حركة الرّيف الثّقافيّة.. عن قناديل بعلبك-الهرمل وأثر محمود نون

منازل المدن شقق ضيّقة، منازل القرى دورٌ واسعة، والدور الواسعة في بعلبك الهرمل كنايةٌ عن ترحيب أهلها بالضيوف مهما كان عددهم، كما أنَّ الأبواب العالية المفتوحة كنايةٌ عن الجهوزيّة لاستقبالهم في أي وقت.

غيرَ بعيدٍ من مدينة الهرمل، تقع بلدة حربتا على أطراف قضاء بعلبك 125 كلم عن العاصمة بيروت، بلدة كبيرة نسبيّاً على تلّةٍ غربيّ الأوتستراد الدّولي ترتفع 1100 متر عن سطح البحر، هناك ولد الشاعر والباحث والقاص محمود نون في زمنٍ أقلَّ رعونة عام 1952، هناك عاش وعمل وعلّمَ وأسَّسَ وألّف ونشر، انتمى لحريّة الريف واتساع السّهل ورسوخ الجبل وتواضع النهر وكرم الشجرة، ومن هناك شاكس المدينة مرّةً وصافحها مرّةً مصافحةَ القرويِّ الواثق، لم تغوه عدسات كاميراتها ولا لياليها الصّاخبة، عاش بهدوء، متعفّفاً رساليّاً وصادقاً، قبل أن يرحل تاركاً أثراً معتبراً في ذاكرة من عرفه في الوسط الثقافيّ المحلّيّ والعربيّ.

الشاعر الراحل والقاص محمود نون

لم يترك محمود نون ريفه أبداً، لم يؤمن بمركزيّة الإشعاع ولا بمدنيّة الثقافة، عاش في القرية وحافظ لسانه على لهجتها، ثمَّ فتح قلبه متنقّلاً بين القرى باحثاً عن الطاقات المخفيّة في الأطراف مؤمناً بالتعليم والتنوير، فخرّج على مدى حياته أجيالاً وصادق أجيالاً، قلبٌ مفتوحٌ وبيتٌ مفتوحٌ استضاف على مدى عقود الكتّاب والشّعراء والمثقفين من كلِّ اتجاه.

انتمى الشاعر والباحث والقاص محمود نون لحريّة الريف واتساع السّهل ورسوخ الجبل وتواضع النهر وكرم الشجرة، ومن هناك شاكس المدينة مرّةً وصافحها مرّةً مصافحةَ القرويِّ الواثق.

في صيف 2016 كان الحراك الثقافيُّ في بعلبك الهرمل يشهدُ حضوراً شبابيّاً متحمّساً، وكنتُ من الشعراء الذين تلقوا دعوةً من “حركة الريف الثقافيّة” للمشاركة في ندوة شعريّة في دارة الأستاذ محمود نون في حربتا، قرأنا شعراً أمام جمعٍ ضاق به البيت على اتساعه، واستمعنا إلى آراء الحاضرين المتنوّعة: بعضها انطباعي محض وبعضها نّقدي مختصّ، هناك جالسنا الدكتور علي زيتون والمرحوم الأستاذ سهيل الطشم وأكاديميين وكتّاباً وشعراء من غير جيلنا، فبدا البيت لنا في تلك السّاعة بمثابة ملتقى أجيالٍ وطروحاتٍ ورؤى.

لم تكن “حركة الريف الثقافية” التي تأسّست عام 1992 مشروع محمود نون الوحيد، فقد أسّس “ملتقى الحوار الأدبي في البقاع” عام 1996 وأصبح عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكتّاب اللبنانيين مرّتين الأولى بين عامي 1997 و2001 والثانية بين عامي 2006 و2008، كما أصبح عضوًا في إتحاد الكتّاب العرب منذ عام 2000، وكرّس كلَّ هذه الأدوار وغيرها لتسليط الضوء لا على شخصه ومنتجه الأدبي المتنوّع كشاعر وباحث وقاص، بل على الآخرين في القرى والأطراف النائية.

وفي خضمِّ كلِّ هذا أصدر خلال رحلته كتباً متنوّعة بين شعر وقصة ودراسة، وكان يكتب في الجرائد والمجلّات عن نتاج الشعراء والأدباء الذين عرفهم وعايشهم.

الراحل محمود نون متحدثًا في الحفل التكريمي للدكتور علي مهدي زيتون
هيئة منتخبة وإرث كبير

حركة الريف ما زالت ناشطة إلى الآن، أثراً حيّاً لمؤسّسها الراحل، وفي حزيران/يونيو من هذا العام انتخبت هيئة إداريّةً جديدة ترأسها الدكتور الياس الهاشم، الذي أكّد لـ “مناطق.نت” على الصّفات الشخصيّة الاستثنائيّة والإرث الكبير للمؤسس الراحل وهو الذي عايشه على مدى 30 عاماً، يقول الهاشم: “هو من رواد الثقافة الملتزمة قضايا الإنسان في البقاع الشمالي ولبنان، شاعر التزم الحداثة في فكره وكتاباته وسلوكه، أغنى المكتبة اللبنانية بدواوين شعرية وروايات ومجموعات قصصية ودراسات حول الحداثة والشعر الشعبي في البقاع الشمالي.

عرفته منذ ثلاثين عاماً، أخاً وصديقاً، شاعر شفّاف كالضوء، حرٌّ يلتزم حدوده محترماً حرية الآخرين، الإنسانية دينه وعقيدته، مؤمن بالله وبالخير المطلق”.

وفيما يخصُّ الحركة أكّد الهاشم أنّها تأسّست في 1 أيلول 1992 كجمعيّة حسب العلم والخبر رقم 533/ أد. وأنَّها كانت فكرة محمود نون، أمّا هيئتها التأسيسيّة فتألّفت من سهام قاسم العفي، أحمد علي الحجيري، محمد مصطفى زيدان، جميلة ابراهيم بلوط، فضيل نايف المولى ومحمد مهدي المولى، بالإضافة للراحل، ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى الحضور النسائي الدائم في كل هيئاتها الإدارية منذ التأسيس.

الراحل محمود نون بريشة التشكيلية خولة الطفيلي

وعن هوية الجمعية وأهدافها أضاف الهاشم أنّها تعنى بشؤون الأدب والشعر والفن والثقافة بعيدًا عن الحزبية والطائفية والتبعية، تتبنّى الحداثة وتسعى لإرساء تيارها في الشعر والأدب، كما تعمل على تنشيط الإهتمام بالآداب الإنسانيّة والفنون، ورفع مستوى الوعي الجماعي في البقاع خصوصًا ولبنان عمومًا.

وعن حيثيات نشاطاتها أوضح الهاشم “منذ اللحظة الأولى اتخذ المؤسسون القنديل الريفي شعاراً للحركة، بحيث يكون الشعر، والفكر البنّاء زيتاً لقنديل الإبداع والجمال في البقاع، حيث كانت الندوات واللقاءات الدورية تقام في صالات المدارس، وقاعات النوادي، وبيت الأستاذ محمود، وبيوت الأعضاء من قرى البقاع الشمالي، وكانت تضم النخب الثقافية من كل لبنان، بالتعاون مع الجمعيات الثقافية المهتمة بالشان، وعلى رأسها إتحاد الكتَّاب اللبنانيين، وعديد المنتديات والمراكز الثقافية”.

وأشار في نهاية الحوار إلى واحد من أهم إنجازات الحركة: “لقد طُبع على اسم حركة الريف الثقافية 126 كتاباً حتى تاريخه، تنوّعت بين الشعر والقصة والرواية والدراسات الجامعية والأكاديمية، لكبار الكتّاب اللبنانيين”.

لقد طُبع على اسم حركة الريف الثقافية 126 كتاباً حتى تاريخه، تنوّعت بين الشعر والقصة والرواية والدراسات الجامعية والأكاديمية، لكبار الكتّاب اللبنانيين

بروفايل:

محمود أسعد نون (1952-2023)
شاعر وباحث وقاص لبناني مواليد حربتا قضاء بعلبك
مؤسس حركة الريف الثقافية 1992
مؤسس ملتقى الحوار الأدبي في البقاع 1996
عضو هيئة إدارية في اتحاد الكتاب اللبنانيين (1997-2001 و2006-2008)
عضو اتحاد الكتّاب العرب
عضو الأمانة العامة للتراث والثقافة الشعبية العربية
عضو الهيئة التأسيسية لاتحاد الفولكلوريين العرب

صدر له:

النهر أنت والبحر مداك – شعر – 1991
العودة – قصة طويلة – 1996
نوافذ المطر – شعر – 1997
البجع الأبيض – قصص قصيرة – 1999
الشعر الشعبي في البقاع – دراسة – 1999
الشرفة والضوء – شعر – 2006
بنية العلاج الروحاني وأدواته – دراسة – 2006
حبات العقيق – قصص قصيرة جدا – 2008
قلق الذات الشاعرة – دراسة – 2009
بالإضافة إلى أعمال أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى