طنطور وشروال وحذاء فرو.. تاريخ الألبسة اللبنانية
لم تكن خزانة الثياب جزءًا ضروريًّا ضمن أساسيّات البيوت القديمة، ذلك أنّ الفقر كان أفقيًّا، معشّشًا في السواد الأعظم من المنازل، فلا يحتاج المرء سوى مشجب بسيط، أو مجرّد مسمار مغروز في الجدار، تُعَلَّق عليه بعض القمصان والمناديل. قلّة من هؤلاء امتلكوا صناديق كبيرةً، تحوي بعض قطع ثياب، خصوصاً تلك التي ترتديها المرأة، وبعض الحليّ، والمفتاح وأوراقًا ثبوتيّة؛ في العادة يكون ذاك الصندوق ضمن جهاز البيت للعروسين الجددين.
أمّا الغسيل فكان يُنجَز عند أطراف بركة الضيعة، وفي حالات ثانية يتم غلي الثياب في “لكَن” كبير، ويتم التجفيف بإلقائها على غصون الشجرة أو حجارة السور، إن كان هناك من سور أصلًا. وقتذاك كان الكيّ نكتة سمجة، فما همّ الفلاح إن كان ثوبه أملس أم مجعّدًا. مع ذلك كان البعض يلجأون إلى وضع الثياب تحت فرشات النوم بغية تسويتها، والتقليل من “طعجاتها”، بينما احتوت بعض البيوت على مكواة تعمل بواسطة الفحم الذي يدَسّ في جوف جسمها المعدنيّ.
الأسس التاريخيّة
كانت ورقة التين أو التوت، اللباس الأوّل و”ساتر” عري آدم وحوّاء إذا ما قاربنا التاريخ ببعده الدينيّ، أو الميثولوجيّ، بينما يقول العلم إنّ جسم الإنسان كان ممتلئًا بالشَّعر كوسيلة تدفئة ضروريّة في صراع البقاء، ومع الوقت راح البشريّ يرتدي جلود الحيوانات التي يصطادها، ويسكن أماكن ذات مناخات أكثر لطفًا، وراحت مساحات الشَّعر تتضاءل على الجلد. المفارقة أن جلود الحيوانات بقيت مصدرًا رئيسًا لتصنيع الثياب والأحذية حتّى يومنا هذا.
لم تكن خزانة الثياب جزءًا ضروريًّا ضمن أساسيّات البيوت القديمة، ذلك أنّ الفقر كان أفقيًّا، معشّشًا في السواد الأعظم من المنازل، فلا يحتاج المرء سوى مشجب بسيط، أو مجرّد مسمار مغروز في الجدار، تُعَلَّق عليه بعض القمصان والمناديل
يقال إنّ النبيّ إدريس (عند المصريّين أخنوخ، وعند اليونانيّين هرميس) كان أوّل من خاط الثياب، وكان يصنعها من نبات الكتّان. من ناحية التاريخ الأقرب، نستطيع ذكر أوتزي ويُسمَّى أيضًا رجل الثلج وهو مومياء محفوظة طبيعيًّا لرجل عاش في العصر النحاسيّ بين عامي 3350 و3105 قبل الميلاد، عثر عليه مرتديًا للثياب، منتعلًا حذاء فريدًا من نوعه.
ألبسة النساء
بطبيعة الحال تتميّز كلّ بقعة جغرافيّة بأزياء خاصّة، بناء على طبيعتها وحاجاتها والوضع الاجتماعيّ للشعب، إضافة إلى القناعات التقليديّة، والعقائد التي يؤمن بها الناس، وغالبًا ما يكون لها دور، شكلًا ولونًا.
في لبنان، ومنذ القرن السابع عشر، ارتدت النساء العامليّات ثوبًا فضفاضًا من القطن، بخصر عالِ، يتضمّن زركشات، وعلى الرغم من طوله كنَّ يرتدين سروالًا طويلًا تحته، ومن الواضح أنّ الستر كان الغاية الرئيسة لهذا النمط من اللباس، فالثوب الداخليّ صار لصيقًا لأيّ لباس ترتديه المرأة، خصوصًا انّها كانت تعمل في الأرض، وتحضّر الطعام، وتعتلي الأشجار، وتغسل الثياب.
بالنسبة لغطاء الرأس فقد كان أسود على رأسها، أو أبيض في مناسبات معيّنة، ثم صار المنديل الأبيض اللباس الرسميّ للمرأة الجنوبيّة قبل أن يشيع الحجاب الحاليّ بنقوشة وألوانه و”ماركاته”. كانت المرأة تشتري المنديل بالذراع (مقياس طولي للقماش)، فيتمّ قصّه والذهاب به إلى إحدى محترفات عمليّة تطريز وتسنين المنديل، أيّ أن تقوم بتقطيب أطرافه كيلا “ينسّل”. كانت المهمّة تلك تتمدّد نحو مناديل الرجال التي يحتفظون بها في جيوبهم لمسح عرقهم، ومناديل الطاولات، أو حتى تلك التي يتمّ استخدامها للمصافحة لحظة قراءة الفاتحة في مناسبات عقد القران.
أبو العبد نموذجًا
منذ سنوات طويلة تحوّلت شخصيّة أبو العبد البيروتيّ، نموذجًا لإطلاق الفكاهات والطرائف اللاذعة، وقلّما تنبّه أحدهم إلى لباس تلك الشخصيّة الجامعة للعباءة العربيّة (القمباز)، و”الجاكيت” (السترة) الفرنسيّة، والطربوش العثماني. اختزل زيّ أبو العبد التحوّلات السياسيّة والثقافيّة واختزنها، إذ شكَّلت عناصر تغيير في حركة اللسان والطعام، وكثير من أنماط العيش. في الجنوب اللبنانيّ والبقاع تكرّر لباس أبو العبد مع فارق اعتمار الحطّة والعقال بدلًا عن الطربوش، أو الشروال بدلًا من القمباز، وهو ما سنراه في عديد من الصور التي التقطها المستشرقون للرجال في بلاد الشام.
سيرة الشروال
ومثلما استندت فلسفة لباس المرأة على مفهومي الستر وديناميّة الحركة، كانت الحال عينها مع زيّ الرجل، أقله في نصفه السفليّ، فكان الشروال خير خادم لفكرتيّ الستر والراحة في آن.
إن غالبيّة السراويل التي رأيناها، تكاد تقنعنا أن الأسود هو اللون الأوحد لها، بينما فعليًّا كان الأسود لون السراويل الأوّل، ويليه الأزرق الداكن، وقد تحصل فلتات وابتكارات لونيّة، لم تصل أبدًا إلى حدّ الظاهرة. من ناحية الخياطة، السروال فضفاض من فوق، وضيّق على القدمين حتّى الركبة، له “دكّة” تثبّته على الخصر، وقد تتخلّله بعض التطريزات التي ترفع ثمنه، كما ترفع شأن مرتديه. بينما “ليّة” الشروال هي كتلته المنتفخة التي تظهر بشكل أكبر لناحية الخلف، وتشبه “ليّة” الخروف.
يقال إن لفظ “سروال” يعود إلى جذر آراميّ، انتقل إلى الفارسيّة ليكون “شلوار” وهذا يعني أن كلمة شروال أقرب للأصل.
لم ينقطع كبار السنّ عن ارتداء الشروال بشكل كلّيّ في الأرياف اللبنانيّة، حيث ستجد قلّة من العجائز يرتدونه، على عكس قرى جبل لبنان، حيث أصبح الشروال جزءًا رئيسًا من ثياب الشيوخ الدروز، وقد يلبسونه إلى أطفالهم رفقة القلنسوة (لباسٌ للرأْس مختلف الأَنواع والأَشكال) البيضاء.
الطنطور واللبّادة
اعتمد رسّامو الكاريكاتور اللبنانيّ إلباس شخصيّاتهم الرئيسيّة، الشروال التقليديّ، حال توما الرمز الذي ابتكره الفنّان بيار صادق ليكون ممثّلًا للمواطن اللبناني، بينما جعله يعتمر اللبّادة، وهي غطاء قديم للرأس، له شكل أسطوانيّ، مصنوع من صوف الجمل، بينما يلتفّ حول اللبّادة قطعة قماش بيضاء، لها ذيل قصير.
ظهرت اللبّادة في معظم مسرحيّات الأخوين رحباني، التي أسهمت في حفظ الأزياء اللبنانيّة التقليديّة، أقلّه بجزء من تلك الألبسة، بما فيها “الطنطور” الذي ترتديه النساء اللبنانيّات، تحديدًا قاطنات الساحل، وهو غطاء رأس مرتفع، له شكل هندسيّ “مخروطيّ”، وقد يحمل تطريزًا خاصًّا، وتتدلّى منه قطعتا منديل يتمّ ربطهما تحت الذقن لتثبيته باحكام. يذكر أن التماثيل الفينيقيّة القديمة، تقدّم لنا النموذج النحيل للرجل أنذاك، بينما يعتمر قبّعة طويلة دقيقة في أعلاها، كأنّها مزيج من لبّادة وطنطور.
حرّية المشي حفاة
إلى وقت قريب، كانت الجزمة البلاستيكيّة ضرورة من ضروريّات فصل الشتاء، قبلها كانت هناك ابتكارات جلديّة مشابهة، بينما كانت الصنادل للصيف. ولم تكن الأحذية ذات الكعوب رائجة ليس عند النساء ولا عند الرجال. على العكس تمامًا، فكثر من سكّان القرى فضّلوا العيش حفاة في مجمل الفصول، ولم يكونوا يشعرون بالراحة سوى في حالتهم تلك، ولا يجبرهم على انتعال شيء في أقدامهم سوى شدّة الصقيع، وغالبًا ما يكون هذا الشيء مصنوعًا من فرو الحيوانات.
نبذ الثياب الداخليّة
نكاد نجزم أن غالبيّة النساء لم يرتدين حمّالات صدر في أزمنة القلّة، ولا حتى سابقاتها من الابتكارات، ذلك ان تلك القطعة من الثياب ليست تاريخيّة (حلّت أواخر القرن التاسع عشر مكان المُخصِّر) ولم تقتنع بها معظم النساء إذ تكبّلهنّ، وتعوق عمليّات الإرضاع في الحقبات التي كان فيها الإنجاب عمليّة مستمرّة، طالما أنّ المرأة قادرة بيولوجيًا على الحمل. مع ذلك ارتدى قسم من النساء مشدَّا، وهو عبارة عن قطعة قماش تحزم الصدر والبطن. الأمر نفسه بالنسبة للسروال التحتيّ، حيث لم يكن هناك ثوبًا بهذا التخفّف من القماش، ونحن نتكلَّم عن بيوت بلا مراحيض، لتكون الطبيعة الملاذ الوحيد، والأمر عند الرجل والمرأة لا يعوز معوّقات مثل تلك الأثواب التي لم يجدوا أيّ منفعة لها.
قميص التغيير
مع قرار اعتماد دودة القزّ كجزء من الحركة الصناعيّة- الزراعيّة في لبنان، أصبح الحرير مصطلحًا شائعًا عند طبقات الإقطاع، وأصحاب المناصب، فكانت هناك مناديل النساء، وفساتينهن، كما قمصان الرجال وغيرها من الاستخدامات التي كانت “ضروريّة” لإظهار الفوارق الطبقيّة، وها أنّ أحد رجالات الإقطاع في قرية جنوبيّة، يقوم بجلد أحد العمّال في أرضه، حين شاهده في ساحة القرية مرتديًا قميصًا جديدًا يشبه أحد قمصان الإقطاعيّ. الحادثة ليست شديدة القدم، بل حصلت مطلع خمسينيّات القرن الماضي، فالتغيير في الثوب، ينذر بتحوّلات مشابهة تحت الثوب، والوعي يخيف الإقطاع الذي يحكم بالإصرار على تجهيل المجتمع.
عيّنة من أزمنة
ما حديثنا في هذه المقالة سوى مرور “بّانوراميّ” سريع على مئات الأنواع من الألبسة، التي تطوّرت وتبدّلت واختلفت اسماؤها بين منطقة وأخرى، وبعضها بلديّ أصيل، وكثير منها نتيجة تلاقح الثقافات. لذلك ندرك صعوبة حشر التاريخ في بضع فقرات، لذلك يصحّ القول إنّه غيض من فيض الفرو والجلد والقشّ والحرير. ولا ننسى الهندام العسكريّ وتحوّلاته، والدينيّ ومنطلقاته، وكذلك أزياء المهن المتخصّصة.