حكاية “الفريك” البلدي في بلدة دير سريان الجنوبية
هجّرت الحروب الإسرائيليّة المتكررة على جنوب لبنان، لا سيما على البلدات والقرى الحدوديّة مع فلسطين المحتلة، الآلاف من أبناء المنطقة، فغادروها مرغمين بحثاً عن حياة أفضل بعيداً عن القصف والدمار، وعن التعليم والمدارس العليا ومصادر العيش، لكنّها لم تهجّر الزراعة من أكثر هذه البلدات، فبقيت المصدر الأول للقاطنين فيها، حتى بعد التحرير في العام 2000.
في قرية دير سريان في قضاء مرجعيون (محافظة النبطية)، تكاد الزراعة تشكّل عصب الحياة للمقيمين في البلدة من أهلها، وفي طليعتها زراعة الحبوب كالقمح والسمسم وبعض حقول التبغ. لكن ثمّة إنتاجاً متميزاً في دير سريان وجارتها القصير، هو الفريك البلدي، أيّ القمح المشويّ والمُدخَّن، ونقول إنتاجاً وليس زراعة لأنّه يخضع لمراحل شبه تصنيعيّة قبل أن يصبح في التدوال جاهزاً للطبخ.
يزرع أبناء دير سريان والقصير، إلى العشرات من البلدات والقرى الجنوبية الحنطة في حقولهم ذات التربة الحمراء، ويقوم بعض المزارعين بحصد كمّيّة من سنابل القمح في مرحلة النضج قبل الجفاف واليباس، يعني في مرحلة الطراوة تحضيراً للفريك المَحَلّي، الذي تطلق عليه تسمية البلديّ، فمنهم من يحصد حاجته البيتيّة، ومنهم من يحصد كمّيّات كبيرة للتجارة، خصوصاً أن للفريك شعبيّة واسعة تؤْثره “بلديّاً” على المستورد، وجلّه من سوريا.
ثمّة إنتاجًا متميزًا في دير سريان وجارتها القصير، هو الفريك البلدي، أيّ القمح المشويّ والمُدخَّن، ونقول إنتاجاً وليس زراعة لأنّه يخضع لمراحل شبه تصنيعيّة قبل أن يصبح في التدوال جاهزاً للطبخ.
تبدأ حكاية الفريك البلدي في دير سريان منذ عشرات السنين حيث كانت معظم بيوت البلدة، التي تنتشر فيها الحقول الزراعيّة على نحو سبعة آلاف دونم، (تصل إلى حدود نهر الليطاني حيث تصبح منطقة حرجيّة) تقوم بزراعة القمح وإنتاج الفريك المحلّي. وكان أبناء الجوار يقصدون القرية بحثاً عن هذه المادّة الغنيّة غذائياً كونها تُعدّ “على أصولها” في دير سريان.
أمّا الأصول فيقول عنها المزارع حبيب ناصر من دير سريان: “أي أنّ القمح تُقطع سنابله في الموسم المحدّد، يعني في مرحلة النضج وهو طريّ، قبل أن يصفرّ، ويُشوى مباشرة على الطرق التقليديّة القديمة، أيّ أنّ السنابل تُنشر على “رفّاص” سرير حديديّ يرتفع بين 30 و35 سنتيمتراً عن الأرض، وتوضع تحته الأعشاب الجافّة، وأهمّها البلّان اليابس ثم تُشعل ليحترق فوقها القمح “الأخضر” ببطء وسط دخان كثيف، هذا الدخان هو الذي يعطي للفريك نكهة مميّزة وجودة يبحث عنها كثيرون من هواة هذا الطعام وراغبيه”.
يضيف ناصر: “ثمّة وسائل أخرى معتمدة في شيّ الفريك في العديد من القرى الجنوبية، منها حرقه بمشاعل على الغاز، لكن نحن نرفض هذا الأمر حفاظاً على جودة منتوجنا، صحيح أن القمح سيشوى بطريقة الغاز، بيد أنّه سيفتقد حتماً إلى أهم نكهة تميّز الفريك البلدي عن غيره، إلى أن يكون مُدخّناً، ومن يتذوق طعم الفريك البلدي، يدرك ما قيمة أن يكون مدخّناً”.
مع تراكم الأزمة المعيشية، بات إنتاج الفريك مصدر دخل مقبول للعديد من المزارعين “ففي دير سريان والقصير هناك نحو عشرة مزارعين يشتغلون في إنتاج الفريك، خصوصاً بعدما زاد الطلب عليه في مقابل الفريك السوري المستورد الذي لا يشبه الفريك البلدي في خواصّه ونظافته، فهناك من يحجز مؤونته من الفريك قبل أشهر من تاريخ إعداده، ومنهم من العام المنصرم”.
من هؤلاء المزارعين حبيب ناصر، محمد ناصر، شوقي كريم، محمد صولي، سليم كريم، علي سعد من دير سريان وعلي سعد من القصير. ينتج كل مزارع منهم بين 1500 و2500 كيلو غرام من الفريك “يباع جلّ الكمية التي تتراوح بين 15 طنّاً وعشرين طنّاً، لزبائن معيّنين في المنطقة وفي خارجها، وللمونة البيتية وليس للتجّار، لأنّ التاجر سيقسم المزارع تعبه وربحه من دون أن يتعب في الحصول عليه، وهو اليوم يبيع المستورد السوري بسعر الفريك البلدي، أيّ بنحو 350 ألف ليرة للكيلوغرام الواحد، ويربح فيه أكثر، فكيف له أن ينصف المزارع المحلّي؟” يقول محمد ناصر.
يشتغل 12 عاملة وعاملاً في ورشة حبيب ناصر، يتناوبون منذ الصباح الباكر على حصد القمح في الحقول، إنّما من أعلاه، أيّ يقومون بقطع السبلات الملآى من دون السيقان وتجميعها في أكياس كبيرة، ثم نقلها بواسطة جرّار زراعيّ إلى مسرح الشيّ. “هنا تنشر الغمار على رفّاصات فتشوى وتُجمع، ثم تُنقل إلى غرف لا تدخلها الشمس أو إلى مستودعات وتبقى فيه من 10 أيام إلى 15 يوماً، بعد أن يتمّ شيّ الكمّيّة المرجوّة كلّها. في موقع التخزين تقلّب السنابل المشويّة باستمرار كي لا تصيبها الرطوبة. بعدها تنقل في أكياس من الخيش إلى الدرّاسة، لفصل الحبّ عن التبن، ثم ينشر مجدّداً على بسط من قماش بعيداً عن آشعة الشمس، ويجمع أخيراً بعد خمسة أيام ويصبح المنتوج جاهزاً للبيع والطبخ” بحسب ناصر.
تبدأ زراعة القمح بين “الكانونين” الأول والثاني، في الحقول المنخفضة، التي تتجمّع فيها المياه أو تتخزّن أكثر من غيرها، وينضج بين أيار وحزيران، معتمداً على ريّ السماء، فيكون شبه بَعْليّ. أمّا حبوب القمح التي يعيد بذرها مزارعو دير سريان في الموسم التالي، يلفت ناصر إلى أنها “تجمع من الحقول التي تقطع منها سبلات الفريك، كونها تُقطع من فوق، فنعيد حصدها ثم درسها، وما يتأتّى من حبوب نخزّنها لنزرعها في الموسم المقبل، ونبيع التبن علفاً للحيوانات”.
يشكّل إنتاج الفريك البلدي دورة حياة في القرى الزراعيّة، يستفيد منها المزارع والعامل وصاحب الدرّاسة والجاروشة وغيرهم من الباعة والأفران، ويشكّل مادة مغرية مطلوبة للباحثين عن فريك مؤكد المصدر والجودة والطعم.
حارس الشّيّ
يراقب حارس السنابل والنّار “الطبخة” بعناية فائقة، فينشر عيدان البلاّن المجموع سابقاً من الحقول والتلال، تحت الرفاص بتوزيع متجانس، ويشعلها في أكثر من جهة في وقت واحد، وبعد تصاعد ألسنة النار نحو القمح “المسطّح” فوق الرفاّص، يعسُّ الاحتراق فيبعث دخاناً كثيفاً، هنا يبدأ حارس النار تقليب القمح بين النار والدخان، ومراقبته بدقّة لدقائق قليلة جدّاً، تلعب الخبرة دوراً بارزاً فيها. وبعد التأكّد من أنّ القمح شُويَ على النّحو المطلوب ونال حظّه الوافر من الدخان، تُعزل النار عنه، ويمكن أن تُجعل السّنابل النّاضجة في داخل الرماد الحامي أو الدّافئ مدّة إضافيّة، حتى تكون حبوب الفريك قد اختمرت ونالت حاجتها من الشّيّ والنكهة.
قديماً، كانت تجُمع السنابل الملفوحة بالسواد، فوق بسط من قماش أو نايلون وتترك أيّاماً بعيدة عن آشعة الشمس. ثمّ يلجأ المزارع إلى فضّها بالمدقّة الخشبيّة، حتى يتأكّد أنّ الحَبّ انفصل عن القشّ. بعدها ينتقل إلى مرحلة الغربلة وربما التنخيل، لعزل الحبوب عن الشوائب والتّبن بانتظار جرشها أو تكسيرها.
فريك جنوبيّ نظيف
لطالما عملت أيادي النّسوة الجنوبيّات في جرش حبوب الفريك بواسطة الجاروشة الحجريّة القديمة، التي لم يكن يخلو من وجودها أيّ بيت جنوبيّ، لأنّها كانت من المعدّات اليدويّة الضّروريّة في جرش الفريك، إذ كان يخزّن حبّاً كاملاً وليس مجروشاً. أمّا اليوم، فإنّ العديد من المزارعين الجنوبيّين باتوا يسهّلون على أنفسهم عناء الجرش اليدويّ وصاروا يجرشون “حبوبهم” خشنةً في جاروشة “الضّيعة” ضمن مواصفات وخصائص محدّدة، لإعداد فريك جنوبيّ نظيف، لا يُعرف بغير الفريك البلدي، وهذا الفريك سعره أغلى من سعر الفريك المنتشر بالأسواق.
يُعدّ الفريك طعاماً محبّباً عند كثيرين من أبناء الجنوب، ويُطلب محلّياً وعلى مستوى البلاد، لأنّه طالع من أرض طيّبة ويشوى بعناية، وينظّف بوسائل يدويّة شبه بدائيّة، ثم يجرش في جاروشة الضيعة، ما يعني أنه مراقب من الحقل إلى المطبخ.
تنقّي ربّة البيت الفريك قبل جرشه، حبّة حبّة، حفاظاً على نظافته وجودته، بالرغم من ثقتها بمصدره، إذ تعتبره معرّضاً في أثناء درسه ونشره لغزو الشوائب. وبرزت أخيراً بعض الجمعيّات أو التجمّعات النسائيّة التي تُعنى بإعداد المؤونة البيتيّة البلديّة ومنها “الفريك البلديّ” وتقوم السيدات بتنظيف المنتوج قبل بيعه، عبر تنقيته من الشوائب وتخزينه بوسائل صحيّة وبيئيّة مضمونة، بعدما أمّنت “لمنتوجاتها” مجموعة من الزبائن التي تعتمد على الثقة المتبادلة.
يعدّ الجنوبيّون الفريك مُفلفلاً أو شوربا، و”أطيبه عندما يطبخ كبسة”. تأتي كاملة ظاهر بالفريك المجروش وتغسله بالماء، ثم تضعه في وعاء يغلى فيه الدجاج وتضيف إليه البهارات. إلى الفريك والدجاج المسلوق، تضيف البصل المقليّ بالزيت، بعدها يغلى المزيج حتى يمشّك، (أي ينعقد) ويقدّم شوربا إلى المائدة، هذه الشوربا تُعدّ بكثرة للصائمين في خلال شهر رمضان.
“أكلة” (وجبة) الفريك المدلّلة عند الجنوبيّين، تلك التي تفلفل كالرّز. تغسل ظاهر الفريك وتنقعه بالماء البارد مدّة ساعة. ثمّ “نقلّي شرائح بصلة مع زيت قليل على نار خفيفة، بعدما نكون قد سلقنا اللحم على حدة، قطعاً كبيرة (يمكن الاستعاضة عنها بالدجاج) ثم نضيف القمح إلى “التقلاية”، ويقلب على نار خفيفة بعد إضافة كمّيّة من مياه اللحم المسلوق (أو الدجاج)، ويترك حتى ينضج، فيصبّ ويوضع فوقه اللحم المسلوق”.