رحيل سلطان قانصوه حافظ أسرار مدينة بعلبك وتفاصيلها
خلال السنة الجارية، أو السنوات القليلة الماضية، كنت أرى سلطانًا يسير في شوارع بعلبك. كان يتقصّد سلوك طرق لا تعجّ بالخليقة، وكذاك الدرب الذي يمر بمحاذاة بيتنا، ويؤدّي في النهاية إلى سوق المدينة. درب لا تسلكه الحافلات سوى إلى نقطة محدودة، ليصبح بعدها ضيّقًا ومتعرّجًا وصاعدًا، يحاذي تلّة “ضهر الشير” الصخريّة، وينحدر نزولًا صوب السوق، مرورًا بما يسمّى “الحيّ المسيحيّ”، الذي لم يبقَ فيه من المسيحيّين سوى أعداد قليلة جدًّا، ممّن تمسّكوا بهذه المدينة كمن يتمسّك بآخر آماله البائدة.
لم يسر سلطان قانصوه وحيدًا في شوارع المدينة وأزقّتها، بل كان يصطحب معه ابنه في غالب الأحيان. ربما أراد أن ينقل إلى ولده بعض أسرار المدينة وخفايا تراثها، التي اكتشف سلطان بعضها على مرّ السنين، وذلك بعدما دفنت الهزّات والزلازل والطمي أجزاءً من هياكلها، ومن ثمّ تعاملت عليها التقاليد المهترئة والزمن الرديء.
ربّما كان، أيضًا، في لحظة استكشاف لمواقع ستصطادها لاحقًا عدسة كاميرته. كتب على صفحته “الفيسبوكيّة”: “تستطيع قَدرَ ما شئت أن تكتبَ عن بعلبك عباراتٍ مُنمّقة ظنًّا منك أنك ترفع شأنَ جبروتها ومكانتها، لكنّك لن تزيدَ أو تُسمِنَ في كيانها، فبعلبك فوق حجمِ هذه المعادلة والتَمَلّق، وقد اصطفاها دونَ غيرِها من صاغَها وفَطَرَها إلى حين يُماطُ اللّثام عَن سببِ وجودِها، فكيفَ بأهلها المُختارين عهدًا وفخرًا ووعداَ حتّى تقومُ السّاعة؟”.
فوتوغرافي بالفطرة
ترافقت كتابات سلطان مع الصور التي كان يلتقطها للمدينة، في غير زمن أو مناخ وموقع. لم يترك فصلًا من الفصول “يعتب عليه”، ولم تفلت زاوية من عدستة، علمًا أنّه، وبحسب علمي، لم يدرس مادّة التصوير الفوتوغرافيّ. كان سبيله إلى صناعة تلك اللقطات يرتكز على حدسٍ وموهبةٍ، معقودين على ذائقة فنّيّة فطريّة. اختار زاوية النظر، ومصدر الضوء وطبيعة المنظور، بدقّة مصوّر محترف.
وما من شكّ في أن التقنيّات الحديثة، بما فيها قدرات “الفوتوشوب”، وسواه ممّا أجهله شخصيًّا، ساعدت على إخراج تلك الصور على نحو يختلف، إلى حدّ ما، عن الواقع الحقيقيّ. أضف إلى ذلك، أنّه كان قد مارس هواية الرسم في وقتٍ سابق، وقد أطلعني على رسومه خلال ذاك الزمن السحيق، منذ أكثر من عقدين، ولا شك في أنّه تمتّع بعين الرسّام، فالرسم رديف الفوتوغرافيا في مكان ما.
توثيق الأماكن المحطمة
وكأنّ سلطان، ومن خلال لقطاته المميّزة، والعمل عليها بواسطة عناصر تقنيّة كإضاءة زائدة هنا، وظلّ غير متوقّع، أو زهور فاضت ألوانها، إنّما أرادنا أن نرى بعلبك على النحو الذي يحلم به، والذي يزيدها جمالًا ورونقًا، بصرف النظر عن سلبيّات الواقع، التي يدركها كلّ من يعرف المدينة. وللمناسبة، فإنّ هذا النتاج الفوتوغرافيّ، إضافة إلى صفاته الجماليّة، كان قد حمل ناحية توثيقيّة لأماكن حطّمها الناس والزمن، في تناوبهما على بعض تراث المدينة المعماري، هدمًا وتخريبًا، وتبديل ملامح لا عودة فيه.
وكأنّ سلطان، ومن خلال لقطاته المميّزة، والعمل عليها بواسطة عناصر تقنيّة كإضاءة زائدة هنا، وظلّ غير متوقّع، أو زهور فاضت ألوانها، إنّما أرادنا أن نرى بعلبك على النحو الذي يحلم به، والذي يزيدها جمالًا ورونقًا
كتب في هذا المجال: “لا أجْتَرِحُ المُعجِزَات ولكِنْ في الحِين تَبقى الصورة شيئًا من بَلْسَم الْجِراح لأنّها لا تُسِيء لأحَد بل ترسمُ في خيالنا نضارةَ مدينتِنا وجبروتها وكُلٌّ فينا يستطيعُ على طريقتِه وهَواه أن يُترجِمَ حبَّه لبعلبك أرضًا وشعبًا. حتّى في أحلَك الظروف تستطيع على سبيلِ المِثال في الدعاء، والتمنّي، في النوايا، وكلُّ ما مَلَكَت لكَ طيبة روحِك ومرآة قلبِك”.
عاشق المدينة يرحل
ليس من الصعب أن نرصد درجة العشق الذي يكنّه سلطان لمدينته، أكان من خلال صوره، أم عبر كتاباته المليئة عاطفة تشي بطبيعة شخصه. هادىء الطباع، حالم، آدميّ كما يُقال عندنا، وترافق ذلك كلّه مع بعض الانطواء الجميل الذي طالما تميّز به، وازداد لديه أخيرًا، وسعيه للعيش ضمن عالم سحري افتراضي. هذه الصفات جعلته محبوبًا من أبناء بلدته، وتجلّى هذا الحبّ بما كان يلقاه من مديح في حياته، ومن حزن غمر الجميع لدى رحيله، الذي جاء بنتيجة اعتلال في الجسد الطريّ، الذي خضع لعمليّة قلب مفتوح أنقذته إلى حين، لكنّ المرض كان أقوى منه.
انتشرت لقطاته، إثر رحيله، على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وخصوصًا على الـ”فايسبوك”، الذي حين غادره، بعد صورته الأخيرة، المنشورة يوم 16 نيسان، لم يتوانَ محبّوه عن نشر صوره الشخصيّة، وبعضًا من نتاج عدسته، وكلمات تعزية صادقة مختلفة المستويات.
“صباحك بعلبك”..
نحن لم نعد نرى بعلبك على هذا النحو الذي كان يراه سلطان، أو الذي أراد أن يكون عليه في ذهنه. ثمة علاقة حبّ دفينة تجمع بيننا وبين الأمكنة، لكنّنا واقعيون أكثر من اللزوم. فتك الدهر بأحلامنا المتعلّقة بالمدينة، وحوّلها هباءً منثورا. أمّا سلطان، فقد كان يُعنْون، دائمًا، المقطع الذي يعلو صوره: “صباحك بعلبك”..
كتب مرّة، وذلك ضمن ميله إلى فلسفة حياتيّة غمرت كيانه: “أوّل مَرّة شاهَدَ الإنسانُ وجهَهُ مُصادَفةً إذ نَظَرَ في صَفاء المَاء فتَعَجّب! إنْ لم نَقُلْ هَلَعَ أو.. استَغرَب ثُمَّ طَوَّعَهُ الزّمَن حتّى اختَرَعَ المِرآة، على أنَّ الأصل بقِيَ في فَلَكِ المِياه يذوبُ معها تارةً ويتّضِحُ أُخرى حَسْبَ مَجرَيات الحَياة وخَفاياها.
المرآة تعكس الشّكل تمامًا لكنّ المضمونَ يبقى أبدًا غامضًا…