خليل بزّي لم يترك أرضه يزرع تحت القصف وعلى خطّ النار

“أمنيتي الوحيدة أنّ أموت تحت شجرة ما أو قرب قفير نحل”، يقولها السيد خليل بزّي، إلّا أنّها أمنية تكاد أن تكون مشتركة بين مزارعي وفلّاحي جبل عامل كافة، وخصوصًا في أيامنا الحاليّة.

خليل بزّي مزارع منذ الطفولة، ومربّ للنحل منذ سنوات عديدة، أحبّ الأرض فأعطاها، لتعطيه خيرًا وفيرًا ورزقًا مباركًا. وحتّى في أصعب الظروف وأخطرها لم يتركها، مصرًا على أنّ “هذه الأرض لنا”. بين الزيتون والليمون، بين القمح والنحل، وبين الشجر والثمر، يتنقّل بزّي، حاملًا معوله فوق كتفه، غير آبه بالطائرات الحربيّة والمسيّرات الإسرائيليّة التي لا تفارق سماء بنت جبيل.

في حقله الواقع في منطقة الوادي في بنت جبيل، وهي إحدى المساحات القريبة جدًّا من بلدة يارون التي تتعرّض يوميًّا لأعنف الغارات الإسرائيليّة، يواصل بزّي عمله. يحرث ويزرع ويحصد، ويعمل يوميًّا أكثر من 10 ساعات، مؤكّدًا أنّ “الحامي الله”.

خليل بزي الذي لم يترك أرضه في بنت جبيل
تربية النحل تلاصق حياته

منذ أكثر من 50 عامًا، أحبّ خليل بزّي، الطفل آنذاك، مهنة تربية النحل. لم يكن يعلم أنّ تلك الرحلة ستطول ليصبح من أكثر مربّي النحل شهرة في قضاء بنت جبيل. كان ينتج في “أيّام اللولو” نحو ألف كيلوغرام من العسل، “لم يكن هناك مبيدات ولا أدوية ولا أمراض، كانت تربية النحل في عزّها”، يقول بزّي في حديث لـ”مناطق نت”.

وفي هذا السياق، يعتقد بزّي أنّه “لا بدّ من أن يأتي يوم ونفقد هذه المهنة، بسبب كثرة الأمراض واستعمال المبيدات، بالإضافة إلى غياب الدعم من الجهات المعنيّة”.

قبل الحرب كان بزّي ينقل قفران النحل التي يملكها بين ثلاثة مناطق وهي: صيدا وجون في خلال انعقاد زهر الإكيدنيا، وسهل القليلة بالتزامن مع تفتّح زهر الليمون، ثم يعود بها أخيرًا إلى منطقة بنت جبيل. أمّا اليوم فينقلها فقط إلى سهل القليلة قرب صور، على الرغم من خطورة الوضع هناك، حيث تمّ استهداف المنطقة مرّات عديدة، لكن لا شيء يمكن أن يمنع خليل بزّي من ممارسة شغفه، “حتّى الغارات الإسرائيليّة الغادرة”، يكرّر ذلك ويردّده.

منذ أكثر من 50 عامًا، أحبّ خليل بزّي، الطفل آنذاك، مهنة تربية النحل. لم يكن يعلم أنّ تلك الرحلة ستطول ليصبح من أكثر مربّي النحل شهرة في قضاء بنت جبيل.

يصرّ بزّي على أنّ الأسواق مليئة بالعسل “المغشوش”، يقول: “قليلون هم من ينتجون العسل الطبيعيّ وبأنواع متعدّدة”. لكن من يقصدونه يعرفون تمامًا جودة العسل الذي ينتجه. إضافة إلى ذلك، ينتج بزّي الشمع الطبيعيّ، والذي يساهم في علاج بعض الأمراض والآلام.

الزراعة إكسير حياة

عدا عن تربية النحل، يقضي المزارع خليل بزّي أيّامه في الحقول، يحرثها ثمّ يزرعها تحضيرًا لحصادها يوم يحين موعده. يمضي في أرضه الواقعة في منطقة الوادي ساعات وساعات، فيما لا تفارق الطائرات الحربيّة السماء. وعلى رغم ذلك، لا يبدّل هذا الوضع شيئًا في إنتاجيّته أو نشاطاته الزراعيّة.

لا تقتصر زراعته على نوع محدّد، فهو “مسبّع” الزراعات. قمح، عدس، شعير وغيرها من الحبوب والخضروات المختلفة، في حقول تصل مساحتها إلى أكثر من 22 دونمًا. كلّ ذلك من دون أن يطلب مؤازرة أو عونًا من أحد، فهو من يزرع ثم يحصد.

بالإضافة إلى ذلك، يملك بزّي نحو 800 شجرة زيتون يصل عمر أكبرها إلى 150 سنة، فقط في موسم القطاف يستعين بالعمال. وينتج من موسم الزيتون قرابة مئة تنكة من زيت الزيتون. “هذه السنة وعلى رغم أنّ كثيرين من أصحاب الرزق لم يستطيعوا جني مواسمهم، أصرّيت ألّا أترك تعبي وجنى المحصول يضيع هدرًا، فقمت “بتحويشه” على الرغم من القصف والمخاطر الكبيرة التي رافقت ذلك” يقول.

زراعات بزّي كثيرة ومتنوّعة، ما كانت لتزهر لولا يداه الخضراوتان، فبالإضافة إلى أنواع المزروعات التي ذكرناها آنفًا، وبفضل تلك اليدين تنتصب في حقول بزّي اليوم نحو 120 شجرة لوز، وذلك لأهمّيّة زهره في إنتاج العسل. كما زرع 80 شجرة خرّوب، لفوائده المتعدّدة. عدا عن المساحات الواسعة المزروعة بالصعتر، الزراعة التي باتت تنشط اليوم في الجنوب، وكذلك السمّاق.

جانب من أقفار النحل التي يعتني بها خليل بزي في بنت جبيل

لا يكتفي خليل بزّي المزارع الجنوبيّ الصامد بهذا القدر من الزراعات، فطالما هناك مساحة أرض بحاجة إلى زراعة تراه فورًا يلبّي النداء. وها أنّه اليوم وعلى أبواب الموسم الصيفيّ ينشط بزراعة “الصحاري”، أيّ البندورة والمقتي (القثّاء) والكوسى وغيرها. “نريد أن نأكل ممّا نزرع ومن خير أراضينا، مهما حاولوا أن يمنعونا”، يقول بزّي في حديثه لـ”مناطق نت” ويردف: “ما انقطعت ولا يوم عن شغل الأرض، بعتبر الأرض جزء منّي. الشجرة عم تحكيني، النحلة عم تحكيني، إذا قصّرت بالزراعة أو تربية النحل بعتبر كأنّي ما قمت بواجبي”.

صاحب الأرض سلطان

إلى جانب الزراعة وتربية النحل، يقوم بزّي بتربية الدجاج والبقر وبعض المواشي، وذلك في سبيل جعل مشروعه متكاملًا، مشكّلًا بذلك مزرعة يحتذى بها، وخصوصًا في ظلّ تراجع قطاع الزراعة وتربية الدواجن والمواشي في مدينة بنت جبيل مقارنة بالبلدات المجاورة. “بقوم فيهن كلّن لحالي”، يفتخر بزّي بإنجازه، فهو المزارع، المربّي، الفلّاح، القاطف والحاصد. يمضي نصف ساعات النهار، يتنقّل بين هنا وهناك وبين المخاطر، مثبتًا معادلة جديدة “صاحب الأرض سلطان”.

بين المواسم يتنقّل خليل بزّي، وبين التلال والكروم، يجمع الحطب وقمح البلاد، في السهل الخصب وحكايا الطفولة.. يمكث هنا رافضًا أن يترك أرضه ولو ليوم واحد. يفلح اليوم، ليزرع غدًا، وحينما يحين موعد المواسم يجني الرزق، محمّلًا برائحة من ذهبوا باكرًا لتبقى هذه الأرض لناسها. وناسها هم الذين يشبهون المزارع خليل بزّي، بسمرتهم وأياديهم المتشقّقة على مرّ الأيام، وقلوبهم التي لا تعرف سوى وجهة واحدة، وهي جبل عامل. أمام كلّ ما سبق، نكرّر اليوم وكلّ يوم وراء السيّدة فيروز “إذا واقف جنوب، واقف بولاده”.

زرع خليل بزي شتول البندورة في مستهل الموسم الصيفي رغم القصف والدمار
توت من خيرات أرض خليل بزي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى