عندما انفجر “البيجر” وانفجرت معه قلوبنا
شو يعني “بيجر”؟
كان سؤال أختي وهي تقرأ خبرًا من إحدى المجموعات الإخباريّة على “واتس آب”، ثمّ ما لبث الخبر أن تحوّل إلى بلبلة طالت الصغير قبل الكبير، ولولة سيارات الإسعاف، وصُراخ من أحد الأبنية القريبة امتزج ببكاء هستيريّ، تسارعت المشاهد أمامي، وما زال سؤال أختي معلّقًا شو يعني “بيجر”؟
ثم بدأت مجموعات الـ”واتس آب” تتناقل صور “البيجر”. فجأة تصرخ أختي أنّ لدى أحد أصدقائها واحدًا منه، لتبدأ الاتّصالات وتتحوّل لنُكتةٍ ممزوجة بالعجز والقهر، قلنا لها: الآن سيعرفه العدوّ من اتّصالك ويترصّد صديقك هذا؟ لم يُجب، ثمّ اتّصلت بزوجته وأخبرتها، كان الجهاز مرميًّا في خزانة الألبسة، تناولته ورمته في حقل مجاور..
بدأ الأمر بشكل خياليّ، قلت في نفسي: “لعلّ الأمر ليس بهذا التهويل!”، ولكنّ المقاطع المسرّبة لا تقول هذا! ففي وقت واحد، وبثوانٍ قليلة، وبينما اُناس عاديّون بثياب مدنيّة، وبسلوكيّات تشبه حياتنا اليوميّة، في أماكن عملهم، في المحال التجارّية، يقودون مركباتهم، جالسون في منازلهم وبين أسرهم، يمشون ويأكلون، في الجامعة أو في المستشفى، ينفجر بهم هذا الجهاز على صغره في جيوبهم وفي أكفّهم، أو وهم يقرّبونه من عيونهم.
مشاهد مأسويّة
شابٌ في أحد المتاجر، وبينما يقوم بدفع الفاتورة يخرج جهازًا صغيرًا من جيبه وينظر فيه، وفجأة يحدث الانفجار فيقع أرضًا، ويهرب المتواجدون في المكان مذعورين. رجل أمام “بسطة” لبيع الخضار ينفجر الجهاز به فيتفرّق من حوله الناس ويهربون.. طفلةُ تهرع لتخبر أباها عن رنين الجهاز الصغير، فينفجر وتغادر روحها هذا العالم..
“وقتها حسّيت بالصدمة وشي متل الكذب..”؛ في موقفٍ يروي فزع الأمّهات وخوفهنّ، تقول نور لـ “مناطق نت”: “أمي طلبت منّا أن نرمي هواتفنا بعيدًا، ولم تُفلح معها محاولاتنا لإفهامها أنّ الجهاز الذي انفجر ليس هاتفًا بل هو إصدار قديم لإحدى أجهزة الاتّصالات البسيطة والمحدودة، وأكثر ما استوقفني أنّها رفضت إعطاء ابنتي هاتفها خوفًا عليها، وأنا التي كنت في كلّ مرّة أقنعها ألّا تعطيها إيّاه كي لا تكتسب عادة إدمان الشاشات، ولكنّها لم تكن تستجيب، بل تقول لي: حرام خلّيها تتسلّى شويّ”.
دقيقة صمت
يقول حسين حمّود لـ “مناطق نت”، وهو من سكّان الجنوب: “كنت مستلقيًا على الكنبة في منزلي بعد عناء يوم عمل، فجأة بدأت تصل إلى هاتفي رسائل واتّصالات بكثافة، فتحت الهاتف لأُصدم بالأخبار، جرحى ومصابون في الجنوب والضاحية وفي أماكن متفرّقة من لبنان، بعد ذلك صار الناس يتداولون خبر انفجار أجهزة البيجر، ووصلت أصوات تطلب من حاملي هذه الأجهزة رميها بعيدًا”.
يتابع: “في المدن المكتظّة، لم يدرك الناس موضوع انفجار الأجهزة، اعتقدوا بداية أنّ الناس يقومون بإطلاق النار تجاه بعضهم البعض، ممّا أثار الهلع بينهم، وراحوا يتراكضون في كلّ الاتّجاهات حتّى أدركوا حقيقة ما يحدث”.
حسين حمود: في المدن المكتظّة، لم يدرك الناس موضوع انفجار الأجهزة، اعتقدوا بداية أنّ الناس يقومون بإطلاق النار تجاه بعضهم البعض، ممّا أثار الهلع بينهم، وراحوا يتراكضون في كلّ الاتّجاهات
يُكمل: “تعالت أبواق سيّارات الإسعاف في المنطقة، ذهبتُ إلى المستشفى ولم يكن بإمكاني الوصول بسبب زحمة المرور. بادر أصحاب المتاجر وبعض الشبّان إلى مهمّة تنظيم السير وتحويل مسار بعض السيّارات بحيث لا تعيق وصول سيارات الإسعاف، ولا تحتشد في الطرقات، كان الناس متعاونين”.
“ركنتُ سيّارتي في مكان بعيد ومشيت، صرت أسأل العابرين، وكان كلّ واحد منهم يخبرني عن إصابة قريب له أو صديق أو جار، كان الناس في صدمة وفي غير تصديق لما حدث، وعندما اقتربت من مدخل المستشفى، كان هناك عديد من الجرحى بينهم نساء وأطفال، الناس يحاولون طمأنة بعضهم البعض بأنّ الإصابات طفيفة، وتوافد عدد من المتبرّعين بالدمّ. في مدخل الطوارئ كان الأهالي يتجمهرون لمعرفة مصائر أبنائهم، وعناصر الأمن يحاولون تهدئتهم والطلب إليهم أن يبتعدوا كي لا يعيقوا عمل الطاقم الطبّيّ”. يختم حمّود واصفًا المشهد.
مشهدُ مرعب
“كان المشهد مُرعبًا”، يقول الشاب حمزة لـ “مناطق نت”. كان في مركز عمله ضمن منطقة بيروت. يتابع: “أجساد مضرّجة بالدماء، أكفٌّ مبتورة، وجوه وخواصر وأرجل تآكل لحمها دمًا، أشلاءٌ ممزّقة، فقد عديد من المصابين عيونهم، شاهدتُ شابًّا يضع يده على عينه، ومحاجر فارغة من الضوء، ووجوه من بقايا لحم. تجمهر الناس، كيوم الساعة، وكلّ من لديه جهاز راح يرميه بعيدًا”.
يضيف حمزة: “عندما قرأت عن خبر طلب التبرّع بالدمّ، اجتزت الزحام لأصل إلى أقرب مركز للتبرع بالدمّ لدى الصليب الأحمر اللبنانيّ، أخبرتهم بأنّني أريد التبرّع بالدمّ، كانت رائحة الدمّ تسبقني، هل هو دمي الذي فار منّي وانسكب أرضًا؟ كان هناك كُثر غيري ممّن جاءوا للغرض عينه. كان ثمّة ناشطون في حال جنونيّة، يوزّعون عيّنات التبرّع بحسب المناطق، إلى صور، إلى النبطية، إلى صيدا، حتّى أنّهم كانوا يتسلّمون عيّنات الدم من على الأدراج، وقد حضر كثير من الممرّضين والمسعفين من إجازاتهم لغرض المساعدة”.
يروي حسام، الذي شهد إصابة أحد أصدقائه لـ “مناطق نت”: “في المستشفيات كانّ الوضع أشدّ مأسويّة والمشاهد مخيفة، أصوات الأنين تخترق كلّ الجدران والطواقم الطبيّة تتحرّك بعشوائيّة وسرعة جنونيّة، وشعرتُ بالاختناق، بكيتُ أنا الذي قالت لي أمي يومًا: الرجال لا يبكون.. بل انفجرتُ ببكاء محموم، ولم يكن هناك وقتٌ للمواساة؛ من سيواسي من؟ ذهبت روحي حينها إلى غزّة، إلى مستشفى المعمدانيّ ومستشفى الشفاء، إلى الأروقة المزدحمة بالأجساد المدماة وبالجثث والأشلاء هناك، والتي كان تصلنا ونحن جالسين في بيوتنا، لكن المشهد أمامي ليس مقطعًا نشاهده من بعيد، بل واقع اخترق أرواحنا ومزّق قلوبنا”.
مشهد الرابع من آب؟
لم تسلم هذه البلاد من جراحها بعد، ما زالت ذكرى الرابع من آب 2020، تُعشعشُ في أذهان كثر من سكّان بيروت، وهو ما تذكره الدكتورة علا ناصر الدين فتقول لـ “مناطق نت”: “عادت بي اللحظة إلى ليلة انفجار المرفأ، مشهد الضياع والخوف والإصابات، رائحة الدمّ، أصوات سيارات الإسعاف التي لا تصمت في رأسي، الناس الذين يفتّشون عن أحبّائهم، أولادهم، أهلهم، أصحابهم وجيرانهم، هناك شلل كلّيّ في المشاعر، وشعور بالموت المتربّص”.
تقول زينب وهي أمّ لطفلة لـ “مناطق نت”: “كنت في الحمرا أتابع إحدى حصص الكتابة الإبداعيّة في دار المجمّع الإبداعي، عند الرابعة عصرًا، حين علمت بالأحداث من خلال تناقل الخبر بين الزملاء، لم أستوعب ما حصل بداية، ولكن فكرة أن ينفجر شيء ما على خاصرة أحدهم موجعة جدًّا”.
كيف يمكن أن تطمئن؟
تتابع زينب: “ثمّ بدأت تلعلع أبواق سيارات الإسعاف، فتصاعد خوفي، حينها ارتبكت كثيرًا، لم يكن لديّ إنترنت، فقمت بتعبئة الخدمة فورًا، حتّى أطمئن على من أعرفهم، لكن المريع في الأمر أنّه لا يمكنك حتّى أن تطمئن، فالأخبار تصلك من دون أن تسأل، وعلى مجموعات الواتس آب، شعرت بالمسؤوليّة نحو كمّ الرسائل والصور والمقاطع المصوّرة التي كانت تُرسل بعشوائيّة، أرسلت لهم أن يكّفوا عن إرسال الصور التي تظهر الوجوه والأسماء فالعدوّ متربّص.. هناك من التزم وهناك من أخذته الحماسة ونسي واجبه الوطنيّ في مثل هذه الظروف”.
تضيف “علمت أّن جارًا لي انفجر به الجهاز وبرفيقه في المنزل. كانت الإصابة في ظهره والحمدلله لم يكن الوضع خطيرًا، لكنّ الأمر حتّى لو سلُم الأقرباء فهناك شباب يقومون بحماياتنا هم من كانوا المقصودين، كان الأمر مريعًا وموجعًا”.
علا ناصرالدين: عادت بي اللحظة إلى ليلة انفجار المرفأ، مشهد الضياع والخوف والإصابات، رائحة الدمّ، أصوات سيارات الإسعاف التي لا تصمت في رأسي، الناس الذين يفتّشون عن أحبّائهم، أولادهم
أن تفقد جرءًا من جسدك
أن تفقد فجأة ومن دون سابق إنذار جزءًا حميمًا وأليفًا من جسدك، أن تكون ممدّدًا في العراء المزدحم حولك، بشر يركضون ويصرخون، وأنت تنتظر يدًا تنتشلك أو مُسعفًا يقول لك لا تخف “بسيطة بسيطة”، أن تبتسم لكلامه، أو ترغب بصفعه، أن تشعر كأنك تريد أن تطمئنّ إلى كلامه وتُصدّق أنّ جراحك خفيفة، لكن دموع أمّك وهي تنسكب على جراحك فجأة، تحرق موضع النزف الذي تكادُ أن تنساه، محاولًا فتح عينيك، فتخونك الرؤية، ولا ترى سوى “أصوات” أنين، ورائحة دم تقبض على روحك كما لو أنّك في مقصلة؟!.
لم يتوقّف الأمر هنا، هناك جبال من آلام التي لم تُروَ بعد، أعداد الجرحى يفوق الحدّ الأقصى لتدارك المُصاب الجلل. هناك مزيد من الشهداء يرتقون، كثير من الثكالى والأمّهات والآباء دثرتهم الفجائع الطارئة، لعلّ أكثرها دلالة أن تنعى أمّ ابنها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، في مشهد يتوقّف عنده أيّ تعليق أو كلام.
لعلّ أكثر العجائب في هذه البلاد أن يجد الشامتون في هذا الخضمّ من الأسى موقعًا لسقوطهم الأخلاقيّ.