شيوعيّون تحت عباءة عاشوراء النبطية
قالتها مراراً وتكراراً، وجوه شيوعية ويسارية، كانت قد لعبت دوراً بارزاً، في تنمية الحركة الثقافيّة وتطويرها في النبطية ومنطقتها على مدى عقود طويلة، إنّها ساهمت بشكل لا لبس فيه، في مسرَحة عاشوراء النبطية، منذ خمسينيّات القرن الماضي وتكريسها، مذ أضحى تشخيص “موقعة الطّفّ” أكثر علانيّة واتّساعاً، بعد إعداد النصّ المسرحيّ المتناقل من جيل إلى جيل، ناقصاً مرّة أو زائداً مرّات.
لقد أمسكت شخصيّات يساريّة بزمام تشخيص موقعة “عاشوراء”، وإخراجها مسرحيّاً وفنّيّاً إلى زمن بعيد، وآخر قريب، من خلال وجوه معلّمين وأساتذة من المدينة أو ممن كانوا يدرّسون فيها، تمرّس بعضهم بالعمل الحزبيّ اليساريّ، أو دار بعضهم الآخر في الدوائر الحزبيّة، أو حولها مناصراً أو صديقاً.
لعب الراحل عبدالله كحيل بين 1935 و1950، أدواراً بارزة، ولسنوات عديدة، في تشخيص مسرحيّة عاشوراء، إلى جانب وجوه أخرى، وقد شخّص مراراً دور الإمام الحسين في المسرحية، قبل أن ينهكه العمر، ويغيبه الموت سنة 1951. معه وبعده، انبرى أبناؤه الصحافي فؤاد والأستاذ حسّان والأستاذ حسن ولاحقاً رضا، إلى المشاركة في إحياء المسرحية، والتمثيل بين شخصيّاتها، وقد أدّى فؤاد كحيل، الشيوعيّ المنتسب إلى حزبه والصحافي لاحقاً في جريدة “النداء”، دور الإمام الحسين في التشخيص سنوات طويلة، إلى جانب المربّي الشيوعيّ الآخر حبيب جابر.
طبعاً ما كانت شراكة الشيوعيّين واليساريّين، من معلّمين ومتعلّمين، لتتمّ في تشخيص عاشوراء النبطية، لولا التنسيق الوثيق مع إمام المدينة الشيخ محمّد التقي صادق، “الأسعديّ” الهوى والقُربى بعد تسلّمه إمامَة المدينة بالوراثة، عن والده العلّامة الشيخ عبد الحسين صادق، الراحل سنة 1942. وكانت تجليّات هذا التعاون في أجواء ثورة سنة 1958، بعدما كُلّف “الزعيم الوائلي” أحمد الأسعد، بإدارة عملية توزيع السلاح على الثوّار، والتنسيق بين فرقهم العسكريّة.
الشيوعي فؤاد كحيل وأشقائه
كان فؤاد كحيل (1927- 1990) من أبرز الشيوعيّين المشاركين في تجسيد “موقعة الطّفّ”، وبه تأثّر أخوته ولو ظلّوا بعيدين عن الانتساب الحزبي، وقد شارك مع أشقّائه الثلاثة في تبادل الأدوار التمثيليّة في المسرحيّة. عن ذلك يقول شقيقهم الراحل رضا (1940 – 2021) في مقابلة سابقة (2018): “كان والدي يؤدّي دور الإمام الحسين، ويتولّى أخي المرحوم فؤاد دور أبي الفضل العبّاس. وكان دور علي الأكبر يؤدّيه أخي المرحوم حسّان (1932- 1989)، أمّا أخي المرحوم حسن (1936- 2011) فكان يقوم بدور الطرماح الذي يدعوه الإمام الحسين للسير أمام الركب الحسينيّ كدليل على الطريق نحو الكوفة، حادياً أبياتاً من الشعر:
يا ناقتي لا تذعري من زجري
وامـضي بـنا قبل طلوع الفجر
بـخـيـر فـتـيـان وخــيـر ســفـر
آل رســـول الله أهـــل الـفـخـر
الـسادة الـبيض الـوجوه الزهر
الـطـاعـنين بـالـرمـاح الـسـمـر
ويضيف: “في كلّ ليلة، وبدءًا من أوّل شهر محرّم، وحتى اليوم التاسع منه، كان أبي يلمّ شمل الممثّلين، ليقوموا بتأدية أدوارهم في موقعة كربلاء، وذلك بحضور فضيلة العلّامة الشيخ محمد التقيّ صادق لتصويب الأخطاء، وللتأكّد من حفظ جميع الممثّلين أدوارهم، وإتقان تأديتها بصورة سليمة. وكان كلّ هذا يجري أمام ناظريّ وعلى مسمع منّي حتى بتّ وأنا في العاشرة من عمري أحفظ معظم الأدوار”.
ويختم: “لقد قام المرحوم والدي بآخر أدواره التمثيليّة في فاجعة كربلاء سنة 1950، إذ توفّي في شهر آب من سنة 1951. بعد وفاة أبي خلفه أخي فؤاد بتأديّة دور الإمام الحسين، وتولّى أخي حسّان دور أخي فؤاد، أبي الفضل العبّاس، وبقي أخي حسن يقوم بدور الطرماح. ولما صرتُ أنا في سنّ السادسة عشر، قمت بدور القاسم بن الإمام الحسن. وبعد انتقال أخي فؤاد إلى بيروت وانشغاله في العمل الصحافيّ في صحيفة النداء، خلفه أخي حسن بدور الإمام الحسين، مع احتفاظه بـتأدية دور الحاديّ الطرماح بالصوت فقط، وبقي مؤدّياً هذا الدور إلى سنة 2003”.
كان فؤاد كحيل (1927- 1990) من أبرز الشيوعيّين المشاركين في تجسيد “موقعة الطّفّ”، وبه تأثّر أخوته ولو ظلّوا بعيدين عن الانتساب الحزبي، وقد شارك مع أشقّائه الثلاثة في تبادل الأدوار التمثيليّة في المسرحيّة
كان الحزب الشيوعيّ هو الأقوى على المستويات الحزبيّة والثقافيّة والشعبيّة في النبطية، على مدى أكثر من عقدين بين 1950 و1970، إن لم نقل حتى بداية شرارة الحرب الأهليّة اللبنانيّة سنة 1975. وضع الشيوعيّون ومعهم أصدقاؤهم وأترابهم اليساريّون، تجاربهم الثقافيّة والحزبيّة، في خدمة المسرح العاشورائيّ، فطغى دورهم الثقافي هنا على الدور السياسي، بما لا يتعارض مع مبادئهم، إذ تعاملوا مع هذا المسرح بجدّية واحترام، باعتباره يتناول حدثاً إنسانيّاً تاريخيّاً موروثاً، تدور في فلكه شريحة واسعة من قواعدهم الشعبيّة.
كثيرة هي الوجوه الشيوعيّة التي مثّلت في مسرحيّة عاشوراء النبطية، والتي كانت تتفرّد بها عاصمة جبل عامل على المستويين الجنوبيّ الخاصّ، واللبنانيّ العام. وتنوّعت أدوارهم إلى جانب أصدقاء في الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعي (في فترة لاحقة بعد 1960) وغيرهم من “يساريّيّ الهوى” والأصدقاء، حتى من أصدقائهم في التيّار الأسعديّ المنتشر في حينه، المُؤَيَّد من المرجعيّة الدينيّة، الشيخ محمد التقي صادق، ابن خالة “أم كامل الأسعد” زوجة “الزعيم” أحمد الأسعد، بين رئيسيّة وثانويّة، منهم إلى جانب الأستاذ فؤاد كحيل وأشقائه “الأساتذة”، والأستاذ حبيب جابر (1928- 2010)، والشاعر الأديب حبيب صادق (1931- 2023)، والأستاذ عبد الحسين حامد (1928- 2002)، وحسن الصيداوي (1930- 2018)، والأستاذ محمد الزيباوي (1932- 2003)، قاسم قديح (1930- 2022) عصام حمدان، أحمد مزهر، أحمد وحسن سلوم، طالب كمال (أبو حسن) مصطفى الحاج علي، أحمد حجازي (أبو حمده)، رفيق طه، كاظم عواضة، محمد إبراهيم، منير نحلة، محمد علي زين، سمير فياض وغيرهم.
“لقد شارك الشيوعيّون في الأدوار الرئيسيّة لتمثيلية عاشوراء التي كانت تتمّ على بيدر النبطية، قريبة من النادي الحسينيّ، وكذلك في بعض الأدوار الثانويّة، وقد لجأ إليهم الشيخ محمد التقي صادق، كونهم من الطبقة المتعلّمة في النبطية، وغالبيتهم كانوا معلّمين في المدارس الرسميّة، وفي طليعتهم الأستاذان (الشيوعيّان) فؤاد كحيل وحبيب جابر.
“أنا في أدواري الأولى لعبتُ شخصيّة عمر بن سعد، ثم عبيد الله بن زياد، عندما تخلّى الأستاذ محمد الزيباوي عن هذا الدور”. يقول المحامي سمير فياض وهو كان من الرعيل الشيوعي القديم في النبطية لـ”مناطق نت”. ويتابع: “كانت ميولنا الشيوعيّة لا تتعارض مع تشخيص مشهديّة عاشوراء، بل اعتبرها شيوعيّو النبطية واجباً من واجباتهم تجاه جمهورهم في المدينة، والذي كان جمهوراً واسعاً، لدرجة أنّ معظم الممثلين إن لم يكونوا شيوعيّين، كانوا مؤيّدين، أو لا يعارضون هذه الأجواء، وكانت نقطة الارتكاز في ذلك، حيّ السراي وسط النبطيّة، وكان بمثابة النبض للشيوعيّين في المدينة”. ويتذكر فياض قائلاً: “كنّا نجتمع في مسجده القديم شمال غرب الحيّ، ومنه ننطلق بمسيرة نحو السوق ثم نحو البيدر لتجسيد الموقعة”.
“بين أعوام 1956 و1958، كانت النبطية تغلي تأييداً لثورة الجزائر والجزائريّين، وتحت عنوان “مراكش عربية”، انطلقت في المدينة سلسلة تظاهرات مؤيّدة، قامت على أثرها السلطة باعتقال العديد ممّن شاركوا في التظاهرات وسجنتهم، وكان من بينهم بعض الممثلين في مسرحيّة عاشوراء، أو أصدقاء الممثلين و”الأبطال”، فما كان “من فؤاد كحيل ونحن معه، إلاّ أن تمنّعنا عن تجسيد موقعة عاشوراء على البيدر، في اليوم العاشر وسط حشود الناس، مشترطين الإفراج عن أصدقائنا وإطلاق سراحهم، ولم نعد إلى إحياء المسرحيّة، إلاّ بعدما أجرى الشيخ محمد التقي صادق، اتصالاته بأحمد الأسعد، الذي قام بدوره باتصالات مع الجهات المعنيّة، أفضت إلى الإفراج عن زملائنا، ولم تبدأ المسرحيّة، إلاّ بعدما تأكّدنا من حضورهم بيننا أو جلوسهم على الكراسي أمامنا” يضيف المحامي فياض.
شارك الشيوعيّون في تمثيلية عاشوراء التي كانت تتمّ على بيدر النبطية، وقد لجأ إليهم الشيخ محمد التقي صادق، كونهم من الطبقة المتعلّمة في النبطية، وغالبيتهم كانوا معلّمين في المدارس الرسميّة، وفي طليعتهم الأستاذان (الشيوعيّان) فؤاد كحيل وحبيب جابر
يومها بدأ اعتصام الممثلين اليساريّين، في مسجد حي السراي “التحتانيّ”، حيث كانوا ينطلقون بعد ارتداء ثيابهم المخصّصة لتأدية الأدوار. “ولم نخرج إلى التمثيل، إلاّ بعد حضور عباس عيسى (بائع خضار)، وكان ممثل الشيخ محمد التقي في أمور عاشوراء، وأبلغنا أنّ نحو 12 موقوفاً في موضوع تظاهرة الجزائر، أطلق سراحهم بمساعٍ من الشيخ محمد التقي، ووساطة من أحمد بك الأسعد، وكان موقفاً سياسيّاً من خلال عاشوراء، تناولته الأجيال لسنين طويلة” بحسب رواية فياض لـ”مناطق نت”.
كان من المتعارف عليه في مسيرات اللّطم الليليّة، في وسط ساحة النبطية، قبل التوجّه إلى النادي الحسينيّ، هو عبور فرق اللّطّيمة إلى قصر آل الفضل، من تحت الدرج، حيث كان النائب بهيج الفضل، يطلّ عليهم مباركاً ما يقومون به. “قرّرنا كيساريّين وشيوعيّين، إبطال هذه العادة التي لا تقدّم أو تؤخّر في موضوع إحياء ذكرى عاشوراء، بل تنمّ عن ولاء للزعيم أكثر منه للذكرى.
في ليلة من ليالي عاشوراء، شبكنا أيدينا حول فرق “اللطّيمة”، ولمّا حان وقت الدخول من تحت درج قصر البيك، منعناهم وواصلنا الطريق نحو الحسينيّة. في اليوم التالي حاول أزلام الفضل إجبارنا على الدخول، وحدث عراك وطعنة سكيّن لأحدنا من أزلام الجهة الأخرى، وسقوط جرحى، لكن في نهاية الأمر، ألغينا من قاموسنا العاشورائيّ النبطانيّ، عادة الدخول إلى قصر الفضل”.
لأكثر من خمسين عاماً مثّل قاسم قديح “أبو رشاد” دور “الشمر” في مسرحيّة عاشوراء النبطية، مزج قديح بين حبّه للحسين، ومبادئه الشيوعيّة بحسب ما ذكر الزميل زهير دبس في لقاء سابق مع “أبي رشاد”، قبل رحيله في سنة 2022. ويقول على لسانه: “الدين لله والوطن للجميع. شيوعيّ أنا وأمثّل دوراً في مشهديّة عاشوراء الحسين، وكلّ الناس تعرفني. لم أكتفِ بذلك، بل حوّلت كل فرقة تمثيل وقائع عاشوراء إلى شيوعيّة، وصارت الناس تقول: صارت العاشوراء شيوعيّة. يتّهمون الشيوعيّين بإنهم بلا دين، نحن أصحاب الدين. أعتز بشيوعيّتي ولا أعتبر أنّ الشيوعيّين فعلوا أيّ خطأ ولم يعملوا إلاّ كلّ خير، لمصلحة العامل والمعتّر والفقير، تماماً مثلما أراد الإمام الحسين”.
يقول الراحل قاسم قديح: “شيوعيّ أنا وأمثّل دوراً في مشهديّة عاشوراء الحسين، وكلّ الناس تعرفني. لم أكتفِ بذلك، بل حوّلت كل فرقة تمثيل وقائع عاشوراء إلى شيوعيّة، وصارت الناس تقول: صارت العاشوراء شيوعيّة”
يوم دخلت مسرحيّة عاشوراء في الإطار الفنّي الصرف، وتولّى إخراجها أو الإشراف على الإخراج متخصّصون معروفون ومشهورون، كان اللافت في أنّ جميع من تولّى هذا الأمر، كانوا يساريّين، أو شيوعّيين، وفي طليعتهم حسام الصباح، مشهور مصطفى، رئيف كرم (رائد مسرح الشارع)، والعراقيّ جواد الأسدي (المتخرج من بلغاريا سنة 1983). ناهيك عن ممثلين معروفين، على نحو عمّار شلق وخالد السيّد وبديع أبو شقرا وباسم مغنيّة ووفاء شرارة وغيرهم. لكن أجرة هؤلاء باتت تدفع بالدولار الأمريكيّ، بينما كانت تتمّ في عهد الشيوعيّين واليساريّين ولاحقاً، في عهد الممثّلين من أبناء النبطية مجّاناً من أوّلها إلى آخرها.