حاجز الردع..مثلّث خلدة ذكريات ذلّنا اليومي

حتّى اليوم وقد مرّت على عدم وجود حاجز “الردع” في محلّة مثلّث خلدة الشويفات عقود وعقود، تراني لا أستطيع أن أفصل النظام الأسديّ عن هذا الحاجز المُذلّ. قد لا يكون التاريخ حيال بعض الذكريات إلّا واقعة جلموديّة صلدة تأبى فعل الصيرورة أو الانزياح أو التلاشي في غياهب النسيان.

لا أظنّ أنّ ثمة مواطنًا لبنانيًّا لا تثير في قلبه وذهنه عبارة “جيش الردع” ضروب النقزة والاضطراب. في بعض مرويّات كلّ الذين كانوا مجبرين على المرور عبر ذلك الحاجز، ترى ذلك الحاجز يتخذ طابع الحدث المستحيل الاجتثاث.

في”كتاب اللاطمأنينة” يتكلّم فيرناندو بيسوا عن تلك المتعة الحزينة التي تحايث كتابتنا لبعض الذكريات، وهو حالي حيال كتابتي ذكرى مروري شبه اليوميّ عبر حاجز جيش الردع عند مثلّث خلدة الثمانينات.

دعاء وتودّد كاذب

أكثر ما يناوش ذهني لدى تلفّتي إلى تلك الذكرى – وقد سقط نظام الأسد – صوت أمّي الهامس بالدعاء والاستغاثة بالله والخمس حدود وسيّدة كنيسة خلدة، أجل سيّدة كنيسة خلدة، التي هي محلّ تبجيل وقداسة من قبل كلّ الدروز والمسيحيّين في خلدة والشويفات ومحيطهما، تراني أرهف السمع إلى ذلك الهمس الذي يناجي ربّ العالمين أن نمرّ عبر حاجز الردع بخير وبسلام.

ولا مرّة تجاوز نظام الأسد في ذهني عن أن يكون ذلك الخوف المرتسم فوق تعابير أمّي، بل وترى ذلك النظام يتجذّر أكثر وأكثر لدى معاينتي من خلف السنين تلك الابتسامة الصفراء المصطنعة، والتي يحفرها أبي فوق ملامحه كتودّد كاذب، لدى وصولنا إلى حاجز الردع ذاك.

كم تمنّيتُ منذ أن كفّ ذلك الحاجز عن أن يكون معلمًا من معالم ذلّنا شبه اليوميّ أن تقع ذكراه في فجوة عميقة، بيد أنّ تجربة ذلك الحاجز الأسديّ بيّنتْ لي أنّ ثمّة ذكريات هي بحدّ ذاتها فجوات في دروب العيش في هذا العالم.

خوف متراصّ

منذ بدايات الحراك السوري الأخير ضدّ نظام الأسد تسمّرتُ أمام محطّات التلفزة وأنا آمل أن ينزاح حاجز قوّات الردع ذاك من فوق ذهني. تسمّرت أمام التلفاز مقتعدًا كنبة غرفة القعدة، أعيد على نفسي رجف صوت أمّي الخفيض، لدى اقترابنا من الحاجز ثمّ تلك التنهيدة الإلهيّة التي تنطلق من داخل جوفها لدى تجاوزنا النصب الأسديّ البشع ذاك.

قد تكون الذكريات استجابة لحدث مفاجئ وقد تكون تمتينًا لوجودنا في العالم وقد تكون… وقد تكون، فنحن بنهاية الأمر ذكرياتنا التي تناطح بعضها بعضًا. أمّا ذكرى حاجز جيش الردع عند مثلّث خلدة الثمانينيّات فلم أتمثّلها ولا مرّة إلّا كخوف متراصّ وإهانات تنهال علينا، وعلينا الالتزام بها مع كلّ مرور من هناك.

ولا مرّة تجاوز نظام الأسد في ذهني عن أن يكون ذلك الخوف المرتسم فوق تعابير أمّي، بل وترى ذلك النظام يتجذّر أكثر وأكثر لدى معاينتي من خلف السنين تلك الابتسامة الصفراء المصطنعة، والتي يحفرها أبي فوق ملامحه كتودّد كاذ

شوّه حاجز الردع ذاك جملة من القضايا النبيلة عبر تبنّي نظام الأسد لهذه القضايا، وهو تبنّ كاذب على كلّ حال. رمى ذلك النظام بكثير من الناس – ومنهم أنا – في براثن نفضة اليد إزاء كثير من القضايا المحقّة وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة. فالخلاص من هذا النظام، من حاجز مثلّث خلدة، تحوّل لدى البعض منّا إلى ما يشبه الخلاص الأبديّ، وفي البال على الدوم دموع صديقي علي في مدرسة المعارف بالشويفات مع كلّ سرد له عن جرجرة أبيه من قبل بعض عناصر ذلك الحاجز وكيف انهالوا عليه بأعقاب البنادق و”الرانجر” فوق الطريق، فضلًا عمّا حدث مع أمّه يومذاك وصوتها يصرخ “ركوض يا علي، هروب يَمّي”.

وقائع تأبى الانزياح

لا كائن في هذا العالم يمتلك القدرة على معرفة كيفيّة استجابة القدر لدعائه وآماله ولتخلّصه من حاجز الردع عند مثلّث خلدة باتّجاه صيدا والجنوب الحزين.

قد يقع بنا الظنّ أنّ ثمّة وقائع في هذا العالم لا تستجيب إلى صيرورة التغيير؛ وقائع تأبى الانزياح، بل تراها تتمسّك بالمراوحة والتحديق بوجوهنا، بل وبتشكيل ردّات أفعالنا، ونبضات قلوبنا، وتلاوة ألسنتنا كتلاوة أمّي عند حاجز مثلّث خلدة للـ “جيش الشقيق” إذا أردنا أن نستعير – بسخرية – هذه العبارة الحقيرة والمستمدّة من حقارة بعض ساسة هذا البلد ممّن تماهوا مع نظام الأسد ذاك وحاجزه في مثلّث خلدة الشويفات.

في البال على الدوم دموع صديقي علي في مدرسة المعارف بالشويفات مع كلّ سرد له عن جرجرة أبيه من قبل بعض عناصر ذلك الحاجز، فضلًا عمّا حدث مع أمّه يومذاك وصوتها يصرخ “ركوض يا علي، هروب يَمّي”

لا أجد مفرًّا من استعمالي كلمة “خزمتشيّة الأسد” لدى تطرّقي إلى هذه الأنماط من رجال سياسة وإعلام و”محلّلين استراتيجيّين” و “رجال فكر” و”أبطال” ومشعوذين. قد يقع بنا الظنّ أنّ ثمّة ما في يومياتنا ينجدل مع أبد جهنّميّ فننسحق، وإذا بهذا الانسحاق هو شكل خاصنا الوحيد.

دفن الذكريات

… إنّه حاجز الردع عند مثلّث طفولتي ومراهقتي وشبابي حيث جيش “أبو شحّاطة” ما انفك يداخل يوميّاتي كلّما مررتُ من هناك.

لقد زال نظام الأسد ولا توقّعات لديّ حيال سوريّا ما بعد الأسد. فما يعنيني بشكل خاص هو أن أتنعّم بدفن ذكرياتي حيال حاجز الردع في خلدة وخوف أمّي وابتسامة أبي الصفراء ودموع صديقي علي… ما يعنيني هو شأن شخصيّ جدًّا لكنّه للمفارقة شأن عام يخصّ كلّ اللبنانيين. فلندفن ذكرياتنا مع هذا النظام القذر، فلندفن هذه الذكريات ليس في أصقاع أذهاننا إنّما، وبالعودة – بتصرّف – إلى “كتاب اللاطمأنينة” لبّيسوا، فلندفنها في قعر نظام الأسد، في قعر ذاكرته هو ولنتمتّع برحيله عنّا وقد خطّ كتاب لا طمأنينتنا أكثر من أربعين سنة ومن كلّ حدب وصوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى