صيّادو بحر صور وأسماكه.. ثروة على طريق الانقراض

عام 2005 أعدّ “ناصر عجمي” الباحث في علم الإجتماع وأخرج فيلمه الوثائقيّ الأوّل بعنوان “جرجارة”. الفيلم كان من إنتاج سمير عجمي وعُرض لأوّل مرّة عام 2006، ثمّ عُرض مجدّدًا عام 2019 عقب ثورة 17 تشرين. يحكي الفيلم وبطله “زوزو” الصّياد الّذي قرّر الهجرة إلى العراق بعد إنتاج الفيلم بسنتين قائلًا لناصر: “موت بالعراق موتة وحدة، أحسن ما موت هون كل يوم”، ولم يهاجر زوزو، بل مات هنا كلّ يوم متابعًا عمله كصيّاد حتّى توفّي بعد الفيلم بخمس سنوات. يحكي الفيلم عن حياة صيّادي صور اليّوميّة الّتي تبدو بسيطة في ظاهرها بينما تتخفّى وراءها بؤر فساد وألعاب السياسة، وتقاعس البلديّة عن مهامها بحجّة “البلديّة صغيرة لترعى 500 صيّاد في صور، هذه مسؤوليّة الدّولة” كما أشار رئيس البلديّة آنذاك في الفيلم، إضافة إلى إختباء نقابة الصّيادين خلف مشاريع ضخمة باءت بالفشل، وغياب مؤسّسات المجتمع المدني الّتي رمت “الطّعم” ذاته لهؤلاء المهمّشين الّذين لم يملكوا سوى القبول والأمل.

فيلم “جرجارة” لناصر عجمي

صوّر عجمي فيلمه بعد فشل “مشروع التّنمية الإقتصاديّة الإجتماعيّة لمدينة صور” المموّل من الإتحاد الأوروبي والتعاونية الإيطالية، الذي كان عجمي جزءًا منه بصفته باحث سوسيولوجي. أعطى المشروع وعودًا كثيرة للصّيادين في صور وأحلامًا أكبر مما حلم هؤلاء، وقد تجاوبوا بعدما كانت الوعود كفيلة بتغيير حيواتهم إلى الأبد، ولكنّه فشل كمعظم المشاريع التي انطلقت باسم صور وناسها وصياديها من عام 2005 حتى اليوم، وذلك ليس لسوء التخطيط فقط بل لأنّ معظم هذه المشاريع هدفت دائمًا إلى إعادة الإعمار دون النّظر إلى الأعمدة التي حملت صور منذ بداية تكوينها وهي هؤلاء الصيادين والمنسيّين في القاع. ولأنّهم لم يحاولوا حتى تطبيق ما وعدوا به بحجّة التّمويل، “على الرغم أن التمويل كان ضخمًا. هذا ما جعلني أترك عمل الجمعيات والمنظمات الدولية لاحقًا” يقول عجمي لـ “مناطق نت”.

ما صوّر جرجارة بهذا الأسى والوحشة هو الإحباط الّذي خرج به عجمي من المشروع، وهو ما كان كفيلًا بتحويل ناصر من باحث إجتماعيّ إلى مخرج الواقع. طوال الفيلم تتعارض نظرات الشخصيات المشارِكة مع الكاميرا، أحيانًا يبتسمون بالخفاء وأحيانًا يحاولون إخفاء إستهجانهم وفرحهم بأنّ أحدًا التفت أخيرًا إليهم وأنهم سيظهرون للشاشة والعالم. رغم ذلك لم يتردد عجمي من تصوير هذه اللقطات بعفويتها، وهي التي كانت كفيلة بوضع أسلوبه البسيط بالإخراج تحت النقد الشديد لو أنها لم تكن قد حملت أبعادًا كهذه.

في الفيلم شخصيات كثيرة من خبراء في الشأن البيئي ومؤسسين للمشروع وصيادين، بعضهم مات الآن وبعضهم ابتلعه البحر وبعضهم استمر في الصيد من خلال أبنائه الورثة. كانت حياة الصيادين دائمًا محكومة بدورة لا نهائية، إذ ترتبط بعامل التّوريث، من الجدّ إلى الأب إلى الإبن. وهذا ما أشار إليه أحد شخصيات الوثائقي بعدما قال إنه ورث مهنة الصيد من والده المرحوم مستخدمًا تعبير “علّقني”. في زمن الفيلم عام 2005 يحاول “زوزو” منع طفله الأصغر في إحدى لقطات الفيلم من الذهاب برفقته إلى الصيد فجرًا، وكأن الصّيادين عرفوا منذ ذلك الحين أن لا مستقبل للبحر والصيد والغلابة. كما يضيف صياد شاب: “إذا بأيّامنا هيك، كيف ع أيام أولادنا؟ انقرض البحر”. بين عام 2005 واليوم تبدّلت الحياة وملامحها وناسها، فهل تغيّر الصّيادون؟ هل انقرض البحر؟

هيروشيما بحر صور

عام 2019 صنّف موقع “ناشيونال جيوغرافيك” بحر صور في المرتبة الرابعة بين أجمل شواطئ البحر المتوسط. يُعدّ بحر صور دورة إقتصادية ومصدرًا غذائيّا كافيًا بحاله، إذ كانت تعتاش منه 750 عائلة من الصيادين الذين اعتمدوا على البحر وكان لهم الصيد مصدرًا أساسيًا لقوتهم اليومي، مع الوقت صار عددهم 500 ثمّ انخفض العدد حتّى وصل إلى 300 صياد. لم يكن هذا الانخفاض التدريجي منذ عام 2005 حتى اليوم عبثيًا، فقد تدهورت صحة الثروة السمكية في صور وازداد جور بعض الصيادين من أبناء البلدة والغرباء، كما ازداد تلوّث المياه وكسر القوانين التي حظرت طرق الصيد الجائر العشوائي من قبَل وزارة البيئة والبلدية وصولًا إلى النقابة.

خلف هذا الجمال المدوي للبحر، تعيش مجتمعات مصغّرة من الصّيادين الذين شكّلوا عواميد مدينة صور منذ البداية، فلم تفرّط الدولة بهم وبفقرهم، إذ تحاول الحفاظ على استمرارية هذه الفئة وتأمين دورة التوريث الطبيعية فتستخدمها حطبًا لموقد مبتغاها السياسي والإقتصادي وقت العوز. “مطلوب أن تبقى هذه الفئة من الصّيادين بحالة صعبة وبظروف مهمّشة لأنهم كتلة انتخابية يستطيعون استخدامها بأقلّ تكلفة” يضيف عجمي لـ”مناطق نت”.

في زمن الفيلم عام 2005 يحاول “زوزو” منع طفله الأصغر في إحدى لقطات الفيلم من الذهاب برفقته إلى الصيد فجرًا، وكأن الصّيادين عرفوا منذ ذلك الحين أن لا مستقبل للبحر والصيد والغلابة. كما يضيف صياد شاب: “إذا بأيّامنا هيك، كيف ع أيام أولادنا؟ انقرض البحر”.

إذا أردنا تعداد المشاكل التي تعاني منها الثروة السمكية في صور يتبيّن أنها المشاكل ذاتها تكرّرت منذ أكثر من عشر سنوات على الرغم من تخوّف المسؤولين منذ ذلك الحين من انقراض الثروة السمكيّة، بحال استمرّ الحال هكذا. رغم كلّ ذلك لا تزال الثروة السمكيّة في حالة مصارعة أبديّة على البقاء، وكلّ الجهود للحفاظ عليها لا يمكن وصفها بأكثر من مبادرات فرديّة وأحيانًا شكليّة فلم يخلُ المشهد أبدًا من الصّيادين الهواة والمتمرّسين الذين يعيشون من الصيد وممارساتهم الجائرة.

الصيد بالديناميت

بحسب مصطفى رعد المستشار الإعلامي في الحركة البيئية اللبنانية يُعدّ التفجير بالديناميت كطريقة سهلة لصيد أكبر عدد من الأسماك، من أخطر العوامل التي تهدد الثروة السمكيّة في صور. إذ يؤثّر التفجير بالدرجة الأولى على الأرض البحرية التي تستخدمها السمكة بيتًا للإباضة، فتؤمن استمراريّة دورة السمك البحري. يعي معظم الصّيادين مخاطر التفجير بالديناميت فالأسماك التي يتم اصطيادها جرّاء هذه العملية، هي أسماك سامّة يُمنع اصطيادها وأكلها وبيعها في السّوق. “تفرز السّمكة من الفزع جرّاء التّفجير مادة سامّة، كما تنكسر سلسلة ظهرها. وزارة الزراعة تراقب هذه الأمور وتحظرها ولكن في بعض المناطق كالصرفند يتمّ استخدام الديناميت بكثرة رغم عمل القوى الأمنية والجيش لمنعها” يقول رعد.

لم يعد من الصعب جدًا استكشاف مواقع الأسماك دون المخاطرة بالوقت والنزول إلى البحر، فمع التقدّم التكنولوجي وظهور مواقع تُعنى بالثروة السمكيّة كـ “فيش فايندر” تغيّر حال الصيادين وخاصة صيادي الديناميت الذين يستكشفون المواقع الغنية بالأسماك عبر هذه المواقع ويقومون بضربها. يقول أحد صيادي الديناميت في صور لـ “مناطق نت”: أنا لا أستخدم الدّيناميت دائمًا، ولكن حين لا أحصل على الكمية الكافية من السمك أضطرّ للتفجير. لا استسهالًا، أنا أحبّ البحر حتى لو قضيت فيه يومًا كاملًا ولكن من لديه أولاد لن ينتظر كي يموتوا من الجوع حتى لو حوّلنا بحر صور إلى هيروشيما ثانية”.

