حاصبيّا بلا جامعة فأيّ مصير ينتظر طلابها؟
شأنهم شأن معظم أبناء مناطق الأطراف، يسمع طلّاب منطقة حاصبيّا منذ عقود وعودًا متكرّرة من المعنيّين بخصوص إنشاء جامعة تلبّي حاجاتهم لاستكمال دراساتهم، وذلك بسبب خلوّ منطقة حاصبيّا من فروع الجامعة اللبنانيّة، والوعود تلك تعني كثيرًا ذوي الدخل المحدود، ممّن لا تسمح لهم ظروفهم بالانتقال إلى خارج المنطقة بغية متابعة تعليمهم.
تبعد حاصبيّا نحو 110 كيلومترات عن العاصمة بيروت، وفيها يواجه الشباب والشابات واقعًا صعبًا، حيث تفتقد المنطقة إلى خدمات أساسيّة عديدة، في ظلّ دولة شديدة المركزيّة، لا تتطلّع إلى المناطق الريفيّة التي تعاني تهميشًا ونقصًا دائمًا في الخدمات الأساسيّة، أبرزها توافر فروع الجامعة اللبنانيّة والنقل المشترك وغيرها من الضروريّات الواجب على الدولة تأمينها تسهيلًا لحياة المواطنين.
لا يعرقل غياب الجامعة عن حاصبيّا مسار تعلّم الشباب فحسب، بل يدفع عديدًا منهم إلى النزوح والهجرة بحثًا عن فرص أفضل، فينتج عن ذلك تداعيات سلبيّة على المجتمع المحلّيّ، من فقدان للكوادر الشابّة إلى تدهور الاقتصاد وغياب التنمية المستدامة، وهذا يضع شباب حاصبيّا في مواجهة مستقبل مجهول.
غياب يدمّر أحلام الطلّاب
تروي الفتاة العشرينيّة كارلا (اسم مستعار) قصّتها المريرة لـ”مناطق نت” فتقول: “كنت أحلم بأن أكون جزءًا من جامعة، لكنّ حلمي سرعان ما تبخّر بسبب الواقع المرير للمنطقة، إذ ليس هناك من جامعة في حاصبيّا، والخيارات الأخرى باتت بعيدة جدًّا لكي أتمكّن من الوصول إليها”.
كارلا أنهت المرحلة الثانويّة بتفوّق، وكان حلمها منذ الصغر أن تكون “صيدلانيّة”، بيد أنّها لم تكن قادرة على الانتقال إلى بيروت أو مناطق أخرى لمتابعة دراستها، نظرًا لظروفها المادّيّة أولًا، ومن ثمّ وضع عائلتها “المتشدّدة دينيًّا” ثانيًا، ما دفعها إلى الاستسلام وترك التعليم والبحث عن بديل آخر، مثل تعلّم مهنة أو الخضوع لتدريبات قد تؤهّلها للدخول إلى سوق العمل. لكن كلّ ذلك لن يعوّض لها حلمها الذي، بحسب كارلا، “دمّرته السياسات المركزيّة التي غالبًا ما تهمل المناطق الطرفيّة، ولا تكترث إلى حاجات الشباب ومستقبلهم”.
تتابع كارلا: “نحن محرومون من فرص يجب أن تكون متاحة لنا، وهي من الضروريّات لتحقيق تعليم جامعيّ يساعدنا في بناء مستقبل أفضل”. وتشدّد كارلا على الحاجة الماسّة إلى فرصة لاستكمال تعليمها العالي من دون التفكير في المسافات الطويلة الواجب عليها اجتيازها أو التكاليف الباهظة التي ممكن أن تدفعها جرّاء ذلك.
معاناة كارلا عيّنة ممّا يعاني منه عديد من شابّات وشباب حاصبيّا، ممّن يشكون باستمرار غياب الفرص، وهذه المعاناة ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة تراكم عقود من إهمال تفاقم مع الأزمة الاقتصاديّة والانهيار الذي شهده لبنان في العام 2019 وما زال مستمرًّا حتّى اليوم. هؤلاء الشباب والشابات لا ينتظرون إنشاء جامعة فحسب، بل يحلمون أيضًا بتحسّن الخدمات، وتوافر الرعاية الصحّيّة وتأمين فرص عمل.
المعاناة ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة تراكم عقود من إهمال تفاقم مع الأزمة الاقتصاديّة. هؤلاء الشباب والشابات لا ينتظرون إنشاء جامعة فحسب، بل يحلمون أيضًا بتحسّن الخدمات، وتوافر الرعاية الصحّيّة وتأمين فرص عمل
تأثير غياب الجامعة
تعتبر ابنة حاصبيّا الشابّة سارة الصبّاغ التي أنهت دراستها الجامعيّة بعد معاناة، “أنَّ غياب الجامعة عن المنطقة يقوّض الحركات الشبابيّة، ويُضعف تأثيرها في السياسات المحلّيّة، لأنَّ الجامعة تشكّل نقطة تحوّل مهمّة للشباب، وبغيابها تضعف الديناميّة الشبابيّة داخل المنطقة، فينتج عنها ضعف آفاق التغيير في المجتمع المحلّيّ.”
تتابع الصبّاغ لـ”مناطق نت”: “إنّ غياب الجامعة يدفع بالشباب إلى النزوح نحو المدن الكبرى لمتابعة دراستهم، ومن ثمّ العمل لاحقًا، ممّا يؤدّي إلى فقدان المجتمع لطاقاته الشابّة النشطة وقادته المحتملين، وبالتالي تصبح المنطقة خالية من الشباب، وهذا يؤدّي إلى تباطؤ عمليّة التنمية إن لم يكن جمودها، بسبب غياب الشباب عن قراهم وعدم انخراطهم في عمليّة تطويرها”.
سارة التي تابعت تعليمها في الجامعة اللبنانيّة الدّولية في البقاع، وتبعد نحو ساعتين بالسيارة عن مكان إقامتها في حاصبيّا، تؤكّد لـ”مناطق نت” أنّها واجهت صعوبات كبيرة نظرًا إلى بعد الجامعة، ممّا كان يحتّم عليها الاستيقاظ باكرًا جدًّا، ناهيك بالتّعب المفرط جرّاء بعد المسافة، وهذا ما كان يحدّ من قدرتها على التركيز في الدراسة، ويقلّص من وقت راحتها الذي كانت تسرقه المسافات الطويلة.”
نزوح للدراسة وهجرة للعمل
عند إنهاء الطلّاب دراستهم الثانويّة في حاصبيّا، تكون الخطوة الطبيعيّة التّالية، الانتقال إلى مدينة أخرى لمواصلة تعليمهم الجامعيّ. هذا ما واجهه روني خير الدين، الطالب في الجامعة اللبنانيّة الدوليّة في النبطية، إذ عانى في دراسته من الكلف الباهظة للنقل، وصعوبة التركيز في الدراسة بسبب ضيق الوقت.
يشير روني لـ”مناطق نت” أنّه عانى أيضًا خلال مدّة الدراسة، من عدم القدرة على المشاركة في الأنشطة الاجتماعيّة بشكل كامل، ممّا زاد من شعوره بالعزلة وعدم قدرته على الاندماج، مثله مثل باقي طلّاب المنطقة.
بعد التخرّج، تتفاقم التحدّيات مع تراجع الفرص المتاحة للعمل في حاصبيّا، ممّا يدفع عديدًا من الشباب إلى النظر في خيارات العمل في الخارج. على الرغم من تفضيلهم البقاء والعمل في وطنهم، إلّا أنّ نقص الفرص المتاحة يضطرّهم إلى الهجرة بحثًا عن مستقبل مهنيّ أفضل. يلفت روني إلى أنَّ “الهجرة كانت الخيار الوحيد أمامي للانخراط في سوق العمل، بحيث لم أجد مهنة مناسبة لي في لبنان، خصوصًا في ظلّ انعدام الرواتب الكافية، والّتي لا تغطّي سوى بعض النفقات”.
يتابع روني: “إنّ التكيّف مع بيئة جديدة وعادات مختلفة ليس بالأمر السهل، إضافة إلى الكلف الإضافيّة والتحدّيات المرتبطة بسوق العمل الجديد”. هذا الوضع يعكس مدى تأثير غياب الجامعات في المناطق الريفيّة على الشباب، وأيضًا فرص العمل، ممّا يضعف من قدرتهم على إحداث التغيير في مجتمعاتهم المحلّيّة.
ضرورة بناء جامعات وطنيّة
في عرضه لتاريخ إنشاء فروع الجامعات في لبنان، يقول المستشار في التنمية أديب نعمة، لـ”مناطق نت”: “هذه الجامعات تأسّست في زمن الحرب الأهليّة، وسط انقسامات سياسيّة وطائفيّة حادّة. ومع مرور الوقت، تطوّرت بطريقة غير منطقيّة، حيث تمّ تقسيمها وفقًا للانتماءات السياسيّة والطائفيّة، ممّا أدّى إلى ضعف جودة التعليم وتقليص فرص الوصول إلى التعليم العالي بطريقة عادلة ومتساوية”.
يؤكّد نعمة أهمّيّة حقّ كلّ مواطن لبنانيّ في الحصول على تعليم عالٍ يلبّي طموحاته، وذلك يتمّ عبر عدّة خطوات يجب أن تتّبعها الدّولة، عبر توفير بيئة تعليميّة مناسبة تشمل مؤسّسات تعليميّة قريبة من الطلّاب وتأمين خدمات نقل فعّالة تربط بين الجامعات والمناطق البعيدة. كذلك يشدّد على أهمّيّة توفير سكن بكلفة منخفضة للطلّاب الذين يواجهون صعوبات في التنقّل.
بعد التخرّج، تتفاقم التحدّيات مع تراجع الفرص المتاحة للعمل في حاصبيّا، ممّا يدفع عديدًا من الشباب إلى النظر في خيارات العمل في الخارج. على الرغم من تفضيلهم البقاء والعمل في وطنهم
ويرى نعمة “أنّ الدولة عليها أن تتّخذ خطوات جدّيّة لتحقيق هذه الأهداف، بما في ذلك تقديم منح دراسيّة وإنشاء برامج لتسهيل الوصول إلى التعليم العالي بكلفات معقولة، ممّا يسهم في تعزيز التنمية المستدامة في المناطق الريفيّة مثل حاصبيّا”.
عن إنشاء الجامعات في المناطق الرّيفيّة ومنها حاصبيّا، يؤكّد نعمة أنّها “تمثّل خطوة هامّة إذا تمّت بناءً على دراسات دقيقة ومنظّمة، تستند إلى حاجات المنطقة وأعداد الطلّاب”. مشيرًا إلى غياب التخطيط المسبق الذي أدّى إلى إنشاء مؤسّسات تعليميّة وصحّيّة من دون تقديم الخدمات المناسبة. ويتساءل: ” كم مستشفى بني عبر هبات كويتيّة وخليجيّة لكن لا يوجد فيها مرضى؟ وكم مدرسة تمّ بناؤها من دون تلاميذ؟ وبالتالي الأمور لا تدار بهذا الشكل، بل تكون الدراسة والتنظيم من أبرز وأهمّ الأشياء التي يجب تناولها”.
ويشدّد نعمة في الوقت نفسه على أنه “من الأفضل تأمين وسائل نقل وسكن وبنى تحتيّة أخرى، بدلًا من تكرار بناء الجامعات في كلِّ ضيعة أو منطقة، لأنَّ خوض الطلّاب لتجارب جديدة وتعرّفهم على أناس جدد من خارج بيئتهم الدينيّة والاجتماعيّة، من شأنه تعزيز فرصة تطويرهم الشخصيّ والمهنيّ”.
افتقاد إلى الفئات الشبابية
بسبب الهجرة والنزوح، تفتقر المناطق البعيدة عن العاصمة، ومنها حاصبيّا إلى الفئات الشبابيّة، حيث تهيمن على تلك المناطق فئة كبار السّن. وفي هذا الإطار يلفت نعمة إلى ضرورة التركيز على أمر مهمّ، وهو فرص العمل في مرحلة ما بعد الجامعة.
يستخدم نعمة مصطلح “البطالة المؤجّلة”، “حيث يجد الشباب صعوبة في الحصول على فرص عمل مناسبة بعد التخرّج، وهذا يعني أنّه إذا انتهيت من دراستك في المناطق الريفيّة، فإنّ فرص العمل قد تكون محدودة، ولكن إذا تابعت التعليم وحصلت على مهارات إضافيّة، يمكنك تأجيل مشكلة البطالة.
“هذه الظاهرة، تعتبر من الظواهر الشائعة في لبنان” بحسب نعمة الذي يختم: “يُؤجل الطلّاب البحث عن وظائف مدّة طويلة بعد التخرّج، ممّا يؤدّي إلى دخولهم في عداد العاطلين عن العمل بعدما أجّلوا هذا الوضع خلال فترة الدراسة الجامعيّة”.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.