جورج جرداق صائغ الكلام من مرجعيون

من يقرأ في سيرة جورج جرداق (1931 – 2014) ابن جديدة مرجعيون (مرج عيون) البلدة الجنوبية، التي وصفها بأنها “بقعة سکانها عرب حقیقیون، یتحدّرون من أسر عربیة عریقة”، وسط بیئة “من جماعة الفکر والعلم والأدب والشعر” بحسب مقالة عنه للصحافي المخضرم كامل جابر (2009)، يظهر له تعدد انشغالاته الفكرية، وموهبته الأدبية الفذة التي ظهرت على نحو مبكر أثناء دراسته.

موهبة الأدب

حين ألف ولم يتجاوز الثامنة عشر ربيعاً “فاغنر والمرأة” مثابة سيرة قصصية، وصدرت عن دار المكشوف المرموقة في بيروت المملوكة للشيخ فؤاد حبيش في العام 1949، كانت غايته أن يدرس علاقة المرأة (الإلهام) والفن (العبقرية). أو كما يُعرف الكتاب عن نفسه “أثر المرأة في العبقريات الخلاقة عامة، وفي عبقرية فاغنر خاصة، وصورة موجزة عن سيرة الموسيقار المبدع وعن حياته الغرامية منزهة مما ألحقه بها بعض الرواة من الحوادث الملفقة”.

صورة قديمة تجمع الشاعر جورج جرداق مع السيد موسى الصدر وبعض الحضور

وفي حديث صحافي يعود للعام 1963 صرّح جرداق إنه اختار فاغنر من دون غيره، “لأنه أكبر من يبرز وحدة هذه الفنون (…) ومن ثم، هو أصلح من غيره ليكون مادة خصبة لمن يريد أن يكتب في الفنون كوحدة تامة تختلف بمظاهرها وأشكالها الخارجية، وتتحدد بأصولها وينابيعها وجوهرها”. وقال فيه العلامة الراحل عبدالله العلايلي : “لا مثيل لهذا البيان في أدبنا المعاصر كله”. وكان لشقیقه فؤاد (1965 – 1909)، الأديب والشاعر والمناضل ضد الإنتداب، صاحب “الهواجس” (لا تاريخ لنشره) وهو الكتاب الوحيد المنشور له، أثر كبير عليه، إذ شجّعه علی الشعر والکتابة.

المسّار الدراسي

والعام 1949، كان عام اتمامه الدراسة التكميلية في بلدته، وعام انتقاله الى “الكلية البطريركية” في العاصمة بيروت، الضاجة بالحياة والفكر والثقافة. فالكلية معروفة بتخريجها أفضل الطلاب في اللغة العربية وآدابها. اذ كانت “مهمة جداً بحاضرها وقديمها، فالشيخ إبراهيم اليازجي، أكبر علماء العربية على الإطلاق، كان أحد أساتذتها في القرن التاسع عشر، ومن تلامذته خليل مطران شاعر القطرين” بحسب ما يُقال عنها. فدرس جرداق على يد الأديب المعروف رئيف خوري، وعلّامة عصره فؤاد أفرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية، وكان أستاذ اللغة والأدب الفرنسي الشاعر ميشال فريد غريب الذي كتب شعره بالفرنسيّة.

الكتابة والصحافة والإذاعة

وتخرج من الكلية في العام 1953 لينصرف الى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في عدد من كليات بيروت. وليبدأ مشواراً آخر في عالم الصحافة استهله في مجلة “الحرية”، التي يقول عنها: “كنت أكتبها من الغلاف إلى الغلاف، وكنت أحرّر مقالات وأوقّعها بأسماء صارت لاحقاً معروفة لدى أصحاب الصحف”. وعمل أيضاً في مجلّة “الجمهور الجديد” وانتقل إلى “دار الصيّاد”عام 1965، فكتب في مجلة “الشبكة” وفي صحيفة “الأنوار”. وعمل أيضاً في الإذاعة فقدم برنامج “على طريقتي” عبر أثير إذاعة “صوت لبنان”.

تخرج من الكلية في العام 1953 لينصرف الى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في عدد من كليات بيروت. وليبدأ مشواراً آخر في عالم الصحافة استهله في مجلة “الحرية”، التي يقول عنها: “كنت أكتبها من الغلاف إلى الغلاف، وكنت أحرّر مقالات وأوقّعها بأسماء صارت لاحقاً معروفة لدى أصحاب الصحف

في عام 1960، بدأ في إصدار الموسوعة الفكرية عن الأمام علي (ع) تحت عنوان “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية”، فصدر منها تباعاً خمسة مجلّدات، هي: “علي وعصره”، و”علي وحقوق الإنسان”، و”علي والثورة الفرنسية”، و”علي وسقراط”، و”علي والقومية العربية”، أتبعها بمجلد سادس حمل عنوان “روائع نهج البلاغة”. يستشهد جرداق في موسوعته بقول لفيلسوف الشخروب ميخائيل نعيمة: “يقيني أنّ مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها، إلا أن تشهد بأنّها الصورة الحيّة لأعظم رجل عربي بعد النبي”.

لقد لبس جرداق في الموسوعة، لباس المؤرخ وغاص في بطون التاريخ، ليبرهن عظمة أمته ومساهمتها في التاريح الإنساني، فكتب في التقديم: “إن تاريخنا هو أيضاً صفحات رائعة من الإشراق الإنساني العظيم تشرفنا كعرب كما تضيف شرفاً إلى تاريخ الإنسان.

ومن الأمور التي نستيقظ عليها في دراسة علي وعصره ومـا تـلاه مـن عصور، ذلك المقدار العظيم من الإسهام في مقاومة الظالم ونصرة المظلوم، ومن معاندة الاستعباد والاستغلال والعمل على تقويض أسبابهما بسن الأنظمة والدساتير في النطاق الذي تسمح به إمكانات الزمان والمكان، وبالتضحية في سبيل الكرامة الإنسانية بكل عزيز من الدم والحياة، فإذا بنا نعي أكثر فأكثر أن تاريخنا ليس كله ظلمة وظلماً. (…) وإن مثل هذه الصفحات المشرقة في تاريخنا لتؤهلنا إلى أن نعيد النظر في أنفسنا من جديد، تحطيماً لكثير من القيود التي كبلتنا عصور الظلمات الطويلة، وتمجيداً للبطولة الحقيقية التي هي بطولة فرد من الأفراد أو جيل من الأجيال في سبيل الإنسانية بأسرها”، وعلينا أن ننتبه جيداً لعبارة الإنسانية التي يكررها جرداق مؤمناً بها، وهو المتأثر بأفكار أستاذه الإشتراكي رئيف خوري .

أحد منازل بلدة جديدة مرجعيون القديمة (تصوير كامل جابر)
ترجمات متعددة

واستقبلت الموسوعة بحماسة فائقة ونشرت على نطاق واسع مترجمة الى الفرنسية والفارسية والأوردية والإسبانية ولغات أخرى، في طبعات مختلفة، فكتب محقق طبعة النجف في العام 2010، وقد اختصر أو حذف كثير من الصفحات: “تجاوز جرداق في كتابه هذا تأريخ شخص الإمام علي الى تاريخ أمة لمع فيها نجمه وأشرق منها على الإنسانية جمعاء”.

الى ذلك كان جرداق شاعراً مميزاً، وتحولت احدى قصائده التي كتبها عام 1967 الى أغنية شهيرة هي “هذه ليلتي وحلم حياتي” غنتها أيقونة الطرب العربي، السيّدة أم كلثوم في العام 1968 ، ولحنها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الذي قال عنه:” “إن في شعر جورج جرداق من الموسيقى، ما لا يستطيع اللحن أن يجاريه أو يدانيه”.

تحولت احدى قصائده التي كتبها عام 1967 الى أغنية شهيرة هي “هذه ليلتي وحلم حياتي” غنتها أيقونة الطرب العربي، السيّدة أم كلثوم في العام 1968 ، ولحنها الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الذي قال عنه:” “إن في شعر جورج جرداق من الموسيقى، ما لا يستطيع اللحن أن يجاريه أو يدانيه

والحال، كانت بيروت محضن الثقافة الأساسي تترقى بعقول أبناء القرى والأطراف القادمين اليها، على ما تقول الباحثة في علم الإجتماع الدكتورة رباب دبس في مقالتها “نازحو الأرياف ودورهم في صنع المشهد الثقافي لبيروت” (مناطق. نت، 2023). كانت المقاهي حلقات ثقافية وملتقى للأفكار والإبداع، وجرداق كأبناء جيله من الصفوة، تردد اليها، ويبدو أن مكانه المفضل كان “مقهى الحاوي” (بار روكسي) الذي كان يرتاده الأخطل الصغير، وأسعد سابا، وتوفيق ابرهيم، وحليم الرومي، ومارون كرم، وميشال طعمة، وغيرهم كثير… وجلس فيه أيضاً أمير الشعراء أحمد شوقي عندما زار بيروت واختلف مع الشاعر الياس أبو شبكة! وفاقاً لرواية الصحافي اسكندر داغر.

العودة إلى مرجعيون

وقد تابع جرداق أعماله الإبداعية، فكتب “حديث الغواني” (1989)، و”حديث الملاهي” (1989) و”نجوم الضهر” (1990). الى مجموعة من الكتب ذكرها في حديث صحافي هي: قصور وأكواخ، صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد، عبقرية العربية، صبايا ومرايا، وجوه من كرتون، حديث الحمار، حكايات.

وعن عمر ثلاثة وثمانين عاماً ألقى القلم جانباً، عائداً الى بلدته ليعانق ترابها ويرتاح في رحاب الأبدية، وليبقى اسمه مرفوعاً لا في بلده، بل في طهران، حيث أطلق اسمه على أحد شوارعها.

وقد نعته نقابة محرري الصحافة اللبنانية، وأتى في بيانها: “خسرت الصحافة اللبنانية والعربية، وعالم الأدب والشعر، جورج جرداق بعد 83 عاما تميزت بالأبداع الفكري والثقافي والموهبة المتوقدة التي أغنت لغة الضاد بروائع من نتاج قلمه الخلاق، سواء في الشعر أو النثر أو النقد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى