حسن كحيل خزّان الذاكرة التعليميّة في النبطيّة
في تمّوز المقبل، يتمّم المربّي الأستاذ حسن علي كحيل عامه الرابع بعد التسعين (1929)، ولا يزال “المدير” الأشهر في النبطيّة وقضائها يتمتّع بذاكرة وقّادة تروي التفاصيل والأسماء، وكأنّه تعرّف إليها البارحة، والمفارقة في أنّه يتذكّر تلامذته وأسماءهم وهم في عمر الفتوّة من خلال صور الأسود والأبيض، صور زمانه، حتى تلك التي لم يسبق له أن شاهدها، فيدلّك على فلان ابن فلان ويذكر مسقط رأسه، مع العلم أنّ العديد من هذه الأسماء والشخصيّات قد غادرت الدنيا منذ زمن طويل.
مارس المربّي كحيل الإدارة أكثر من 22 عاماً متواصلة، ليسجلّ رقماً قياسياً في إدارة ثانوية حسن كامل الصبّاح التي بدأها في العام 1971، وغادرها في العام 1993 لبلوغه السنّ القانونيّة، ما يعني أنّه بدأها في سنّ الثانية والأربعين. وقد عايش جيل الأساتذة الأوائل والمديرين، ممّن قامت على أيديهم وجهودهم وتفانيهم المدرسة الرسميّة في النبطيّة، إن لم نقل في جنوب لبنان.
رحلة كحيل مع الدراسة والتعليم بدأت باكراً جدّاً، ففي سنة 1944 “وقبل ولادة الكثيرين من أبناء النبطية” نال السرتفيكا باللغتين العربيّة والأجنبيّة، بامتحان خطّي وشفهيّ. بعدها راح إلى حيفا بفلسطين ليشتغل هناك في عطلة الصيف، وعاد بمبلغ من المال ساعده على الالتحاق بصفّ البريفيه (1946- 1947) وإنهائه بنجاح.
“القرويّ في المدينة” والرقم 147
كانت دار المعلّمين والمعلّمات هدف كحيل، ومن بالغ طموحاته “كانت الوحيدة في لبنان والأعلى رسميّاً بدليل أنّ من يمنح شهادتها هو رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة في عهد الاستقلال. وصلتُ إلى شارع ترابو تحت شارع عبد الوهاب الإنكليزيّ في بيروت، نهار السبت، وكان امتحان الدخول نهار الاثنين، والفاصل بينهما نهار الأحد والدوائر مقفلة، لم أكن أحمل مستنداً واحداً من المطلوب: شهادة رسمية، سجل عدلي، إخراج قيد، وكنت “القرويّ في المدينة”. قيّض الله لي أستاذاً كبير القلب يظهر أنّه لاحظ احمرار وجهي فسارع إلى التخفيف من اضطرابي وقال: “سأكتب اسمك ورقمك بقلم الرصاص: رقمك 147 وهو الرقم الأخير، فإذا نجحت سنطلب منك المستندات”. إنّه الدكتور أحمد مكّي. كان مدير الدار الدكتور فؤاد افرام البستاني وهو الذي أصبح أوّل رئيس للجامعة اللبنانيّة يوم إنشائها في العام 1953 وتلاه مساعده الأوّل الدكتور مكي”.
في العام 1944 نال السرتفيكا باللغتين العربيّة والأجنبيّة، بعدها راح إلى حيفا بفلسطين ليشتغل هناك في عطلة الصيف، وفي العام 1949 نجح في دار المعلمين بشهادة يمنحها رئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري
نجح كحيل بالدخول مع 31 طالباً، وتخرّج في العام 1949 بشهادة يمنحها رئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري. عرض فؤاد افرام البستاني على كحيل أن يلتحق بمدرسة قرب “النهر” في منطقة الأرمن، “فرفضتُ عرضه وكان قوله الذي لا أنساه الجنوبيّون كالسمك إذا خرج من الماء يموت”.
بدأ كحيل سنته التعليميّة الأولى في العام 1949، في مدرسة العديسة (مرجعيون) الرسميّة معلماً لمادة الرياضيات، وكان يذهب إليها على دراجة نارية (أكثر من 25 كيلومتراً) من نوع “بيجو” طويلة. بعدها انتقل للتعليم في النبطيّة الفوقا، بناء على مقايضة مع المعلّم حسين عجمي صهر العديسة. وبعد سنة التحق بمدرسة النبطيّة الرسميّة للصبيان وبقي فيها سنوات عديدة بعدما أحرز نجاحاً مميّزاً في تدريس تلامذة السرتفيكا والتكميليّ، بعدها انتقل إلى تكميليّة البنات (1958) بواسطة المفتّش التربويّ محمد الصوفي “وكنت أوّل شخص (ذكر) ينتقل إلى تكميليّة البنات في الجنوب اللبناني. اعترض مدير مدرسة الصبيان (عبد اللطيف فياض) قائلاً: “سأثيرها دينيّاً إذا نقلتم حسن كحيل من مدرستنا”. فكان الرد: “نريد أن نعوّم صف البريفيه في تكميليّة المحافر (البنات)”.
معلّماً في النبطية
بلور التعليم في المرحلتين الابتدائيّة والتكميليّة شخصيّة الأستاذ حسن وتجربته التربويّة، وصُنّف “أستاذاً” بموافقة مجلس الخدمة المدنيّة وموافقة رئاسة مجلس الوزراء ورئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة بمرسوم يحمل الرقم 11156 تاريخ 16/11/1961 “باسم حسن كحيل فقط”.
انتقل إلى تكميليّة البنات (1958) “وكنت أوّل شخص (ذكر) ينتقل إلى تكميليّة البنات في الجنوب اللبناني. اعترض مدير مدرسة الصبيان قائلاً: “سأثيرها دينيّاً إذا نقلتم حسن كحيل من مدرستنا
أُلحق كحيل بثانويّة النبطيّة الرسميّة بعد مخاض عسير، وكان مدير التعليم الثانويّ آنذاك نزار سلهب “لا أعرفه، وفي الجنوب اللبنانيّ كلّه كانت أربع ثانويّات فقط. اصطدمت مع سعادته بداية عندما سألني: “أين تحبّ أن تكون يا حسن، في النبطيّة أو صيدا أو صور أو بنت جبيل؟” وعندما قلت له: في النبطيّة أولاً وفي صيدا بعدها، أجابني: “ما في بالنبطيّة أو في صيدا، أمامك صور أو بنت جبيل” انفعلتُ وأجبته فوراً: لماذا سألتني، ألحقني بالثانويّة التي تريد من دون سؤالي؟ لم يعجبه جوابي، فاستشاط غضباً وردّد كلمة “ما في” أكثر من مرّة. وبما أنّ الجرة انكسرت بيني وبينه، كبّرتُ الدّوز، ما دفعه إلى إغلاق باب مكتبه بقوّة”، يروي كحيل.
يومها، سأل رئيس دائرة التعليم الثانوي كحيل باستهجان: “شو عملت يا حسن؟ هذا رئيسك، دبّر راسك”. شكى الأستاذ حسن همّه إلى النائب عدنان الحكيم (رئيس حزب النجادة)، وكان لا سابق معرفة له به، اقترح عليه الفكرة أحد الأساتذة في الدائرة. لم يكذب الخبر، زاره في بيته وشكى له همّه، فاستنكر ما جرى له وقال له: “اذهب إليه ولا تستحي منه ولا تقبل إلاّ بالنبطية”. ذهب إليه في اليوم التالي فوجده بانتظاره “سبحان مغير الأحوال، (تلقى اتصالاً يقول: حسن كحيل نحتاجه في النبطية) حاول إغرائي بثانويّة صيدا متعهّداً أن ينقلني في العام التالي إلى ثانويّة النبطيّة، اقترحت عليه حلّاً فجئت إلى النبطيّة مكان الأستاذ رفيق بنداق من بيروت الذي نقل إلى صيدا، حيث المسافة أقرب إلى بيروت”.
بعدما رُفض طلبه أن يكون معلماً في النبطية، شكا الأستاذ حسن همّه إلى النائب عدنان الحكيم (رئيس حزب النجادة)، وكان لا سابق معرفة له به.
في العام 1963 طُلب إلى الأستاذ حسن تدريب وكلاء المعلّمين في مدارس محافظة صيدا بمادّة الرياضيّات، بهدف تثبيت وكلاء المعلّمين وتسميتهم مدرّسين وإعطاء الناجحين درجة ترقية.
تلاميذ كحيل.. وزراء ونواب
في العام التالي تعاقد مع دار المعلّمين والمعلّمات في صيدا، وكانت الوحيدة في الجنوب، لتعليم مادّة الرياضيّات، وكانت برئاسة الأستاذ نزيه الخطيب “بقيتُ فيها حتى استلمت إدارة ثانوية حسن كامل الصبّاح الرسميّة، ومن تلاميذي في الدار: الدكتورة دلال عباس، الدكتور (الراحل) جميل طفيلي، الوزير (الراحل)علي قانصو، رئيسة لجنة التربية النيابيّة النائب بهيّة الحريري والنائب (الراحل) جورج نجم”.
سنة 1965 طُلب إليه مجدّداً تدريب وكلاء معلّمين في قضاء النبطية “هنا وقفتُ محتاراً أمام أمر كان لا مفرّ منه، فرُض عليّ فرضاً، خالي (المربي الراحل عبد الكريم وهبي) الذي علّمني وتتلمذتُ على يديه وكان مثلي الأعلى، رفض الالتحاق بالدّورة، رجوت الأستاذين (الراحلين) سامي صبّاح ومحمّد سرحان، فأقنعاه وكان الأوّل على الدورة”.
عُيّن في العام 1971 مديراً لثانوية النبطيّة من دون علمه، وكانت تسمّى “ثانوية حسن كامل الصبّاح الرسميّة للبنين، الفرع الفرنسي” وكان وزير التربية آنذاك الدكتور نجيب أبو حيدر. بعد سنة أرسل الوزير كتاباً يطلب فيه تسجيل طالبين راسبين في البكالوريا القسم الأول، بصفوفهما “وهو أمر ممنوع بانتظار صفوف الإعادة. نسي معاليه الأمر، وصلته شكوى، غضب وأحالني إليه بكتاب فيه كلمة واحدة “لمراجعتي” وإلى التفتيش. وأخيراً أسكته مدير التعليم الثانوي الذي عرف الحيثيّات”.
هذا ما حصل مع الدكتور ألبير مخيبر
ويوم كان الدكتور ألبير مخيبر وزيراً للتربية “أتحفنا بكتاب يطلب فيه ترفيع خمسة تلامذة راسبين في الأول الثانويّ إلى الثاني ثانوي، نزولاً عند طلب نائب عزيز عليه، عندما اشتدّ الضغط لترفيعهم، عملاً بكتاب أعلى مرجع في وزارة التربية الوطنية، اتّصلتُ بمدير التعليم الثانويّ الذي اتّصل بدوره بالمدير العام روجيه شمالي. استدعيتُ إلى بيروت وقابلنا الوزير أنا والمدير العام، فاختلف الوزير مع المدير العام وارتفعت الأصوات، غادر المدير العام غرفة الوزير منفعلاً، تبعته وأقنعته بالعودة، وأخيراً تراجع الوزير وكتب بإمكانهم الإعادة”.
من تلاميذ الأستاذ كحيل في الدار: الدكتورة دلال عباس، الدكتور (الراحل) جميل طفيلي، الوزير (الراحل) علي قانصو، النائب بهيّة الحريري والنائب (الراحل) جورج نجم.
لم تكن الإدارة في ثانوية الصباح هيّنة، خصوصاً بعد اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1975، وبروز قيادات طلابيّة حزبيّة، ومشاركة التلامذة في إضرابات وتظاهرات واضطرار المدير كحيل إلى اللحاق بهم والعمل على إعادتهم إلى صفوفهم لمواصلة تدريسهم. وكانت مدينة النبطية قد بدأت تتعرض للقصف الإسرائيليّ منذ 1974، ثم للاحتلال الإسرائيليّ المباشر سنة 1982 وانكفاء الاحتلال إلى التلال المشرفة على المدينة ومنطقتها سنة 1985 وما تعرّضت له من قصف مباشر كان يوقع القتلى والجرحى والخراب، ما اضطرّ الوزارة إلى استحداث ثانويّتين للتخفيف على التلامذة، واحدة في جباع (إقليم التفاح) والأخرى في جبشيت، وكانتا بإدارة الأستاذ حسن عبر أساتذة معينين، ناهيك عن أنّه استحدث فرعاً للّغة الإنكليزيّة في الثانويّة الرسميّة الأمّ.
الأستاذ حسن والتصوير الفوتوغرافي
من هوايات الأستاذ حسن كحيل القديمة المعروفة، التصوير الفوتوغرافيّ، وكان يمتلك كاميرة مجهّزة بمؤقّت للتصوير، فلم يترك صورة إلى وتصوّر مع زملائه من مديرين وأساتذة بعد وضع كاميرته على مثبّت “سيبة” (الحامل الثلاثي) وتجهيزها بالإعدادات والمؤقّت، فأرّخ بالصورة واللقطات لحقبة من ذاكرة النبطيّة، للهيئات التعليميّة في مدارسها، وللعشرات من تلاميذه، إذ كان يلتقط لهم صوراً بمشاركته، أو منفردين. وقد سجّل بالصور سنوات البريفيه الأولى في تكميليّة البنات (وكانت تعرف بتكميليّة المحافر نسبة إلى الموقع الكائن في أعلى حي البياض في النبطية) التي كانت تديرها المربّية الراحلة فريحة الحاج علي، وكان أوّل أستاذ ذكر فيها، ومن تلميذاته الدكتورة فهميّة شرف الدين (باحثة في مجال حقوق المرأة والعلوم الاجتماعية والعلوم السياسية. خبيرة في مجال حقوق الإنسان ودمج النوع الاجتماعي في وكالات دولية مثل الاسكوا واليونيفم وبرنامج الامم المتحدة الانمائي والاونيسكو)، والفنّانة الأديبة الدكتورة نوال فيّاض والعديد من معلمّات النبطيّة.
في تقاعده، في العام 1993، منح الأستاذ حسن كحيل باحتفال حاشد جرى برعاية وزارة التربية في الثانوية التي أدارها 22 عاماً، وسام المعلّم من الدرجة الأولى “تقديراً لخدماته وتضحياته الطويلة في حقل الوظيفة العامّة وفي مجال التربية والتعليم الثانويّ الرسميّ والإدارة المدرسيّة، وتثميناً لجهوده وانضباطه المسلكيّ وإخلاصه وتفانيه في هذه المجالات”.