سوق «الاثنين» في النبطية تتربّع على عرش أسواق لبنان قديماً وحديثاً

ظلّت سوق الاثنين الشعبية في النبطية من ألمع أسواق لبنان برمته، ومن أشهرها تاريخياً وحديثاً، بالرغم من التقلبات التي طرأت على أمكنتها المحلية، أي في داخل مدينة النبطية ووسطها التجاري، أو على بضائعها التي كانت تتطور بتطور المتطلبات الحياتية والصناعية والتجارية. ومن عالمها الذي كان تسوده إلى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، الصناعات والحرف اليدوية المحلية (الخشبيّة والحديديّة والنحاسيّة والفخاريّة) والمنتوجات الزراعية من حبوب ومؤونة بيتية وخضار وفاكهة، في مجتمع زراعي يعمل فيه أكثر من ثمانين بالمئة من الناس، في جنوب لبنان، إلى طغيان المستورد لاحقاً وما طرأ من تبديل وجديد على هذا المستورد.

لا يمكن تحديد عمر تاريخيّ لسوق النبطية التي باتت تُعرف بسوق الاثنين، ربّما يردّها البعض إلى العهد المملوكيّ (بين 1250 و1517 ميلاديّاً) ويربطها بنشأة العديد من الأسواق في ذلك العهد، ومنها سوق «الخان» المملوكية في حاصبيا وأسواق فلسطين. لكن ثمّة صورة قديمة (الأقدم حتى الآن) لسوق الاثنين تعود إلى تاريخ سنة 1910م، أي إلى أكثر من مئة وعشر سنوات، التقطها سائح يهوديّ كان يعبر من لبنان إلى فلسطين قبل احتلالها مروراً بالنبطية، حيث صودف أثناء عبوره إقامة السوق في وسط ساحة مدينة النبطية، والتي تعرف اليوم باسم «المنشيّة»، فالتقط صورته النادرة التي عرضها أخيراً أحد المواقع «اليهوديّة» وعرّف عنها بالعبرية، أنها تعود لسوق الاثنين في النبطية سنة 1910 م. ويظهر في مطلع الصورة جنديّان من العسكر العثماني يقومان بحراسة السوق، فيما تنتشر البضائع والمعروضات على مساحة الساحة، مثل انتشار رواد السوق في ذاك اليوم التاريخي.

سوق الغلة داخل سوق الاثنين في النبطية العام 1952
أسواق في سوق

يجزم روّاد السوق من «متبضّعين» وتجّار، أنّ سوق الاثنين في النبطية لم تعد كما كانت في سابق عهدها، على الرغم من امتداد معروضاتها على مساحة تشكّل ثلاثة أضعاف أو أربعة عما كانت عليه سابقاً، أيّ منذ نحو ثلاثين أو أربعين سنة، وتعداد تجّارها أضعافاً مضاعفة، لكن هذين الانتشار والاتساع لم ينهضا بالسوق نحو سمعة مميزة كانت تتمتّع بها سابقاً، أيّ أنّها باتت تتشابه بالبضائع المنتشرة هنا وهناك وجلّها من الألبسة الجاهزة والمستوردة ومن اللوازم المطبخيّة البلاستيكيّة، ناهيك عن تلك الحماسة التي كانت تغلب على رواد السوق، من مزارعين وفلاحين وحرفيين ومن مربي الماشية وتحضيراتهم قبل انعقاد السوق بأكثر من يومين واستعداداتهم للتسوق، للبيع والشراء أو التبادل الشرائي والتجاري منتوجاً بمنتوج.

كان الفلاحون يجدون في سوق النبطية ملاذهم، ومثلهم المزارعون، فالسوق يعرض ما يتلاءم مع احتياجاتهم، إذ كانت تنتشر على جوانبه أسواق أخرى قد تتفوّق بأهمّيتها على معروضات السوق، ومنها «سوق الماشية» و«سوق الغلّة» و”سوق اللحم» أو سوق الجزارين، و«سوق الحدّادين» و«سوق النحّاسين» وغيرها من الأسواق كـ«سوق الأحذية» و«الحصر».

كان المزارع ينتظر سوق الاثنين بغية اختيار بذور مؤصّلة قد لا يجدها إلاّ في السوق. وراع يسعى إلى تبديل ماشيته رغبة في تهجين القطيع؛ ومستهلك يبحث عن خضار وفاكهة وحبوب وحوائج وغلال للمؤونة تتميّز في إنتاجها هذه القرية عن تلك، وباحث عن «إبداع» النحّاسين والحدّادين، والسكّافين. كانت مقوّمات سوق الاثنين في النبطيّة محلّية خالصة، وغذائية الطابع، قبل أن تتفوّق فيه البضائع المستوردة على ما عداها، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالألبسة والأحذية.

كانت مقوّمات سوق الاثنين في النبطيّة محلّية خالصة، وغذائية الطابع، قبل أن تتفوّق فيه البضائع المستوردة على ما عداها، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالألبسة والأحذية.

لم يختفِ الغذاء تماماً أمام زحف تلك البضائع المستوردة، إلاّ أنّ مساحته في السوق تقلّصت. وحدها بسطات الخضار والفاكهة وبعض الحبوب «البلديّة» كالعدس والقمح والفريك والحمّص والفول والسمسم والفاصولياء، ومحاصيل الزيت والزيتون (من حاصبيا ومرجعيون) والتين اليابس (من العرقوب) والتفّاح والجوز والكرز والسفرجل (من شبعا) والصعتر والزهورات، إلى جانب مكانس القشّ واللّيف، في إحدى زوايا السوق، هي النماذج الباقية التي تلامس القلوب وتحاكي عهد السوق الذي مضى.

ولا يزال المزارعون من أبناء بلدة كفررمان، بالرغم من تراجع عددهم كثيراً، يطرحون صباح كلّ اثنين، في زاوية معروفة قريبة من الوسط التجاري، تعرف باسمهم، خضارهم الطبيعّية البرّاقة، من نتاج حقولهم وسهلهم، «سهل الميذنة» النامية خارج إطار الخيم البلاستيكيّة والأسمدة الكيماويّة؛ من فجل وخسّ وهندباء وسلق وسبانخ وبقدونس ونعناع وبصل أخضر وجزر أحمر (لا تزرعه إلا كفررمان)، فضلاً عن الملوخيّة الخضراء في أيّام الموسم، واليابسة في فصول أخرى، وكذلك «ضمم» البابونج والزهورات و«مجادل» البصل الأبيض.

خضار كفررمان المميزة

ما يتعارف عليه كثيرون من رواد سوق الاثنين، هو أن منتجات مزارعي كفررمان وخضارهم، تنفد قبل مثيلاتها من بضائع السوق، ولو كانت أغلى منها سعراً، فمن يتقصّد شراء هذه المنتجات الزراعيّة، هم في غالبيتهم زبائن دائمون، يعلمون ويدركون مدى خصوبة أرض كفررمان وغناها بالماء وبُعد مواسمها الزراعيّة عن الأسمدة الكيماويّة. أمّا تراجع عدد مزراعي كفررمان ممن يعرضون منتجاتهم فبسبب تراجع الزراعة المحلّيّة في كفرّرمان وتفوّق قطاع البناء الذي بات يجتاح حقول بلدة لطالما اشتهرت بغناها الزراعيّ.

فبعدما كانت كفررمان تصدّر دلاء اللبن والحليب بكثافة إلى سوق النبطية، بات منتوجها في هذا القطاع ضئيلاً جدّاً يكاد لا يكفي دكاكين البلدة خارج يوم انعقاد السوق. وتنتشر في السوق بسطات متواضعة ذات طابع غذائيّ محلّي، منها بسطات الكعك المحشوّ بالتمر المعدّة من بعض أبناء النبطية، أو بسطات للحلويات العربيّة. فضلاً عن معروضات للغلال والحبوب من خيرات حقول بلدات في قضاء النبطية، على نحو يحمر الشقيف والزوطرين الشرقيّة والغربيّة وعدشيت وجبشيت وغيرها.

أما سوق الماشية التي كانت تحتلّ حيّزاً أساساً من سوق الاثنين، وتنتشر على بيدر النبطية، فقد تراجعت تماماً وتتمثل اليوم ببعض التبادل أو البيع والشراء عند تخوم حي السرايا، خارج السوق، وقد تمرّ أسابيع معدودات من دون عرض للماشية.

بزورات ومكسرات في سوق الاثنين
اجتياح البلاستيك وغياب أسواق

لقد غابت الأسواق الرديفة مثل أسواق «الغلة» و«الكندرجية» و«الحدادين والنحاسين» عن النبطية أمام اجتياح البلاستيك والألمنيوم و«الستنالس» والأحذية المستوردة وريادة البضائع الصينيّة التي تكاد تغطّي مجمل المعروضات. في السياق ذاته، يعيش سوق «اللحم» مخاضاً عسيراً بعدما تبدّدت دكاكينه وتحوّلت نحو وجهات مختلفة، وخصوصاً أنّه أصبح لكلّ بلدة أو قرية كفايتها من «ملاحم» الجزّارين والقصّابين، ففي كفررمان التي كان أبناؤها ينتظرون سوق الاثنين لتناول اللحوم، بعد بيع بضائعهم ومنتوجاتهم، فيها اليوم أكثر من عشرين جزاراً، يبيعون اللحوم الطازجة أو المجلّدة، ناهيك عن متاجر لحوم الدجاج والأفران التي تعدّ بالعشرات، هذا إذا لم نقصد حبوش وكفرتبنيت وعشرات البلدات التي كانت عائلاتها تتبضّع من النبطية ومن سوقها يوم الاثنين قبل أن تكتفي بأسواقها الدائمة أو الطارئة.

لقد غابت الأسواق الرديفة مثل أسواق «الغلة» و«الكندرجية» و«الحدادين والنحاسين» عن النبطية أمام اجتياح البلاستيك والألمنيوم و«الستنالس» والأحذية المستوردة وريادة البضائع الصينيّة التي تكاد تغطّي مجمل المعروضات

ويقرّ تجّار سوق الاثنين في النبطية، الآتين من خارج السوق، من البلدات المجاورة والبعيدة، بواسطة سيارات محمّلة بالبضائع، تشكّل جزءاً من «بسطاتهم» أنّ لسوق الاثنين في النبطية نكهة تميّزه عن مختلف أسواق الجنوب و«جبل عامل» وقد باتت متعددة وكثيرة، تتعلّق بتاريخ السوق وموقعه في هذا الوسط الذي ربّعه في ما مضى من الأيام على عرش الأسواق، ويبعد بتوازٍ عن مدن صور وصيدا ومرجعيون وبنت جبيل وغيرها من المدن الجنوبيّة الرئيسة، فضلاً عما تمثّله النبطية من مركز للمحافظة والقضاء.

قد يلعب التجار المتنقّلون دوراً سلبياً في تراجع روّاد سوق الاثنين في النبطية، إذ أنّ انتقالهم لعرض بضائعهم في العديد من بلدات النبطية ومرجعيون وحاصبيا وبنت جبيل، بما يشكل أسواقاً «رديفة» على امتداد أيام الأسبوع، من الثلاثاء إلى الأحد، جعل العديد من روّاد السوق يكتفون بأسواقهم الخاصة فيجدون فيها ما يسعون إليه ويمتنعون عن الانتقال إلى سوق الاثنين وما يفرضه هذا الانتقال من تكلفة اقتصادية.

الزحمة في سوق الإثنين

بسبب تعاظم عدد بسطات الأقمشة والثياب و«الفوبيجو» واللوازم والمعدّات الكهربائية، فضلاً عن زوايا لبيع الكتب والمعدات واللوازم البيتية التراثية والقديمة؛ امتد سوق الاثنين نحو الغرب ومحيط النادي الحسيني بعدما كان يتركز في قلب الوسط التجاري. وبات لعدد من التجّار السوريين موقعهم في السوق، يعرضون السكاكر والمكسّرات المحمّصة والبزورات أو البهارات على أنواعها.

من فلسطين والجولان

قبل احتلال فلسطين، وقبل الحرب الأهلية في لبنان التي اندلعت في العام 1975، ذاع صيت سوق الاثنين نحو فلسطين والجولان ومختلف المناطق اللبنانية، كان التجار يجدّون العزم نحوه قبل يومين من انعقاده، حاملين بضائع مختلفة من حرف وزراعات محلّيّة، آتية من صفد وساحل عكّا وسهل الحولة بفلسطين والجولان وحوران في سوريا وبلاد وادي التيم والبقاع، ومن صيدا وبيروت؛ يحملها الباعة على ظهر الدواب والحمير أو بين سنام الجمال والخيل، ويلحقون بها قطعان الماشية والأبقار.

كانت سوق الاثنين تحوي كل شيء من مفردات حياة أبناء القرى، من أقمشة وجلود وحصر، وحبوب وماشية وطيور، وتوابل وخضار وفواكه، وخردوات وآلات حرث وسلال وفخاريّات وغيرها؛ ساهمت في تألقها الأسواق «النبطانيّة» الدائمة، الآنفة الذكر، التي كانت موازية لسوق الاثنين وحاضنة له. لكن هذا لا ينفي أنّ الدكاكين والمتاجر انتشرت في جميع أنحاء النبطيّة وأحيائها وعند مداخلها الستة التي باتت تُوصل النبطية مع جاراتها كفررمان وحبوش وزبدين وشوكين والنبطية الفوقا وكفرتبنيت وباتت تشكّل أسواقاً دائمة على امتداد ساعات النهار، لكنها لم تحجب عن سوق الاثنين صيتها الدائم وسمعتها التاريخية، وإن كانت العديد من المعروضات تحتاج إلى وجهات نظر جديدة تعيد للسوق مجدها السابق.

معجنات وحلويات
البضائع الصينية غزت سوق الإثنين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى