رائحة الدم تلاحق اللبنانيّين في كلّ مكان
لطالما اعتبرت أنّني رأيت كلّ شيء في لبنان، لأكتشف أنّ كلّ ما عشته كان مجرّد “بروڤا” لما يمكن أن نشهده لاحقًا. كان أملي بانتهاء العدوان على غزّة وانعكاس ذلك القرار إيجابًا على لبنان، لأستفيق صباح الثلاثاء على أخبارٍ صادمة من مسؤولين إسرائيليّين تبلغ اللبنانيّين بانتقال الثقل العسكريّ إلى شمال فلسطين والتركيز على الجبهة الشماليّة، وكأن لا راحة ولا أمان لأهالي الجنوب بخاصّة، وبقيّة المناطق بعامّة بوجود الاحتلال، هذا الكيان الذي لم يتوقّف ليومٍ منذ الثامن من تشرين الأوّل (اكتوبر) 2023 عن قصف القرى الحدوديّة والبقاعيّة والضاحية الجنوبيّة لبيروت.
مع قراءة تلك التصريحات ظننت أنّ التصعيد سيكون على شكل غاراتٍ مكثّفةٍ ستشمل عدّة مناطق في آنٍ معًا، مع قصفٍ للبنى التحتيّة وضربٍ لشبكات الاتصالات، أيّ ما يشبه أحداث حرب تموز (يوليو) 2006. لكن على ما يبدو أنّنا كلبنانيّين ما زلنا عالقين في تلك المعمعة، فالحروب لم تعد كما نعرفها بشكلها التقليديّ، من استخدامٍ للدبّابات والأسلحة وغزوٍ برّيّ، فوجود التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ كفيلان في صنع مجزرة بكبسة زرّ فقط وعن بُعد.
عقارب الساعة الأولى
عند الرابعة من ذلك اليوم الـ17 من أيلول (سبتمبر) الجاري، امتلأت مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ بمعلومات أوّليّة عن حدثٍ أمنيّ في الضاحية الجنوبيّة، اعتقدتُ أنّه عدوان آخر شبيه بالإجرام الذي قام به العدوّ منذ فترة عبر إرسال مسيّرات إلى الداخل اللبنانيّ، ليتبيّن بعد دقائق قليلة أنّ هناك أصوات أبواق سيارات الإسعاف في الجنوب والبقاع أيضًا.
انفجرت تلك المنصّات ومجموعات الـ”واتس آب” بخبر تفجير أجهزة محمولة في تلك المناطق، وبدأت المقاطع المصوّرة بالانتشار. ثمّة أشخاصٌ يتساقطون أرضًا، دخان يتصاعد، هلع وصراخ الناس كفيلان كي ندرك مدى حجم الكارثة، خصوصًا مع تزايد أصوات سيّارات الإسعاف وفي كلّ مكانٍ، حتّى في مناطق بعيدة نسبيًّا عن أمكنة التفجيرات، كان اللبنانيّون في بيوتهم يسمعونه.
الحروب لم تعد كما نعرفها بشكلها التقليديّ، من استخدامٍ للدبّابات والأسلحة وغزوٍ برّيّ، فوجود التكنولوجيا والذكاء الاصطناعيّ كفيلان في صنع مجزرة بكبسة زرّ فقط وعن بُعد.
للوهلة الأولى، كلّ المشاهد التي استعدتها في ذاكرتي هي من انفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020. مشاهد المصابين على الطرقات، الدم السائل على الأرض، المستشفيات التي لم تعد قادرة على استيعاب الجرحى. كّل ما كان يدور في ذهني في تلك اللحظة هو أنّنا جميعنا معرّضون للخطر، كلّ ذلك من أثمان ندفعها بسبب وجود احتلالٍ يبعُد بضعة أمتارٍ عن حدودنا الجنوبيّة، مستعد لخوض معارك بطرقٍ وحشيّة وعنفيّة عندما يشعر بخطرٍ يهدّده.
فيلم خيالي علمي؟
حين اطمئناني على عائلتي وبعض الأصدقاء، سألتهم إذا ما كانت تلك الأخبار حقيقيّة أو أنّنا في حلقة من حلقات مسلسل تلفزيوني أو مشهد من فيلم خياليّ علميّ؟ بعدها اكتشفت أنّه لا توجد أيّ قصّة شبيهة لما نشاهده على أرض الواقع، فذلك الإجرام تخطّى مخيّلة كتّاب النصوص والمنتجين. أعتقد أنّه بعد تلك الأحداث، ستكون عيون منصّات إنتاج الأفلام والمسلسلات على الشرق الأوسط وتحديدًا على لبنان، لأنّ ما حدث يفوق الطبيعة وقدرتنا على الاستيعاب، وبحاجة إلى أنّ يوثّق لإخبار الأجيال القادمة أنّه تمّ تفخيخ الناس في منازلها وأماكن عملها.
على ما يبدو، أنّ اسرائيل لم تكتفِ بقتل 12 مواطن وإصابة حوالي ثلاثة آلاف كان بحوزتهم جهاز التلقّي هذا، لتعود في اليوم التالي إلى تفجير أجهزة لاسلكيّة نتج عنه 25 شهيدًا و608 جرحى. في ذلك اليوم شاهدت الأضرار التي خلّفها الاعتداء في اليوم السابق، أعين مصابة، أطرافٌ مبتورةٌ، رائحة الموت في كل مكان.
نخاف من خيالاتنا
لم ينتهِ المسلسل عند هذا الحد، ففي فترة ما بعد الظهر، وفي أثناء تشييع الشهداء عادت إسرائيل إلى مسلسل تفجير الأجهزة مع نشر الذعر عند المواطنين وتخوّف جديد من انفجار الهواتف الخلويّة، وبطّاريّات الطاقة الشمسيّة. لقد أضحى الجميع تحت الخطر ومستهدَفين، كيف ذلك وهواتفنا هي الوسيلة الوحيدة لإلهائنا وتشتيتنا عمّا يحدث حولنا؟ صرنا نخاف حتّى من خيالاتنا.
اضطررت إلى إبعاد هاتفي عنّي خشية أن ينفجر في وجهي، تذكّرت نصائح الأطبّاء والمعالجين النفسيّين على مدى 11 شهرًا حول كيفيّة إدارة وقتنا في استخدام الهواتف والابتعاد عن مشاهدة صور ومقاطع حسّاسة وعنيفة، لكن على ما يبدو قرّرت إسرائيل استهداف صحّتنا النفسيّة من خلال مشاهدة أعمالها الإجراميّة، وجسديًّا من خلال تفخيخ الأجهزة الإلكترونيّة.
ختامًا، لا أعرف مدى قدرتي شخصيًّا على تحمّل حربٍ شاملةٍ قد تكلّفني أضرارًا باهظة من دمارٍ وتهجيرٍ وفقدان من أحب. فحالتي كحال معظم اللبنانيّين، بتنا متعبين من الخسارات، وعانينا كثيرًا على مدى أعوام عدّة، من انهيار اقتصاديّ وجائحة كورونا وانفجارٍ دمّر العاصمة بيروت، وحرب بدأت منذ نحو عام ولا ندري متى تنتهي.