دير ميماس وديرها في عين الاستهداف والخطر
ليست المرّة الأولى التي يستهدف فيها العدوّ الإسرائيليّ بلدة دير ميماس وديرها الرابض على كتف نهر الليطانيّ العابر على طول ناحيتها الغربيّة، ففي عدوان العام 2006 تعرّض “ديرميما”، حامل اسم شفيع البلدة، والكنيسة المجاورة والمدافن المحيطة لقصف بالقذائف والصواريخ من الطائرات الحربيّة ممّا أدّى إلى دمار كبير فيها، وعملت دولة قطر لاحقًا على إعادة الترميم وبناء ما تهدّم.
ففي الأسبوع الثاني من تمّوز (يوليو) الجاري تعرّضت أطراف دير ميماس إلى قصف إسرائيليّ طاول أطرافها الغربيّة، ممّا سبب اشتعال حرائق في عدد من بساتين الزيتون وأشجار السنديان المعمّرة، إذ استخدم العدوّ في قصفه قذائف فوسفوريّة وحارقة محرّمة دوليًّا أتت على مساحة أكثر من 20 دونمًا. وفي الـ16 من تمّوز تجدّد القصف الفوسفوريّ على ضفاف نهر الليطانيّ قرب ديرميما وأصابت عدّة قذائف الدير والكنيسة وأدّت إلى أضرار فيهما.
حجم الخسائر
يؤكّد رئيس بلديّة دير ميماس الطبيب جورج نكد “أنّ القصف استهدف الدير والكنيسة عند الأطراف الغربيّة للبلدة وأصابهما بأضرار جسيمة، ولقد عوّدنا العدوّ على همجيّته التي لا توفّر مدرسة وكنيسة ومسجدًا وديرًا، وها أنّه يجدّد عدوانه على ديرميما والكنيسة بعدما كان استهدفهما مع المدافن في عدوان تمّوز وآب (أغسطس) 2006 ودمّر أجزاءً كبيرة من الدير، وقد كانت لدولة قطر مساهمة لافتة في إعادة بناء ما تهدّم وتجهيز الكنيسة والدير بلوازم ومعدات وأثاث”.
ولفت نكد لـ”مناطق نت” إلى أنّ “القيّمين على الدير والوقف الأرثوذكسيّ وبعد اتّصال بقيادة الجيش اللبنانيّ واليونيفل قصدوا الدير المستهدف وقاموا بترميم الفجوات التي أحدثها القصف، بانتظار هدوء المدافع والحرب كي يصار إلى إعادة ترميم ما تهدّم أو تضرّر”.
وكان كاهن رعيّة دير ميماس الأرثوذكسيّة الأبّ سليم أسعد قد نشر على صفحة “يوميّات دير ميماس” وصفحة “الرعيّة” شريط فيديو يظهر الأضرار التي لحقت بالدير والكنيسة جرّاء القصف الإسرائيليّ. ويقول في حديث لـ”مناطق نت”: “أصابت قذيفة بشكل مباشر الطابق الأرضيّ من الدير فدمّرت جدران الغرفتين الأخيرتين وخلّعت النوافذ والشبابيك وبعثرت محتوياتهما. وأصابت الأضرار مختلف أقسام الدير، الواجهة الزجاجيّة والصالون”.
إلى حين انتهاء الحرب
ويضيف الأبّ أسعد: “هناك أضرار كثيرة في الكنيسة، من فسوخ وتشقّقات وتحطّم زجاج وفي صالون الكنيسة. ونحمد الله أنّه لم يكن أحد في المكان واقتصار الخسائر على المادّيات وهي تعوّض كلّها”.
ويشير إلى أنّ الترميم مؤجّل إلى حين انتهاء الحرب “وكلّ ما استطعنا فعله أنّنا حصلنا على إذن من اليونيفل ومن الجيش اللبنانيّ وأعطونا مهلة الأربعاء الماضي فنزلنا إلى الدير وقمنا بتسكير الفجوات باللَّبِن كي لا يدخل أيّ شيء، فالدير مملوء بالأغراض والتجهيزات، وتركنا الأضرار الأخرى إلى وقت لاحق، بعد انتهاء الحرب وعندما تسمح لنا الأوضاع الأمنيّة بإعادة الترميم وإصلاح ما تخرّب”.
خسائر حرب سابقة
ويذكّر الأب أسعد بأنّ الدير استهدف في حرب تموز وآب ودُمّر بالكامل مع أضرار جسيمة أصابت الكنيسة و55 مدفنًا. ويختم: “كلّ ما نستطيع قوله، هو أن نطلب من الله أن يرحمنا ويرحم هذا البلد، وإنّ الشكوى لغير الله مذلّة”.
في عدوان 2006، كان الدير كومة ركام من جهته الجنوبيّة الغربيّة، سببتها غارة للطيران الحربيّ، دفنت تحتها مختلف التجهيزات الخاصّة بالبناء الذي كان قائمًا من غرفتين وصالون ومراحيض.
أمّا الكنيسة التي يطلّ بابها على الدير، وكذلك على الجبل المرتفع في الغرب، جبل أرنون ويحمر، حيث تشرف قلعة الشقيف من الجهة الشماليّة الغربيّة على الدير والبلدة والكنيسة، فقد نخرت سقفها قذيفة مدفعيّة، وخلّفت أضرارًا جسيمة في الجدران والمقاعد والأيقونات التاريخيّة. فضلًا عن أضرار جسيمة ومتوّزعة في الباحة الخارجيّة، ولم توفر القذائف العشوائية معظم المدافن القريبة.
ديرميما في الذاكرة والتاريخ
بني دير “مار ميما” مطلع القرن الرابع عشر، وهو أثريّ قديم هُدم عدّة مرات وأُعيد ترميمه. والدير الذي يحمل اسم شفيع البلدة “ميما” يعني كثيرًا لأبناء دير ميماس، مع أنّهم لا يعلمون شيئًا عن بنائه الأول وشكله وهندسته؛ وهم يقيمون احتفالًا سنويًّا بتاريخ الـ15 من أيلول (سبتمبر) من كلّ عام في مناسبة عيد القدّيس (الشهيد) “مارماما” أو “مارميما”، يتضمّن قداديس ومهرجانات فلكلوريّة وتراثيّة ومعارض منتوجات قرويّة، تراجعت منذ سنوات قليلة بسبب جائحة كورونا، والانهيار الاقتصاديّ الماليّ، ثمّ الحرب الأخيرة، وتقتصر المناسبة على قداديس متواضعة ومعايدات داخليّة.
وتقول المصادر التاريخيّة إنّ الرهبان بنوا الدير نحو العام 1404، ومنه أخذت دير ميماس اسمها. وقد يكون الاسم علمًا غير ساميّ، وMimas كلمة إغريقيّة دخلت السريانيّة ومعناها المهرّج والنديم والعابث، وترجّح بعض المراجع الدينيّة أن تكون May Massa أيّ “ماء التجربة” وهو الماء (النهر وغيره) الذي كانوا يطلبون إلى المخطئ أو المشتبه به أن يخوضه، فإذا خاضه وسلم كان بريئًا وإلّا ظهرت هفوته أو جريمته. وقد ورد اسم (مسّا) في “سفر الخروج” (7:17) و”سفر تثنية الاشتراع” (6:16)”.
في عدوان 2006، كان الدير كومة ركام من جهته الجنوبيّة الغربيّة، سببتها غارة للطيران الحربيّ، دفنت تحتها مختلف التجهيزات الخاصّة بالبناء الذي كان قائمًا من غرفتين وصالون ومراحيض.
كنيسة ثمّ دير
وكان الدير عبارة عن كنيسة صغيرة يحوطها بناء مربّع الشكل يُستخدم لايواء الرهبان وإيفاء النذور، لكنّه تهدّم بسبب العوامل الطبيعيّة، فرُمّم جزء منه في أواخر الخمسينيّات، وأُعيد ترميمه عدّة مرات كان آخرها 2004 إذ أنشئت ساحة واسعة بجواره، وقبيل عدوان 2006 كانت انطلقت ورشة تأهيل الكنيسة.
يقع الدير في أسفل الجهة الشماليّة الغربيّة من دير ميماس على جرف صخريّ يطلّ على منخفض مجرى نهر الليطاني، وتحت إبط جبل الشقيف وقلعته الصليبيّة “بوفور” المرتفعة نحو 700 متر، ومن الشمال والجنوب على بساتين البلدة وكرومها وأوديتها، ومن ناحيته الشرقيّة يقف كالحارس الأمين من عميق مكانه لحماية البلدة ورعايتها. يوحي موقعه بالرهبة والصلاة والتأمّل، وبجواره يرقد الراحلون من أبناء البلدة وجميعهم من الطائفة المسيحيّة.
دير ميماس والعدوان
في العودة إلى دير ميماس البلدة، فهي لم تسلم كما ذكرنا من العدوان الذي أصاب ديرها وكنيستها، وأحرق كذلك مساحات من بساتين الزيتون وأحراج السنديان في محلّة “القصيبة” القريبة من مجرى نهر الليطاني، وهذا ما جعل الإقامة في داخل البلدة القريبة من مرجعيون عاصمة القضاء يشوبها حذر شديد، ممّا دفع عديدًا من أهلها إلى مغادرتها في الأشهر الأخيرة، نظرًا إلى صعوبة التنقّل على الطرقات المفضية إليها، ناهيك بملاصقتها بلدة كفركلا (من جنوب دير ميماس وشرقها) والتي تعرضت لوابل من القصف والغارات منذ نحو عشرة أشهر ولمّا تزل في عين الاستهداف الذي دمّر مئات من بيوتها وهجّر سكانها بالكامل.
يعيش نحو 95 في المئة من أبناء دير ميماس من ثمار بساتين الزيتون التي تكاد تغطّي البلدة برمّتها، إذ فيها أكثر من 150 ألف شجرة زيتون، جلّها من الزيتون المعمّر “معماريّ” الذي يبلغ متوسط عمره 600 عام، وتبلغ بعض الزيتونات أكثر من ألفي عام وتنتشر في عدّة حقول، منها حقول “هورا” القريبة من كفركلا. ويُستخدم نحو 70 في المئة من زيتون دير ميماس في إنتاج قرابة 200 ألف ليتر من الزيت الصافي الموصوف بجودته العالميّة، وخلوّه من ألأسيد، فحصد عدّة ميداليّات ذهبيّة منذ العام 2019، وبات ينتشر في 15 بلدًا حول العالم، ومنها لبنان.
الزيتون في خطر
لم يسلم موسم الزيتون في دير ميماس من أن يكون في دائرة الخطر بعد استهداف مساحات من البساتين بالقذائف الفوسفوريّة (الفوسفور الأبيض) والحارقة، التي لا تقتصر أضرارها على ما تحرقه من أشجار ونبات، بل بما تخلّفه من أضرار بيئيّة جسيمة في التربة تدوم سمومها ومفاعيلها سنوات وسنوات. ويتخّوف أصحاب البساتين من ألّا تسمح لهم ظروف الحرب من قطاف موسمهم الذي يحين في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، إذا ما استمرّت الحرب على وتيرتها المتصاعدة، خصوصًا وأنّ دير ميماس تقع في قلب الخطر والعدوان حتّى لو كانت بيوتها ووسطها خارج نطاق الاستهداف المباشر.
ونشير إلى أنّ دير ميماس البلدة والبساتين والأحراج، تحوطها إلى كفركلا، الخيام وبرج الملوك والعديسة والطيبة ومجرى الليطاني، وجميعها في قلب المعركة والنار، وتستهدفها الغارات الإسرائيليّة المدمرة والقصف المدفعي بشكل شبه يوميّ، وهذا ما يجعلها مطوّقة بالخطر، وربّما يعرقل ذلك عملية جني هذه المساحات الشاسعة من أشجار الزيتون وقطافها، مع العلم أنّ المزارعين وأصحاب البساتين عمدوا إلى رعايتها السنويّة المعتادة وتغذيتها بالأسمدة وتنظيفها وتأهيلها بانتظار يناع الموسم.
إطلالة على دير ميماس
يرتبط اسم دير ميماس بالنهضة العلميّة والثقافيّة التي شهدتها منطقة مرجعيون منذ نهاية القرن التاسع عشر، فأُطلق عليها لقب “منارة الجنوب”. تتعدّد مزايا البلدة وصفاتها، فمن موقع جغرافي مميّز إلى طبيعة خضراء، ومن ثروة بشرية مثقّفة ومتعلّمة إلى احتوائها على آثار تاريخيّة وتراثيّة تنمّ عن حقبات قديمة شهدتها وعايشتها، إلى موقع طبيعيّ استراتيجي جميل ولطيف جعلها نقطة مهمّة على مرّ التاريخ.
فهي تجاور قلعة الشقيف الصليبيّة ونهر الليطاني وسهل الخيام وما فيه من دلائل وآثار تعود إلى الحرب العالميّة الثانية. اللافت في دير ميماس أنّها لا تزال تحافظ على طابعها القرويّ التراثيّ إذ تنتشر فيها البيوت الحجرية القديمة والمعاصر والطرق الضيّقة، وتمتاز بكثرة الينابيع فيها التي تزيد عن 50 نبعًا، وتشتهر بصناعة الصابون البلديّ.
تقع على تلّ متدرّج من الجنوب نحو الشمال والشرق والغرب، ترتفع نحو 500 متر عن سطح البحر، وتبعد عن بيروت قرابة 90 كيلومترًا وعن مدينة النبطية عاصمة المحافظة نحو 20 كيلومترًا وعن مرجعيون نحو سبعة كيلومترات. تقارب مساحتها 12 كيلومترًا مربّعًا، ويبلغ عدد سكّانها زهاء ستة آلاف نسمة، يعيش حوالي نصفهم في المهجر (بين أميركا وأوروبّا وأستراليا والخليج العربي)، ولا يتجاوز عدد المقيمين في البلدة بشكل دائم الـ750 نسمة فيما تقطن البقيّة العاصمة بيروت.
اجتماعيّا، تحفل دير ميماس بنسيج متشعّب الأحزاب والانتماءات المذهبيّة كان سببًا في نهضتها العلميّة والثقافيّة. وفيها عدد من الجمعيّات بينها جمعيّة “أغصان” التي تنشط من خلال “بيت الأهل” للاهتمام بكبار السنّ في البلدة و”بيت المونة” لإنتاج المؤونة البلدية وتسويقها. وثمّة تنوّع مذهبي في دير ميماس جعلها تضمّ بين أحيائها ستّ كنائس تتوزّع على الروم الملكيّين الكاثوليك، والروم الارثوذكس واللاتين والبروتستانت والانجيليّين، فضلًا عن كنيسة الدير التابعة لوقف الروم الأرثوذكس.