيليّة الوطنيّة.

معظم الأقساط الجديدة شهدت ارتفاعًا بنسبة وصلت إلى نحو 50 بالمئة، فالأقساط في مؤسّسات أمل التربويّة تخطّت الألف دولار بقليل، ما بين 1000 و1200 دولار أميركي، ومثلها في مدارس المهديّ، وأكثر بقليل في مدارس المبرّات

هذه الأقساط لا تشكّل كامل مصروف التلميذ في المدرسة، يقول عليّ، الأب لطفل في مدرسة خاصّة في النبطية، فهناك النقل الذي يبلغ 50 دولارًا شهريًّا، وهناك الكتب والقرطاسيّة والهندام المدرسيّ، وهناك طلبات المدرسة التي لا تنتهي؛ مشيرًا من خلال “مناطق نت”، إلى “أنّ مصروف ابنه يتخطّى ألفي دولار سنويًّا والموسم المقبل سيزداد كذلك”.

لتحسين رواتب الأساتذة؟

قد لا يمكن إطلاق تسمية “صرخة” على أصوات الجنوبيّين الذين بدأوا برفع الصوت بوجه الأقساط الجديدة التي تأتي في زمن الحرب لتزيد أحوالهم السيّئة سوءًا، فالربط بين الوضع في الجنوب وأقساط المدارس قد لا يكون عادلًا، كما يرى أحد أساتذة المدارس في النبطية، مشيرًا إلى “أنّ زيادة الأقساط شرط ضروريّ أيضًا لتحسين ظروف الأساتذة الذين يتقاضون هذا العام ما بين 300 و500 دولار على أفضل تقدير، فهل هذا الراتب يكفي أحد من الأهل المعترضين على زيادة الأقساط؟”.

بحسب الأستاذ عينه “فإنّ الرواتب للأساتذة ستبدأ هذا العام من 500 دولار أميركيّ، إلى جانب بدل النقل، ويختلف الراتب بحسب المهام وسنوات الخبرة”، ولكنّه لا ينفي “أنّ إدارات المدارس الخاصّة تسعى كذلك إلى زيادة أرباحها بمعزل عن وضع البلد والأهالي والطلّاب”.

حكر للأغنياء

لا يقف الأهالي بوجه زيادة الرواتب للأساتذة، ولا أعتقد أنّ المعترضين من أهالي القرى الجنوبيّة على الزيادات في الأقساط يُدركون ماهيّة الصندوق الخاصّ بالدولار التي تحاول المدارس الخاصّة إبقائه خارج الرقابة القانونيّة وخارج ميزانيّات المدارس، أو يُدركون سبب تقسيم الأقساط بين مبالغ بالليرة وأخرى بالدولار، ولكنّهم يدركون تمامًا أنّ التعليم في لبنان سيصبح شيئًا فشيئًا حكرًا على الأغنياء، فلا هم قادرون على التوجّه إلى المدرسة الرسميّة، ولا هم قادرون على اللحاق بأقساط المدارس الخاصّة، وهنا لا تمييز بين مدرسة خاصّة دينيّة وأخرى علمانيّة، وأخرى “ما بين بين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى