رئيف كرم ومَسرَحَة عاشوراء.. من الواقعة إلى الواقع الجلل

تحيلنا ظاهرة عزاء عاشوراء إلى أبعاد جماليّة مسرحيّة خاصّة تنتمي إلى هذه المنطقة، ينطلق من إرثها العقائديّ، ويعبّر عن قيمها الجماليّة، فإذا ما عدنا إلى تاريخ مآسي الشعوب، نجد أن مأساة “أوديب” بوصفها التراجيديا الرسميّة لدى الإغريق، ظلّت لمئات السنين يتهافت عليها الشعب الإغريقي في موسم الربيع لمشاهدتها والتطهّر من خلالها.

أمّا التراجيديا الحسينيّة التي تقدّم عبر مئات السنوات، بوصفها إرثا ثقافيًّا، وبكونها ثورة لم تصل إلى نهاية محدّدة، ثورة مستمرّة ضدّ الشرّ وضدّ تأْلِيه العرش السياسيّ، هي بدورها درس أخلاقيّ وجماليّ في القدرة على التضحية بالحياة ومقدّراتها مقابل الشهادة، بوصفها الحياة الأكثر طهراً. وهي لمّا تزل مدار بحث المسرحيّين والدراماتورجيّين الذين يعتبرونها من الظواهر المسرحيّة العربيّة، وأحد روافده عبر التاريخ، ما دفع أحد الباحثين بوصف اندماج جمهور عاشوراء في العرض بشكل كلّي، بـ”العرض المأسويّ الذي لا تصل إليه أعظم مآسي الاغريق”.

مشاهز من تمثيل واقعة عاشوراء التي أخرجها رئيف كرم في العام 2004 في النبطية (تصوير كامل جابر)
تاريخ المشهديّة

لم يعرف من تاريخ مجالس التعزية العاشورائيّة لدى المسلمين الشيعة في لبنان، سوى أنها كانت تقرأ سرًّا في البيوت، نتيجة منعها طيلة الحقبة العثمانية التي امتدن من العام 1516 إلى 1918م.

يذكر السيِّد محسن الأمين في سيرته أنّ المجالس كانت تقام في عهد طفولته في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، “كان يقرأ العزاء في اللَّيالي العشر الأولى من محرّم من كتاب ضخم، مؤلّفه من البحرين واسمه “المجالس”، وفيه عشرة فصول طويلة، كلّ فصل مخصَّص لمجلس، وقد كان المشاركون في هذه المجالس يتحادثون وهم يتحلَّقون حول الراوي”.

أمّا في اليوم العاشر، وبحسب كتاب “الإصلاح الشيعيّ” لصابرينا ميرفان: “فكان يُقرأ العزاء في كتاب مقتل الحسين عليه السلام، لأبي مخنف؛ وهو من المؤرّخين الأوائل في تاريخ الإسلام. ثمّ تُتلى زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ تُمدّ موائد الطعام في المساجد، وعادةً ما يكون من الهريسة، الخاصّة بيوم عاشوراء. بعد عودة الشيخ موسى شرارة من العراق العام 1880م، اعتمد كتاب مقتل ابن طاووس، بدلاً عن مقتل أبي مخنف، وأقام مجالس أسبوعيّة في بيته على مدار السنة”.

بعد عودة الشيخ موسى شرارة من العراق العام 1880م، اعتمد كتاب مقتل ابن طاووس، بدلاً عن مقتل أبي مخنف، وأقام مجالس أسبوعيّة في بيته على مدار السنة

حسب المراجع والأدبيّات العامليّة وصلت هذه الاحتفالات العاشورائيّة المشهديّة إلى الجنوب اللبنانيّ في نهاية القرن التاسع عشر، عندما وفد الميرزا إبراهيم، الايراني، إلى النبطية وشرع في إقامة احتفالات عاشوراء بالشكل الممثّل من دون أن تتضمّن المسيرات المرافقة لها، والتي تحتوي على ضرب السيوف.

بعد ذلك انتظمت هذه الاحتفالات في منتصف القرن الماضي في لجان محلّيّة ترأّسها الشيخ العالم عبد الحسين صادق، واتّخذت اشكالاً مسرحيّة عندما بدأت تُمثل على منصّة خاصّة من قبل ممثلّين غير محترفين، بل من المتطوّعين المؤمنين. وهكذا بدأ العرض باستعارة مقوّمات العرض المسرحيّ، مع النص الجاهز والألبسة والأسلحة الخاصّة بالمناسبة التاريخيّة، فضلاً عن مكان العرض والجمهور المشارك بعواطفه الجيّاشة.

أحد المشاهد (تصوير كامل جابر)
تجربة التحديث

مع بداية الألفية الثالثة حصل انفتاح تحديثيّ من لجنة عاشوراء الجهة المنظّمة للاحتفاليّة، وتحديداً الشيخ عبد الحسين صادق (الحالي) الذي رأى وجوب التحديث على مستوى العرض مع الحفاظ على الرصانة المقدّسة، التي اعتبرها جوهر العمل وطقسه الاحتفاليّ. فتمّ التعاون مع المخرج المسرحيّ والأستاذ الجامعيّ الدكتور رئيف كرم.

ولد رئيف كرم في خربة قنافار قي البقاع الغربيّ، كانت ساحة الكنيسة وداخلها مسرحاً مفتوحاً على أول تجربة مسرحيّة له، جعل من “عرس الدمّ” للشاعر الإسبانيّ غارسيا لوركا، حدثاً مسرحيًّا جمع في حضوره هواة نادي القرية، ونوادٍ مجاورة تنتمي إلى تجمّعات متنوّعة، ولا سيّما التنوّع الطائفيّ منها. عمل مع أنطوان ولطيفة ملتقى وتخرّج من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة في بداية السبعينات، قبل أن يسافر إلى إيطاليا وفرنسا لمتابعة دراساته العليا، وليكون حيّ “بارباس” الذي يضمّ المهاجرين العرب موضوع اطروحته.

رئيف كرم المتمرّس الأكّاديميّ بدراسة المكان والجماعات ولا سيّما الأطراف منها، أضاف حضوره على الإحتفاليّة العاشورائيّة في النبطية بعداً دراميًّا وجماليًّا من دون المساس بجوهر العرض وشعائره الدينية.

الدكتور والأستاذ الجامعي رئيف كرم
من الواقعة إلى الوقع الجلل

يقول رئيف كرم عن مشاركته في إخراج احتفاليّة عاشوراء في العام 2004: “عاشوراء المناسبة الدينيّة احتفال جليل تتداخل فيه المسرحيّة بطقوس الندب واللّطم والضرب، وتطال مدينة النبطية في الملبس ومأكل الهريسة والزّيّ الأسود الذي يرفرف في الشوارع”.

يضيف: “تعتبر عاشوراء – المسرحيّة المتوارثة منذ أكثر من خمسين عاماً، أي قبل نهضة المسرح اللبنانيّ في الستينيات، في هذا العرض التقليديّ، علامة فارقة يمكن أن تكون منطلقاً يثوّره من الداخل ويشرّعه على احتمالات التجديد. يتقدم “الشمر” المجسّد للشرّ من ضحيّته أكثر من مرّة ويضع سيفه على عنقها.

بهذه الإيماءة المسرحيّة الجليلة يفهم الحضور الفعل الناجز. ويشعر بالوجع في قطع الرأس. علامة طقسيّة في تكرارها، غنيّة في بساطتها وبلاغتها وتجريدها يمكنّها من أن تكون نموذجاً للغة العرض كلّه، في هذا السياق يفترض ألا يكتفي الحضور الغفير المحيط به بالبكاء على الفاجعة، ويرتقي بها إلى الاحتفال بالنصر الآجل على البلاء العاجل، ويهلّل مع الجوقة بالمجد لجسد الإمام المقتول المرفوع نحو السماء”.

يقول رئيف كرم عن مشاركته في إخراج احتفاليّة عاشوراء في العام 2004: “عاشوراء المناسبة الدينيّة احتفال جليل تتداخل فيه المسرحيّة بطقوس الندب واللّطم والضرب، وتطال مدينة النبطية في الملبس ومأكل الهريسة والزّيّ الأسود الذي يرفرف في الشوارع”.

في تعديلات رئيف كرم على العرض المسرحي أبقى على ساحة المكان والخيول ومعظم المشاركات التقليديّة، مع إضافة ممثلين محترفين وإبراز الأحداث الدراميّة في السيرة، بالإضافة إلى مشاركة المرأة التي تمثّلت بالسيّدة زينب، وبجوقة الفتيات المرافقة للحدث الجلل. كما عمل على إدخال عناصر سينوغرافيّة، مثل الخلفيّة البيضاء على المسرح التي تتلطّخ بالدم، وأدخل مشاركة الدمى وإيقاعات الصنوج المصاحبة مع الموسيقي للتونسيّ نجيب شرادة.

يختم رئيف كرم كلامه عن مشاركته في عاشوراء 2004: “تحقّق حلم راودني منذ سنوات، بأن تكون النبطيّة باباً يدخله المسرح الحديث ويتصالح مع المجتمع الأهليّ، وتنتقل عدواه إلى سائر المدن وسائر الطوائف والشرائح اللبنانيّة الغنيّة في تنوّعها أكثر منه في تناحرها السياسي”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى