“عروس اللبنة” تنضم للكماليات وقطاع الألبان والأجبان إلى الاستسلام

كثيرة هي الصعوبات التي اقتحمت “حياة” المواطن اللبناني في السنتين الأخيرتين، وقاسية جدًا فقدانه للمقدرة على مجابهة الواقع قياسًا على حجمه وسوداويته، لاسيما عندما يتعلّق الأمر بـ “لقمة عيشه” التي تهددها الأزمة من كل حدب وصوب..

“عروس اللبنة” كانت الملاذ الأخير للتصدي لهجوم “الجوع” أحيانًا، كانت “البديل” السهل لمقارعة الجوع في كل منزل من دون النظر إلى تصنيفه ومدخوله ورغد العيش فيه من عدمه، فهذه “العروس” حاضرة مع “حبة زيتون” وبعض “الخضرة” لتشكل وجبة تلبي “عصافير” البطن في كل مكان وزمان.

قطاع “الألبان والأجبان” أسوة بغيره من القطاعات الإنتاجية في لبنان، يعاني صعوبات جمّة ويرزح تحت أعباء ثقيلة نتيجة التأثيرات المباشرة وغير المباشرة التي تسببت بها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي نمرّ بها، الأمر الذي بات يهدد “لقمة الفقير” ويجعلها مستعصية عليه بعد أن فقد الكثير من قدرته على الوصول لبعض الحاجيات الأساسية الأخرى.

في البقاع تنتشر مزارع إنتاج الحليب ومعامل الألبان والأجبان التي عصفت بهما الأزمة الاقتصادية بشدّة، ووضعتهما تحت وطأة “الأخضر” الذي قوّض أساسات الليرة اللبنانية، وتركهما عرضة للتآكل الناعم والبطيء، فارتفعت أصواتهم عاليًا بسبب ارتفاع الكلفة وربط كل المواد الأساسية من العلف والمضافات العلفية والأدوية واللقاحات البيطرية بسعر صرف الدولار، بينما المبيع يتم بالليرة اللبنانية، ينام أحدهم على واقع ليستيقظ على وقع خسائر بالملايين.

أحد مصانع الألبان والأجبان في البقاع
طبيعي واصطناعي

لم تقتصر مخاطر المرحلة على عجز المواطن اللبناني عن تأمين حاجياته من هذا القطاع، بل الأخطر من هذا دخول ما يسمّى “أشباه الألبان والأجبان” التي تعتمد في عملية تصنيعها على الزيوت المهدرجة من خلال تجاوزات فنية صارخة بمواصفات صناعية وقد أطلق عليها “اللبنة البديلة، وهذا ما يعرّض الأمن الغذائي في لبنان لكارثة صحية شديدة الخطورة.

سقوط “لقمة الفقير” في براثن الأزمة لم يكن فقط بسبب الأكلاف المرتفعة للمحروقات والكهرباء وكل مستلزمات التصنيع والتوضيب، بل الأزمة طاولت “الحليب” لاسيما بعدما حددت وزارة الزراعة ثمن الكيلوغرام الواحد بـ “نصف دولار” أيًّا كان سعر الصرف، لكن هذا السعر لا يساوي كلفة إنتاجه إذ يؤكد عضو نقابة مربي الأبقار والمواشي المهندس خير الجراح لـ “مناطق نت” “أن الضربات لهذا القطاع نزلت علينا كالصواعق، بدءًا من الدولار وتحكمه بكل مفاصل عملنا من الألف إلى الياء، وصولاً إلى دخول عشرات الآلاف من أطنان الحليب “البودرة” التي بدأت تتغلغل في عملية إنتاج الألبان والأجبان، وهذا ليس كل شيء، بل الأخطر هو تلك المعامل التي بدأت تعتمد على صناعات الألبان والأجبان البديلة المشتقة من الزيوت المهدرجة مما أثّر سلبًا على عملية تصريف كميات الحليب في مزارعنا، وحتى السعر الذي حددته الوزارة مرتفع جدًا للمستهلك إن أراد التعويض من خلال التصنيع المنزلي”.

المهندس خير الجراح

“الله يعين المواطن” بهذه الكلمة يؤكد الجراح أن المواطن اللبناني القابع تحت أعباء المرحلة القاسية التي يعيشها يتعرض اليوم إلى أبشع وأخطر عملية ضرب لأمنه الغذائي، فقد أثبتت الفحوصات المخبرية أن الكثير من المنتوجات لا يحتوي على الدهون الحيوانية الطبيعية بل على دهون نباتية اصطناعية “TRANSFATS” مستخلصة من زيوت مهدرجة تؤثر على صحة الإنسان لأنها تحتاج إلى درجة حرارة عالية (مابين 40 إلى 44 درجة مئوية) لحرقها داخل الجسم، الأمر الذي من شأنه أن يتسبب بعوارض صحية كتصلب الشرايين والجلطات القلبية والفشل الكلوي وصولاً إلى السكري والسرطان، إذ تعد الزيوت المهدرجة في هذه الحالة نوعًا من أنواع “السموم” المتسترة داخل المواد الغذائية.

مرحلة الصمود

“الشكوى لغير الله مذلة” بهذه العبارة تستشعر “الغصة” في حديث محمود جابر المدير الاداري لشركة “أبناء جابر جابر” وهو يحتار من أين يبدأ، هل من ارتفاع أسعار المحروقات؟ أم من انهيار سعر صرف الليرة؟ أم من الدولار “الفريش” الذي يضعه التجّار شرطًا إلزاميًا لتزويدك بالمواد الرئيسية؟ أم من “تهالك” قيمة الرواتب الذي وضعك في صورة معقّدة للغاية بين التخفيف من الأعباء التي تتراكم عليك يوميًا وتلمس وضع الموظفين والعمّال والمعاناة التي يرزحون تحت نارها؟.

محمود جابر

“مرحلة الصمود” لا أكثر، إذ يؤكد جابر لـ “مناطق نت” أن “الفقير” بات مهدّدًا بـ “لقمته” البسيطة في زمن ولّت فيه معجزة الأمل بتحسّن الأوضاع، ورغم زيادة الانتاج نتيجة الطلب المرتفع على الألبان والأجبان، إلا أن ذلك لا يعوّض حجم الخسائر التي مني بها هذا القطاع فالقضية مرتبطة بالوضع العام، في بلد إنهارت فيه كل الأسس الإنتاجية، فلم يبقَ إلا “اللحم الحي” نواجه به مصيرنا الأسود.

ويرى جابر أن “قلة الضمير” لدى بعض أصحاب المعامل الذين ركبوا موجة “الفلتان” ضربوا هذا القطاع من دون النظر إلى سلامة الناس، فالأرباح الطائلة التي يجنونها من خلال الاعتماد على الصناعات البديلة المشتقة من الزيوت المهدرجة أغرتهم كثيرًا فكان “الأذى” مضاعفًا، الأذى الصحي للمستهلك والأذى الاقتصادي للمعامل التي ما تزال تحافظ على إنتاجها المستند فقط إلى الحليب الطبيعي، وهذا ما تلمسه من الفروقات الكبيرة بأسعار السلع المعروضة في السوبرماركات بين الطبيعي والصناعي.

ويعيد جابر تفشي هذه الظاهرة إلى غياب الرقابة الفعلية لأجهزة الدولة ولمؤسسات حماية المستهلك، فالمنتجات الصناعية أغرقت الأسواق وأسعارها تغري المواطن بها، نتيجة الضائقة المالية التي يعيشها، لكن ما سيوفره باليد اليمنى سيدفعه أضعافًا باليد اليسرى نتيجة ما تسببه هذه المنتوجات من مخاطر صحية، وأكثر ما يثير الريبة هو أشكال التضليل والخداع للمستهلك من خلال وضع المنتوجات المصنعة في صالات العرض على أنها “طازجة” ومشتقة من “الحليب الطبيعي” ..

بين المطرقة والسندان

تجوب مزارع انتاج الحليب فتقف مندهشًا إزاء “القهر” الذي يجتاح القلوب. وزارة الزراعة تحدد سعر كيلو الحليب الواحد بـ “نصف دولار”، الدولار الذي يمسك بمفاصل كل شيء في لبنان، لكن “العترة” على المنتج الذي يرزح تحت وطأة صاحب الفخامة الأخضر ليقبض بالليرة اللبنانية. صرخة أطلقها المدير الإداري في “SKAFFARM” كميل سكاف وهو يعمل على جدولة الأسعار مرة كل ساعة أو على أبعد تقدير بين ليلة وضحاها.

نحن بين “المطرقة والسندان” هكذا وصف سكاف لـ “مناطق نت” المرحلة. “مطرقة” تهاوي الليرة و”سندان” الاستمرارية، فالقضية لم تعد تُقاس بالأرباح بل بالبقاء قبل الاستسلام. مئات الأبقار، عشرات العمال، مصنع حديث ومتطور لانتاج الألبان والأجبان، والنتيجة “لا شيء”. لم تعد مسألة زيادة الإنتاج تُسعدنا كأرباب عمل واعتمادها لزيادة الأرباح، فزيادة الإنتاج أصبحت بالنسبة لنا زيادة الأعباء وبالتالي الخسائر التي تتراكم يومًا بعد آخر.

كميل سكاف

بدأنا بوضع خارطة جديدة لخطوط التوزيع في المناطق اللبنانية، لتشمل أكثر من منطقة للآلية الواحدة، إذ يؤكد سكاف أنه بمجرد تشغيل آلية التوزيع يعادل مليون ونصف المليون ليرة لبنانية بين محروقات وأجرة سائق وعامل مرافق وحكمًا هذه التكلفة ستضاف على لائحة الأسعار، ناهيك عن عقدة “الفريش” التي تواجهنا، كل الذين نتعامل معهم يطلبون “الفريش دولار” وأنّ لنا الحصول عليه سوى من السوق السوداء، أو الدفع بالعملة الوطنية حسب سعر صرف السوق.

التهريب والدولار

ويشير سكاف إلى أن هناك مصنعين خفضوا الأسعار ليصمدوا في سوق يسهل اجتياحه بالمنتجات الصناعية من ناحية، والأجنبية من ناحية ثانية، خصوصًا تلك المهربة من سوريا أو المصنّعة وفق معايير خطيرة على الصحة العامة. وبدلًا من أن يكون تحسن خطوط الإنتاج مرتبط بإتساع رقعة التوزيع قياسًا على وجود النازحين السوريين، أصبح هذا الأمر سببًا في تراكم الخسائر. من هنا بدأ التركيز ينصبّ على المنتوجات الاصطناعية لانخفاض تكلفة انتاجها (30 % فقط من كلفة الإنتاج الطبيعي) بالاضافة إلى حملة تشهير إعلامي أحيانًا تطاولنا بالاعتماد على الأسعار المعتمدة ومقارنتها بأسعار المنتوجات المصنّعة.

“حتى اللبنة ما عدنا قادرين نشتريها”، يقول سكاف إن هذه العبارة التي سمعها من إحدى السيدات أصابته في الصميم، ألهذه الدرجة صارت اللبنة “وجبة فاخرة” يصعب على المواطن الحصول عليها؟ والمبيعات تحولت من “الكيلوغرامات” إلى “الغرامات”، هذا حال المستهلك، لكننا كمنتجين للألبان والأجبان لا حول لنا ولا قوة فالتراكمات التي تضغط علينا ثقيلة جدًا ويضعون اللوم علينا من دون الالتفات لحجم التكاليف التي تضربنا من كل الجهات.

لم يكن انخفاض القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني والتي أوشكت على العدم حالياً، السبب الرئيسي في عجز الناس عن الوصول لمنتجات الألبان والأجبان، بل في الفوارق المخيفة بين الأكلاف لهذه المنتجات البسيطة والرئيسية والأسعار التي تعتمد، فالبلاد برمتها تعتمد على الدولرة، والدولار يُحلق بلا حسيب أو رقيب، والمواطن بات الضحية الأولى، لأنه لا يبحث عن الكماليات المستجدة على لقمة عيشه (اللحوم والدواجن والأسماك) بل وصل به الأمر لإضافة الألبان والأجبان على هذه القائمة، وبدأت تغيب عن مائدة اللبناني لاسيما ذوي الدخل المحدود الذين كانوا يعتمدون عليها كوجبة أساسية.

إحدى مزارع الأبقار في البقاع
آلاف العائلات إلى المجهول

أمام هذا الواقع المتردي وما يعانيه اللبناني من كارثة اجتماعية غير مسبوقة خصوصًا لناحية الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية والضرورية ومن ضمنها مشتقات الألبان والأجبان، التي تعتبر القوت اليومي لـ “الفقير”. وأمام اضمحلال أي رؤية للنجاة من الهاوية التي بلغناها، تتجه “لقمة الفقير” إلى التلاشي وفقدان آخر “خرطوشة” بين يديه للصمود والبقاء.

لم تعد مسألة مجابهة الأزمة مسألة إدارية فقط، بل أصبحت تتطلب إرادة صلبة وثبات في وجه العاصفة، وغياب أي رؤية رسمية عن شبكة الحلول “زاد الطين بلة”، الوضع الذي ترك المنتج والمستهلك على السواء فريسة لانهيار الوضع الاقتصادي الذي لامس الحضيض، إذ نفتقد في لبنان للخطط والبرامج المثلى لاستغلال الموارد المتاحة لاسيما في قطاع الألبان والأجبان، الذي يعتمد على السوق المحلية فقط لتسويق انتاجه، ويحارب على عدة جبهات تبدأ من ارتفاع تكاليف التصنيع ولا تنتهي عند حدود التهريب عبر الحدود المشرّعة.

سلسلة مترابطة من الواقع المتردّي استحكم بمفاصل “لقمة الفقير” بدءًا من مزارع تربية المواشي والأبقار وإنتاج الحليب وصولًا للكارثة التي يعاني منها أصحاب معامل الألبان والأجبان بلا حول لهم ولا قوة، فالأزمة باتت تهدد مصير آلاف العائلات العاملة في هذه المزارع والمعامل ما لم يكن هناك رؤية رسمية واضحة لإنقاذ هذا القطاع، ومن خلفهما يقبع المواطن مستسلمًا لقدره بعد أن صارت “عروس اللبنة” من الكماليات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى