سوريا التي كانت أقرب لبعلبك – الهرمل من بيروت ولبنان!
قد يبدو من المألوف والمُتكرّر شرح العلاقة الوطيدة التّي جمعت أكبر محافظات لبنان وأكثرهن تهميشًا، بعلبك – الهرمل، والجانب السّوري. فالصّلة التّاريخيّة التّي كانت قبل تقسيم سايكس – بيكو وامتدت حتّى نشأة لبنان الدولة والمؤسسات، حملت بُعدًا يتجاوز واقع الإختلاط الإجتماعي والثقافي والوشائج العائليّة واللكنة، والاستتباع التّاريخي والقربة الجغرافيّة، بل كانت فعليًّا، سوريا أقرب لبعلبك – الهرمل من بيروت ولبنان.
كانت أسواق حمص والشام والقلمون ومشافيها ومصايفها وجامعاتها، أماكن ووجهات يقصدها السّكان المرتبطون عاطفيًا وثقافيًا وتجاريًا واقتصاديًا واجتماعيًا ويُمكن القول سياسيًا بسوريا.
استمر الوضع على هذا المنوال، حتّى اللحظة المفصليّة والحاسمة، وهي بداية التظاهرات الاحتجاجيّة في سوريا والثورة السّوريّة عام 2011. وتدريجيًا مع احتدام الاقتتال وتطور القطيعة اللبنانية – السّورية، والتدابير المكثفة على الحدود، وانقسام الشارع في البقاع الشمالي، بين مُجيشٍ ببروباغندا النظام وحلفائه كحزب الله (الجانب الشيعي)، ومُتهم بالتواطؤ مع المجموعات الإرهابية فقط لتأييده الثورة (الجانب السّني وتحديدًا في عرسال)، فضلاً عن توافد اللاجئين السّورين.
شهدت العلاقة التّاريخيّة تخلخلاً في مداميكها. وأصبح الجارين الودودين سابقًا، أولهما مشاركٌ في المقتلة الدمويّة، والآخر عبئًا اقتصاديًا، ومزاحمًا على العمل، وهجينًا.
الصلّة التّاريخيّة
وفيما أشرنا سابقًا، لكون العلاقة والإلفة بين الشعبين لا تتوقف على التّداخل الجغرافيّ الحاصل، ولا بالمصاهرات وصلة القربى والتبادل الثقافي، واعتماد غالبية الشباب في الفترات السّابقة الدراسة الأكاديميّة في سوريا لقربها، فبالرغم من مختلف التحولات الجذريّة التّي ألمت بالدولتين، اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا (انتفاضة 14 آذار، وانسحاب الجيش السوري نهائيًا عام 2005)، لم تتأثر العلاقة بين سكان البقاع الشمالي بجيرانهم بنفس الصورة الجذريّة، (بالرغم من كون المزاج الشعبي تبدّل ومال لحزب الله، وهذا ما ظهر في انتخابات 2005). من جهة الترابط الاجتماعي الاستثنائي بين الجانبين، والحياة اليومية المشتركة والتواصل القديم.
التّحول في العلاقة القائمة على المصلحة المشتركة والإلفة المحليّة، بدأ يتوضّح إبان الثورة السّورية، إذ تعاطى البعض مع الثورة وكأنها محاولة للتعدي على الطائفة الشيعيّة في سوريا، على اعتبار أنها حركة سُنيّة، من ثم استغلال الشباب البقاعي وتجييشهم للمشاركة في المعركة إلى جانب النظام السّوري لحماية المقامات الدينيّة، وصولاً لدعاية حماية الحدود من خطر داعش، وشيطنة سكان القرى السّنية في البقاع (أبرزها عرسال)، ما أدى إلى حدوث شرخ في النسيج الإجتماعي في المحافظة (مدعوم من العشائر)، وتململ في العلاقات مع السّكان في المقلب الآخر من الحدود.
الصلّة التّاريخيّة التّي كانت قبل تقسيم سايكس – بيكو وامتدت حتّى نشأة لبنان الدولة والمؤسسات، حملت بُعدًا يتجاوز واقع الاختلاط الاجتماعي والثقافي والوشائج العائليّة واللكنة، والاستتباع التّاريخي والقربة الجغرافيّة، بل كانت فعليًّا، سوريا أقرب لبعلبك – الهرمل من بيروت ولبنان
ومع تحول البقاع الشمالي في السنوات الأخيرة، إلى منصة استغلها البعض لاحتكار الحدود على مقلبيها، وتعويم منهج التهريب للسلع والبضائع والبشر، أصبح اقتصاد المنطقة مربوطًا باقتصاد التهريب المعطوف على النظام السّوري وحلفائه.
يقول أحمد ف. لـ “مناطق نت”: أحمل الجنسية اللبنانية، لكن والدتي أصولها من سوريا، وكنا نزور سوريا أسبوعيًا قاصدين منزل جديّ في الشام. بعد الثورة، أحجمنا عن الزيارة خوفًا من اعتقالنا، ففي بداية الثورة شاركت أنا وأخوتي بالتظاهرات السّلمية.” مضيفًا: “نشتاق إلى سوريا لا لأن لنا أصولاً هناك، بل لأنها كانت على الدوام بلدنا الثاني، تعني لنا الكثير ولدينا فيها ذكريات، قبل أن تتحوّل ساحة حرب محروقة”.
الحملات العنصرية
واللافت كان في خضم الحملات العنصريّة الأخيرة، وما تلاها من حملات اعتقال ومداهمات، وترحيل للاجئين في مختلف المناطق اللبنانية، وخاصةً في البقاع الشمالي، انفلات الخطاب العنصري من قالبه التقليدي في بعلبك- الهرمل، ليأخذ منحىً أكثر عنفًا. إذ أن اللاجئ السّوري الذي كان تاريخيًا التاجر والعامل والمزارع والقريب، بات اليوم المنافس على لقمة العيش والمُدان بالخلل الأمنيّ والشلّل الاقتصادي، والمزاحم على فرص العمل.
إضافة لذلك، لم يتلكأ المسؤولون الرسميون منذ نيسان الفائت، عن تسعير الحرب العنصريّة الشعبيّة على اللاجئين، وفي مقدمتهم محافظ بعلبك – الهرمل بشير خضر الذي سلك منهجًا معاديًا وبصورة علانية لهؤلاء، أكان ببياناته المتوالية أو حتّى بمنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، زاعمًا أنهم الأكثرية في محافظة بعلبك – الهرمل وقائلاً إن “عددهم يناهز 315 ألف لاجئ في حين عدد اللبنانيين لا يتجاوز 250 ألفاً، مشيرًا لكونهم “عبء” على كاهل المحافظة، ومزاحمين على العمل.. (يُذكر أن محافظة بعلبك – الهرمل وعموم البقاع اللبناني سُجل فيهما أكبر عدد من المداهمات والاعتقالات في الفترة الأخيرة، خاصةً في المخيمات على أطراف بعلبك، ومخيم بر الياس).
الحملات لم تتوقف عند الجانب العنصري، بل تعدتها إلى الإزدراء والسخرية، حيث درجت اجتماعيًا، ثقافة لوم اللاجئ وتحميله مسؤولية الأزمات المتناسلة، وامتدت الحملات إلى السّخرية والتشاوف، وتطورت إلى اعتداءات لفظيّة وجسدية وتبليغ البلديات عن اللاجئين، فضلاً عن معايرة اللاجئين بجنسيتهم السّورية وتنميطهم بالمصطلحات الساخرة والعنصريّة كـ “الحوراني” و”النوري” و”البدوي” و”غير المتعلم والمثقف” تماشيًا مع الخطاب التعميمي والمُجحف الذي تبناه الاعلام اللبناني باستضافته لعنصريين: كنضال الأحمديّة.
أسواق بلا سوريين.. وازدراء
اليوم صارت الأسواق المفتوحة سابقًا والمتنوعة بين البضائع اللبنانيّة والسّورية في البقاع الشمالي، محظورة على اللاجئين والسّوريين. ويحجم الطرفين عن زيارة بعضهما بسبب هذه الحملات القائمة على الترهيب والعنصرية.
اليوم صارت الأسواق المفتوحة سابقًا والمتنوعة بين البضائع اللبنانيّة والسّورية في البقاع الشمالي، محظورة على اللاجئين والسّوريين. ويحجم الطرفين عن زيارة بعضهما بسبب هذه الحملات القائمة على الترهيب والعنصرية
يُشير محمد ع. (٢٥ سنة، سوري الجنسية ويقطن في مدينة بعلبك) لـ “مناطق نت” أنه وبعد حملة نضال الأحمديّة العنصرية، واتهامها السّوريين أنهم بلا ثقافة (على خلفية حلوى الشوكولامو ومعناها)، تعرّض في مهنته وحيث أنه يعمل للمفارقة بمحل حلويات وباتسيري، للمضايقات من باقي الموظفين، الذين ابتدعوها كنكتة سمجة، وباتوا يقارعونه بعدم معرفته لفظ أسماء الحلويات باللغة الأجنبية الصحيحة.
يضيف محمد: “سمعت سابقًا مضايقات عنصريّة، شعرت حينها أن هويتي عبء عليّ، وأن معايرتي بجنسيتي بات نكتة، يستسيغها البعض، وكأنها مذمة. ولم يكن بمقدوري الاعتراض، لأني لا أملك أوراقًا رسمية أو إجازة عمل، وبالتالي إذا اعترضت، يمكن لصاحب العمل طردي، وبالتالي أفقد لقمة عيشي”.
قطاع الزراعة
على وقع الحملات العنصرية التي لاقت رواجًا كبيرًا بين المواطنين “المحتقنين” والمغتاظين من الوجود السّوري في البقاع، مطالبين بطرد اللاجئين من مساكنهم المؤجرة، ومنعهم من التّسوق في المحال التجارية وترحيلهم من البلدات والقرى البقاعية. عَمد بعض أصحاب المشاريع الزراعية لطرد العمّال السوريين من وظائفهم، فيما قام البعض بتهديد العمّال بالجيش أو بالسّلاح لإجبارهم على العمل بالسّخرة، وهنا تقع المفارقة السّوريالية إذ أن هذه المحافظة تحديدًا، كانت ولا تزال تعتمد بصورة مباشرة على العمالة السّورية فيها، أكان بصورة موسمية أو دائمة، وبمختلف القطاعات أهمها الزراعة والبناء، وهذا كان ولا يزال يدرّ أموالاً طائلة لهذه القطاعات المتعثرة، من خلال استغلال (بتشريعات سلطويّة) هؤلاء اللاجئين والعمال الأجانب سنوات بفوارق الأجور والعمالة الرخيصة، وخصوصًا في الزراعة (وقبل الثورة السّورية وما تلاها من حرب).
وللتذكير، فإن العمل في القطاع الزراعي هو على لائحة وزارة العمل، التّي تتضمن المهن التي يُسمح للأجانب وغير اللبنانيين مزاولتها (مع الفوارق الصارخة بالأجور)..
من الحملات إلى الإجراءات، إذ أن ما كان قائمًا بحكم الواقع و“غض النظر”، أصبح مخالفًا بحكم القانون. فقد أصدر المحافظ نفسه بتاريخ 19 نيسان الفائت، مذكرة قضت بتكليف المدير الإقليمي لأمن الدولة في بعلبك الهرمل، بإصدار إنذارات إلى أصحاب المحال التجارية، والمطاعم والمصالح والخدمات ومستثمريهم، بوجوب الاستغناء عن العمالة السورية النازحة، العاملة دون إجازة عمل وبشكل غير قانوني، تحت طائلة إتخاذ القرارات اللازمة، لإغلاق هذه المحال والمؤسسات، وإبلاغ المحافظة بالنتيجة والمقترحات عند انتهاء فترة الإنذارات.
وأكدت المذكرة أن النازحين السوريين يمارسون الأعمال التجارية والاستثمارات والخدمات وجميع المهن في محافظة بعلبك – الهرمل، لا سيما في بلدتي عرسال والقاع ومشاريعها، دون أي مسوغ قانوني، وبشكل مخالف لقانون العمل، وفي حال عدم الالتزام بمضمون الإنذار يصار إلى اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بحق المخالف. (مدركًا أن شطرًا كبيرًا من اللاجئين لا يحملون أوراقًا رسميّة بسبب عوامل عدّة، أهمها دخول بعضهم فرارًا من النظام السوري).
وهنا يُشير اللاجئ سمير (اسم مستعار)، أنه وخلال الحملات الأخيرة اضطر للانتقال إلى منطقة أخرى، لأن شقيقه تم اعتقاله وترحيله، فخاف على نفسه وعائلته من أن يلاقي المصير نفسه.
والحال أن هذا الواقع المستجد في بعلبك – الهرمل والذي يختلف عن سائر المناطق، التّي تلاقي فيها الحملات العنصرية تهليلاً، وسط رهطٍ لا يُستهان به من اللبنانيين المؤججين بالأحقاد الدفينة تجاه اللاجئ السّوري. تشي باضمحلال حقبة تاريخية طويلة قائمة على المصالح المشتركة بين شعبين يربطهما أكثر من الدمّ والجغرافية واللكنة.