يُعدّ التفجير بالديناميت كطريقة سهلة لصيد أكبر عدد من الأسماك، من أخطر العوامل التي تهدد الثروة السمكيّة في صور. إذ يؤثّر التفجير بالدرجة الأولى على الأرض البحرية التي تستخدمها السمكة بيتًا للإباضة، فتؤمن استمراريّة دورة السمك البحري

يُستبعَد أن يكون هؤلاء الذين يفّجرون بالديناميت من الطبقة الفقيرة التي أخذَت الصّيت في ذلك. وهذا ما أشار إليه علي سليم لـ “مناطق نت”: “كل صيادي الديناميت معروفين، بس الضهر محمي”. أن تكون للحصة الأكبر من الصيادين الذي يفجّرون لسنوات دون أن يتعرّضوا للمساءلة، حصانات سياسية ومحسوبيّات، يعني أنّ الصياد الفقير ليس وحده في صور هو الذي يقوم بهذه المخالفات بل هي الطبقة التي تختبئ خلف المهمّشين من الصيادين، والقادرة على تأمين الحماية لها. “لغاية اليوم لا يوجد صياد واحد في السجن، أو أحد غُرّم بمبلغ مالي. هذه مسائل كبيرة لكنهم يخرجون منها كالشّعرة من العجين”.

أسماك على طريق الانقراض

تنقرض أجيال كثيرة من الأسماك في بحر صور وينقطع نسلها في لحظة ولادتها أهمّها سمك “السّردين” الذي لو كبر وصار سمكة كبيرة، فإن ذلك يعود بفائدة إقتصاديّة للدولة والصيادين. يستخدم صيادو صور عادة الشباك الصغيرة التي تلمّ الأسماك الصغيرة والكبيرة والسامة في البحر. يعقّب رعد: “باستخدام الشباك الصغيرة نحن نخرج الأسماك الصغيرة من الحضانة، أي أننا نمنع الدورة الإقتصادية والدورة الحياتية الطبيعية للأسماك”.

يرى رعد أن هذه المسألة والحد منها يعود لوعي الصيادين بمخاطر استخدام الشباك الصّغيرة. الكميات المنتجة من بحرنا هي بحدود الـ 5000 طن من الأسماك، بينما حاجة السّوق ترقى إلى 8000 طن، هذا النّقص الكبير في السوق أيّ الـ 3000 طن المتبقّي يستورده لبنان من الخارج. في هذه الحال لا تعرف الدولة إن كان السّمك المستورد محفوظًا بالطريقة الصحيحة خلال عملية الإاستيراد، أو خلال نقله من المرفأ إلى المسامك مع مراعاة الحرارة المناسبة للحفاط على الأسماك.

أنواع شباك الصيد

أسباب عديدة تتحمل مسؤوليتها البلديات أدت إلى تلوث بحر صور وهددت ثروته السمكية وحياة أجيال من الصيادين، أهمّها قنوات الصرف الصحي في صور التي تؤثّر مباشرةً على الثروة السمكية، ومنها أزمة محطة معالجة مياه الصرف الصحي في البقبوق التي تتعطّل عن العمل في كثير من الأوقات. يشكّل هذا التلوّث المائي بيئة جاذبة للأسماك الغازية التي تنزح من دول أخرى، تحديدًا من البحر الأحمر. يشير مصطفى رعد أنّ هذه الأسماك لا تستقطبها إلّا الأماكن الملوّثة، ويضيف: “قسم من هذه الأسماك لديه قيمة إقتصاديّة، ولكن القسم الآخر يؤثّر على السّمك البلدي الموجود في بحرنا”.

قدّم المعنيون حلولًا كثيرة لبحر صور وصياديه على مدى سنوات كالغوص والصيد باستخدام البندقية ما يؤدّي إلى تنظيم عملية الصيد وبالتالي الحفاظ على الثروة السمكة دون الاصطدام مع الأسماك الصغيرة، ولكن بقيت هذه الحلول كحال المشاريع الكبرى أيضًا تستهدف الفئة “القادرة” في المجتمع وبالتالي لم تنفع لتكون مرجعًا للصياد الفقير الذي يعيش من الصيد والذي تنتظره عائلة في نهاية كلّ مساء حتّى تأكل وتستمرّ.

في السنوات المقبلة، وفي حال استمرّ عالم الصيد والأسماك في صور على هذه الوتيرة الخارجة عن رقابة الدولة، سينخفض حتمًا إنتاج السمك وبالتالي لن يكون أمام الدولة إلا الإستيراد من الخارج. مع هذا التوقع المستقبلي الحتمي سيُدمّر مجتمع الصّيادين الذي يشكّل قطاعًا مركزيًا في الدّولة ودورتها الاقتصادية والسياحية، وبالتالي لن نسمع بصيّاد واحد يقف أمام الميناء وهو يحاول أن يؤّمن طعام يومه، بل سنسمع جملة الصياد الشاب التي قالها عام 2005: “انقرض البحر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى