ذاكرة “مرج حاروف” المندثرة.. لا مرج في المرج

لم يبقَ من المرج في “مرج حاروف” سوى الإسم، الباقي تكفّلت به الكاراجات المتراصة طويلاً، والتي تتاخم بلدتي زبدين شرقاً والدوير غرباً، بمسافة طولية تبلغ حوالى 2 كلم تقريبًا. يتبع “مرج حاروف” عقاريًّا للبلدة، التي تقع في قضاء النبطية، ويُعدُّ منطقة وسطية تتصل بالعديد من بلدات الجوار (جبشيت عدشيت، عبا، القصيبة، الدوير، أنصار، تول، الكفور..) ويشكّل دوار البلدة مفصلاً تقاطعيًا لها.

اختفت معالم المرج الزراعيّة لتُفسح المشهد عن منطقة تجاريّة مزدحمة. المحلات مُتراصّة بحيث لا يوجد مُتنفّس بينها إلا لبعض المفارق التي تأخذك إلى محلّات تليها محلّات أخرى. قبل أكثر من أربعين عاماً بقليل، كان مرج حاروف منسجماً مع اسمه ويشبهه إلى حدٍ بعيد. أراضٍ زراعية بكر ومزارعون ما برحوا المواسم يقلبونها على مدار الفصول، يهبونها تعبهم فتعطيهم خيراتها التي كانت تستريح غلالاً في “الكوارات” والخوابي العتيقة.

عصفت الحروب بالمرج، منها الاعتداءات الاسرائيلية والاجتياحات التي أدّت إلى تهجير عدد كبير من أهالي الشريط إليه، وأيضاً الحرب الأهلية التي دفعت بالعديد من الجنوبيين للعودة إلى مناطقهم وفتح محالهم التجارية فيه، كذلك المناطق التي كانت تتعرض لقصف مستمر ومنها النبطية التي بادر تجّارها إلى فتح محلاتهم هناك. كل ذلك أدّى إلى تبدّل جذري في هوية المكان وذاكرته، وأحاله إلى منطقة صناعيّة تجاريّة تختنق بمحلاتها وفوضاها العمرانية وازدحامها المروري!

منطقة مرج حاروف ومحيطها أوائل السبعينيات ( أرشيف المرحوم مصطفى موسى نعمة)
ذاكرة حاروف

يستذكر الحاج محمد حسن جرادي (أبو غالب)، مواليد العام 1935 وهو من أبناء بلدة حاروف، أنّ المرج – ما قبل الحرب الأهليّة – كان منطقة زراعية واسعة ومنبسطة، تُزرع قمحاً وذرة، إضافة إلى “الصحاري” من مقتى وبندورة وبطاطا وبطيخ وشمام بالإضافة إلى زراعة التبغ. كان يضم كروم تين تمتد حتى النبطية، وكان الناس “يتَيْنو”، أي ينصبون خيمهم ويقيمون فيها طيلة أشهر الصيف لقطاف التين وجني الموسم. كان المرج خاليًا من البيوت تماماً، وحسب أبو غالب أنّ الدرب فيه كانت مرتعًا للخيّالة من النبطية حتى الدوير “نركب الخيل ونروح نصير نخيّل هونيك”، ويذكر أنّ النّاس كانوا يقصدون المرج للتنزّه وقطف المقتى. وكان متنفسًا للعشّاق، يسترقون في دروبه وبين أشجاره النظرات والوقفات واللقاءات السريّة.

يتابع أبو غالب أن أراضي المرج كانت غنيّة بأشجار الزيتون حيث كان موسم القطاف فيها يستمر حتى بداية الشتاء لكثرة الأشجار. لاحقًا تمت إبادة الشجر لصالح الباطون ويقول إنّ أول منزل بُني هناك كان “لأبو عفيف عياش”، العسكري في الجيش اللّبناني.

قبل الحرب الأهليّة كان “المرج” منطقة زراعية بامتياز، تُزرع قمحاً وذرة، إضافة إلى “الصحاري” من مقتى، بندورة، بطاطا، بطيخ، شمام بالإضافة إلى زراعة التبغ. كان يضم كروم تين تمتد حتى النبطية، وكان الناس “يتَيْنو”، أي ينصبون خيمهم ويقيمون فيها طيلة أشهر الصيف لقطاف التين وجني الموسم.

من ذاكرة المرج العالقة في ذهن أبو غالب “الحاووس”، وهو عبارة عن سبيل مياه أنجز مشروعه “يوسف بك الزين”. الجدير ذكره أنه في العام 1925 أُنجز مشروع جرّ المياه من نبع الطاسة في إقليم التفاح إلى منطقة النبطية وجوارها.

من ذكريات المرج، تتحدث الحاجة سهيلا الإبراهيم وهي من سكان بلدة الكفور، أن أهلها كانوا يستأجرون الأراضي في المرج في أوائل الصّيف، ثم يخيمون هناك بقصد رعي مواشيهم وتبييتها، وذلك لشساعة حقوله. كان الأهل يزوّدون الراعي بالاحتياجات الغذائيّة، فيبقى هناك لثلاثة أشهر ثم يعود على أبواب الشتاء بمواشيهم إلى المشاتي والزرائب في بلدة الكفور.

مزارعون يدرسون القمح بواسطة ماكينة “الذراوي” على البيادر في منطقة مرج حاروف ( أرشيف المرحوم مصطفى موسى نعمة)
“القُشيقش”.. وأرض بخسة الثمن

يتحدث مختار بلدة حاروف عبد الرضا بدر الدين، وهو واحد من مخاتيرها الأربعة، عن “القُشيقش” الذي كان عبارة عن مجرى مياه عالٍ جارف يهبط من أعالي الجبال شرق النبطية ويصبّ في مرج حاروف، حيث يتحول إلى شبه نهر في الشتاء. لاحقًا تمّ حصره في أقنية تمتد لمنطقة “الشّخيب” التابعة لبلدة تول حتى وادي النميريّة وصولًا إلى البحر.

كان المرج بحسب بدر الدين أرضًا بخسة الثمن غير مستثمرة إلّا في الزراعة. عندما بدأت الحرب اللبنانية، انتعشت الأرض حتى صارت مقصدًا للمستثمرين، فبعد أن كان سعر الدونم الواحد حوالى 25000 ليرة لبنانية أصبح يُثمّن بمئات آلاف الدولارات لأنه صار منطقة تجارية مقصودة من كل مناطق لبنان.

مِن منطقة زراعية إلى صناعية

بُنيَ أول محل من أصل 11 محلًا في مرج حاروف عام 1977، على أراضٍ مشاع، استولى عليها أشخاص من بلدة جبشيت وقاموا بالبناء في أيام الحرب الأهلية وسيطرة الفصائل الفلسطينية، حيث لا يزال ورثة أصحاب تلك المحلات يقبضون أجرتها إلى اليوم، وهناك دعاوى قضائية بينهم وبين البلدية على أحقيّة هذه الملكية.

كرّت سبحة البناء المخالف في مرج حاروف ومنها ما هو أراضٍ وقف تابعة للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، حيث تمّ استئجارها فيما بعد، ومُنحت تراخيص من قبل البلدية كـ “تعاونية الرمّال” ومحلات الخضار في الشارع المقابل.

يُشير كاتب بلدية حاروف جعفر حرب أنّ أولى المنازل التي بُنيت في المرج تعود للمرحومين الحاج رياض عياش وأبو محمد جرادي. من جهته يقول جابي البلدية حسين عياش أنّه في أواخر السبعينيات بدأت الناس بعمليات البناء في المرج. يذكر عيّاش أنه في بداية الثمانينيات انتقل أهله للسكن هناك، وكان فيه حوالى ثمانية محلات فقط، وبعض البيوت الصغيرة.

بداية منطقة “مرج حاروف” لناحية دوار حاروف

بدأت الأراضي الزراعية في المرج بالانحسار تدريجيًا لصالح عمليات البناء النشطة، فظلت الأراضي البعيدة عن الخط العام تُزرع على الأطراف حتى اختفت في العام 2000 إلّا أراضٍ قليلة جدًا. يوضح عياش أنّ الناس اكتشفوا أهميّة استثمار الأرض لبناء محلاتهم كونها منطقة استراتيجية على صعيد منطقة النبطية. فانتقل العديد من التجّار وأصحاب المصالح على أنواعها من مناطق الجوار إلى المرج.

تدريجيًا ازدادت محلات صيانة السيارات وتطورت التجارات إلى بلاط وكهربائيات وغيرها، وازدادت الحركة السكانيّة باعتبار مرج حاروف منطقة تضم مدارس ومحلات لبيع المواد الغذائية، كـ “سوبر ماركت الرمال” التي يدخلها يوميًا أكثر من ألف زائر وزبون. كذلك محلات الخضار ومطاعم الوجبات السريعة والأفران. والملفت أنّ أهل حاروف هم أقلية في المرج، فمن أصل 800 محل تجاري هناك 300 محل فقط تعود ملكيتها لأبناء حاروف، والبقية تعود لأشخاص من مختلف المناطق بحسب عياش.

“ما بتلاقيها إلا بمرج حاروف”

بدأت شهرة المرج تنتشر في كل لبنان كمنطقة تجارة سيارات، من صيانة وبيع قطع غيار لجميع أنواعها بلا استثناء، بحيث يتم استيراد أحدثها من الخارج، فصار بالإمكان أن تجد قطع لسيارة موديل 2022، هكذا صار مرج حاروف مقصدًا للسكان من كل مناطق لبنان.

يروي حرب عن ذلك فيقول “كنت في زيارة لطرابلس، وبالصدفة بعد أن عرفني أحدهم أنني من مرج حاروف أوصاني لإرسال إشارة لسيارته، بعد أن كان قد وصل حتى بيروت ولم يجدها، وذكر لي أنه سمع من خلال أشخاص أنه “ما بيلاقيها إلا بمرج حاروف”.

الملفت أنّ أهل حاروف هم أقلية في المرج، فمن أصل 800 محل تجاري هناك 300 محل فقط تعود ملكيتها لأبناء حاروف، والبقية تعود لأشخاص من مختلف المناطق
المرج.. من الأخضر إلى الأسود

علي نصار من سكان النبطية، غادرها بسبب القصف الإسرائيلي، ليستأجر محلًا لبيع زيت السيارات في المرج عام 1984 واستقرّ في المنطقة لاحقًا. يقول نصّار إنّ المنطقة في السابق، كانت مزدهرة، أمّا الآن بسبب الوضع المعيشي تراجعت كثيراً وصارت أكثر جمودًا. تحوّل المرج الأخضر إلى المرج الأسود.

بدوره يقول الحاج محمد علوش إنه كان لديه بورة لجمع الخردة في منطقة شاتيلا في بيروت، لكن بناءً لنصيحة أحد السماسرة إشترى أرضًا في المرج عام 1994، ونقل بورته إليه ولاحقاً منزله حيث ازدهر عمله وأصبح معروفًا في المنطقة.

ازدحام مروري

لأنه ممر حيوي وإجباري لمناطق الجوار، يشهد خطّ السير في المرج ازدحامًا مروريًّا شديدًا، كذلك دوّار حاروف الذي يُشكل نُقطة تقاطعية مهمة بين مناطق حاروف وتول والدوير. يفتقد الطريق كما الكثير من المشاريع في المنطقة للمعايير الطرقية لناحية نوعية الأسفلت والبنى التحتية والإشارات ومسارب المياه. وقد كان مقررًا إنجاز مشروع “أوتوستراد”، لكن بسبب وجود مجرى مياه وتعديّات بناء قديمة على الطريق الأساسي توقّف المشروع.

أصحاب الكاراجات في “مرج حاروف”يقطعون الطريق احتجاجاً على البطء في الأشغال أثناء أعمال تعبيد الطريق في أواخر العام 2009 (تصوير: كامل جابر)

عن الازدحام المروري يقول حرب إنه أمر طبيعي تواجهه المنطقة، عازيًا السبب إلى البنى التحتية العشوائية الفاشلة التي نُفذت من قبل وزارة الأشغال المسؤولة رسميًا عن هذا الخط، مشيراً إلى أنّ البلديّة لا دور لها في ذلك لأنّ الطريق الرئيسية هي من اختصاص وزارة الأشغال وإتحاد بلديات الشقيف.

يفتقد الطريق كما الكثير من المشاريع في المنطقة للمعايير الطرقية لناحية نوعية الأسفلت والبنى التحتية والإشارات ومسارب المياه. وقد كان مقررًا إنجاز مشروع “أوتوستراد”، لكن بسبب وجود مجرى مياه وتعديّات بناء قديمة على الطريق الأساسي توقّف المشروع.

وبالرغم من أن المنطقة أصبحت تجارية وصناعية بامتياز إلا أنها وبحسب حرب لا تشكل ضرراً بيئياً أو ينتج عنها تلوث، وذلك بحكم غياب المعامل والمصانع، حيث أغلب الأعمال التجارية هي دواليب وزينة وبيع قطع غيار ومستلزمات سيارات، وأفران، ومحلات لبيع الأدوات المنزلية، ومخارط، ومحال ميكانيك وأشبمانات، وذلك وفق حرب.

منطقة مرج حاروف ومحيطها الآن (تصوير: كامل جابر)
فوضى عمرانية أم كثافة سُكانيّة

لا ينفي حرب وجود فوضى عمرانيّة في المرج، ويُحمّل مسؤولية ذلك للتنظيم المدني بالدرجة الأولى ثم البلدية، ولكن من يُحاسِب؟! ويذكر حرب أن بلديّة حاروف لا يوجد فيها مجلس بلدي.

من جهته يرى هيثم عطوي الذي يعمل في مجال المقاولات، أن منطقة مرج حاروف لا تصلح أن تكون منطقة سكنية، فهي كخطّ عام تصلح للتجارة وصالات العرض والمكاتب. يضيف “المنطقة كبيرة وفيها الكثير من السكان، وخاصة أن أهالي الشريط الحدودي كانوا جميعهم هنا أيام الاحتلال الإسرائيلي. وبالرغم من عودتهم إلى مناطقهم بعد انسحاب الاحتلال، لكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى المرج لغياب مؤهلات العيش هناك”.

في “مرج حاروف” يستطيعون تجميع سيارة كاملة لكثرة الكاراجات فيه (تصوير حسين عياش)

من جهته لا يرى الدكتور مصطفى جرادي وهو خبير مساحة محلّف لدى المحاكم واستشاري عقاري وتنظيم مدني، في التمدد العمراني على أنه فوضى! عازياً السبب في ذلك إلى حاجة الناس إلى الاستقلال السكني ضمن عقارات مملوكة أو إرثية، فشيّدت الأبنية وتكاثرت بعد أن كانت الساحات هي الجامعة في كل بلدة، ومن هذه المناطق “محلة مرج حاروف” التي شهدت توسّعًا في البناء، خاصة أنها تقع على أطراف البلدة، وتشكّل صلة وصل للقرى بالمدينة.

لذلك يرى الدكتور جرادي الحديث عن فوضى عمرانية أمر غير واقعي بدليل أن أكثر الأبنية المشيّدة أو بنسبة 80 % منها مرخصة ترخيصًا قانونيًا عبر الإدارات المعنيّة من تنظيم مدني وغيرها وفقًا للأصول، مع بعض ما رافق ذلك خلال الأحداث والذي شهد هجرة معاكسة من العاصمة باتجاه البلدة حيث تمّ تشييد الأبنية بموجب تصاريح بلدية، الأمر الذي أدّى الى هذه الكثافة العمرانية. مشيراً إلى أن المنطقة بواقعها الحالي تُشكل مصدر رزق لكثير من العائلات الحاروفية وغيرها من بلدات الجوار.

في المحصلة، تبدو منطقة مرج حاروف نموذجاً صارخاً لأفول ذاكرة المكان بكل تفاصيله الريفية الجميلة، وذلك لصالح فوضى العمران العشوائي والضوضاء والتلوّث والازدحام المروري. ذاكرة كانت حتى الأمس القريب طرية تختزن الكثير من الصور المفعمة بتراث الجنوب ونمط العيش فيه. ذاكرة اندثرت شيئاً فشيئاً وانطوت خلف شحوم السيارات وقرقعة الآلات، ليبقى الإسم وحيداً يعيش غربته، مرددًا، “لا مرج في المرج”.

درس القمح بواسطة “المورج” على البيادر في مرج حاروف بداية السبعينيات (أرشيف المرحوم مصطفى موسى نعمة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى