عندما تسقط الجدران تنهض حكايا الأطفال من تحت الركام

تنادي مليكة ابنة الخمس سنوات على قطتها كلّما ذهبت مع أسرتها لزيارة بيتهم المدمّر في يحمر الشقيف (النبطية)، تبحث عن أيّ أثر لها فلا تجده، وفي كلّ مرة تبكي بحرقة فقدان قطّتها “تمر” والتي أخذت اسمها بسبب لونها البني الداكن، لا تكترث مليكة لتدمير العدوّ الإسرائيليّ بيتهم، كلُّ همّها إيجاد القطّة.

على عكس أخيها مهدي ابن الـ 12 عامًا، الذي يبحث بين الركام عن أيّ شيء بقي من غرفته، يتمسّك بحقيبة مدرسته التي تقطّعت أوصالها، ويأخذها معه، يلملم ما بقي من كرته، يتفحّصها جيّدًا، على رغم أنّها لم تعد تشبه شيئًا سوى محطّة مفصليّة في حياته ستصبح ذكرى يحملها معه إلى أجيال قادمة.

خلال رحلة النزوح القاسية، تغيّرت حياة كثير من أطفال الجنوب بشكلٍ دراماتيكيّ وسريع. أولئك الذين تركوا قراهم الحدودّية قسرًا، وجدوا أنفسهم فجأة في مناطق جديدة لم يزورها يومًا، بعيدًا من بيوتهم وجيرانهم وساحات لعبهم، وحتّى مدارسهم التي كانت جزءًا من عالمهم الصغير. كلّ شيء تبدّل، وكأنهم يعيشون حياة أخرى. لكن على رغم هذا التغيير المفاجئ، لا يبدي معظمهم ردود فعل متشابهة، فمنهم من تأقلم سريعًا مع هذه الأوضاع ووجد في هذه المحنة فرصة لبداية أخرى، بينما ظلّ آخرون يحلمون بالعودة عالقين في ذكريات بيوتهم وأماكنهم الأصليّة.

ألعابنا في “يحمر” كانت أجمل

وجد مهدي ومليكة في مدرستهما الجديدة في بلدة تول (النبطية) حيث انتقلا حديثًا، ملاذًا يشغلهم عن وطأة الذكريات، خصوصًا عندما يرون شيئًا يشبه أغراضهم التي تركوها على عجل، وعلى رغم محاولة ذويهما تعويضهما عمّا فقداه بشراء ألعاب جديدة إلّا أنّهم يقولان ببراءةٍ “ألعابنا في يحمر كانت أجمل”.

ذكريات تسكن ركام المنازل (الصورة من بلدة علما الشعب لمهدي كريّم)

تروي ملاك فهدا من بلدة كفركلا كيف صُدمت أختها الصغيرة نور، التي لم تتجاوز الـ 12 من عمرها، عندما علمت بدمار بيتهم جرّاء القصف الإسرائيليّ خلال فترة الهدنة. تتابع لـ “مناطق نت”: “لم تستطع نور تصديق الخبر القاسي، لأنّها انتظرت عودتها إلى بيتها بعد توقّف الحرب، انتظارها خاب عندما رأت بعينيها صور البيت المدمّر”.

على رغم محاولات أهل نور طمأنتها بأنّهم سيعودون وسيبنون بيتًا أجمل، إلّا أنّ نورًا ظلّت تعبّر عن حزنها العميق بالدموع تارة وبالقلق والخوف من المستقبل تارة أخرى، تتحسّر على خسارتها غرفتها وألعابها وكتبها، والصور التي تجمع ذكرياتها مع العائلة والأصدقاء، ولكنّها كما تقول أختها “تتصبّر عندما تعرف عن أشخاص آخرين فقدوا أحد أفراد أسرتهم، أو أصيبوا بسبب الحرب”.

أسئلة نور والعودة إلى كفركلا

تروي ملاك ما جرى عندما نزحوا إلى بلدة الكفور قرب النبطية، فتقول “رفضت نور الذهاب إلى المدرسة، وفضّلت متابعة الدراسة من بعد، كأنّها تحاول أن تحمي نفسها من مواجهة أيّ شيء جديد. لكنّها في النهاية رضخت إلى الأمر الواقع، وبدأت تذهب إلى مدرسة قريبة حيث وجدت بعض ما يؤنسها في غربتها”.

تعترف ملاك بأنّها تجد “صعوبة في الإجابة على أسئلة نور المتكرّرة عن موعد عودتنا إلى كفركلا”، فالأخت الصغيرة تريد أن تجد صندوقها الصغير الذي خبّأت فيه رسائل أصدقائها وذكريات طفولتها، وبعض الهدايا البسيطة التي كانت تحتفظ بها ككنوز ثمينة.

لم يتجاوزوا تجربة الحرب

على الرغم من مرور أكثر من شهرين على سريان وقف إطلاق النار، إلّا أنّ كثيرًا من الأطفال لا يزالون مسكونين بالأحداث الصعبة التي خَبِروها. تُعرب زينة حرب أستاذة اللغة العربيّة في مدرسة خاصّة في بلدة كفرّرمان عن وضع صعب يواجهه التلامذة، تشعر أنّهم لم يتجاوزوا تجربة الحرب، تتابع لـ “مناطق نت: “إذا طلبت إليهم أن يعطوني مثالًا عن فعلٍ ماضٍ، تتشابه إجاباتهم بين مات، استشهد، قصف، هرب”.

تُعرب زينة حرب أستاذة اللغة العربيّة في مدرسة خاصّة في بلدة كفرّرمان عن وضع صعب يواجهه التلامذة، تشعر أنّهم لم يتجاوزوا تجربة الحرب، تتابع لـ “مناطق نت: “إذا طلبت إليهم أن يعطوني مثالًا عن فعلٍ ماضٍ، تتشابه إجاباتهم بين مات، استشهد، قصف، هرب”.

تضيف زينة: “أنا لا أسألهم بشكل مباشر عن بيوتهم، فقد يشعر الطفل بالأسى ويقارن نفسه مع أطفال آخرين عادوا إلى حياتهم السابقة”، وتشير إلى أنّ “الفقد والخسارة هما أصعب ما يمكن أن يمرّ بهما الأطفال، أرى انفعالاتهم تتجسّد بحركات متوتّرة، وذلك من خلال الرسم العشوائيّ على الورقة بحركات سريعة و”شخبطات” غير مفهومة”.

تجد زينة أنّ “الدعم ومساندة الأطفال وإشغالهم بنشاطات فرحة، تُخفّف عنهم التوتّر الذي عاشوه بالإضافة إلى تعويضهم عن انشغال أهلهم في البحث عن مسكن وتأمين مستلزماته وعدم الالتفات بشكلٍ كافٍ إلى صحّة أطفالهم النفسيّة، وترى أنّ إعادة إعمار النفوس الصغيرة تحتاج إلى جهود جبّارة أيضًا”.

ذكريات الحرب من الأم لابنتها

خلّفت حرب 2006 جرحًا في قلب فاطمة باز عندما خسرت بيتها في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، لم تكن خسارة البيت بالنسبة لطفلة في الـ 10 من عمرها مجرّد فقدان لجدران وأثاث، بل كانت خسارة لجزء من طفولتها، لتفاصيل صغيرة كانت تلمسها بيدها كلّ يوم، لخزانتها التي كانت تجمع فيها فساتينها الورديّة، وللزوايا التي كانت تختبئ فيها كي تلعب بهدوء بعيدًا من مرأى الآخرين.

هذه التجربة المريرة عادت لتطرق بابها مرة أخرى، وتضعها أمام تحدٍّ جديد، ليس فقط مع نفسها، بل مع ابنتها الصغيرة ذات الخمس سنوات، والتي عاشت التجربة نفسها في هذه الحرب. تتساءل فاطمة عن العبرة من هذه التجربة القاسية، خصوصًا أنّها من الأشخاص الذين يتعلّقون ببيتهم، بمساحتهم الخاصّة، بكلّ ذكرى تسكن بين جدرانه؟

“الدبدوب” سامي مفقود الأثر

تعود فاطمة إلى ذلك اليوم المشؤوم، الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي، عندما أُجبرت على مغادرة بيتها بشكل مفاجئ بسبب القصف على الضاحية، تقول لـ “مناطق نت: “لم يكن هناك وقت لأخذ أيّ شيء، لم نكن نعلم أنّنا نغلق باب البيت خلفنا للمرة الأخيرة”. تأسف فاطمة لأنّهم لم يتمكّنوا من العثور على “سامي”، الدبدوب الذي كان رفيق ابنتها منذ الولادة، والذي كانت تأخذه معها أينما تذهب”.

خلال الحرب، كانت فاطمة تحاول أن تشرح لابنتها ماذا يحدث، تتحدّث معها عن العدوّ الإسرائيليّ، عن الجرائم التي يرتكبها وعن الدمار الذي يُلحقه بالبيوت، وعن بيتها الذي خسرته في حرب تمّوز (يوليو) العام 2006.

تتابع فاطمة “خلال الحرب كنت أشرح لها أنّنا نخسر بيتنا مثل كثيرين، وعندما قصف بيتنا، أخبرتها وتقبّلت الموضوع، لكن مع الوقت، بدأت تشعر بالحنين إلى غرفتها الصغيرة، إلى ألعابها، وإلى دبدوبها “سامي” الذي استمرّت بالسؤال عنه “هل سيكون سامي بخير؟ هل سيبقى وحيدًا؟ هل أجده اذا بحثت عنه بين الركام؟”.

دمى بين الركام
تخليدًا لذكرى سامي

دفعت هذه الأسئلة فاطمة إلى كتابة قصّة عن الدبدوب سامي، قصّة تعبّر فيها عن تجربة ابنتها مع فقد لعبتها المفضّلة، عن تجربة عديد من الأطفال ممّن خسروا بيوتهم وألعابهم وذكرياتهم. تشير فاطمة إلى “أنّني صمّمت أنا وصديقتي رسومات لسامي، وأصبح الكتاب الذي طبعناه ونشرناه بديلًا لابنتي، كلّما اشتاقت إلى دبدوبها، تفتح الكتاب، تنظر إلى الرسومات، وتقرأ القصّة”.

تأمل فاطمة أن يفتح الكتاب نافذة أمل أمام أطفال آخرين، تعتقد أنّ مواجهة الحقيقة أفضل من إخفائها عن الطفل، ولذلك كانت تصوّر ابنتها إبّان الحرب، تريدها في المستقبل أن ترى كم كانت قويّة وصلبة خلال تلك الأيام، تريدها أن تعرف أنّ الحزن بسبب خسارة البيت هو شعور طبيعيّ، لكنّنا قادرون على التغلّب عليه.

تؤمن فاطمة أنّها ستبني بيتًا جديدًا وسيكون أجمل ممّا كان، وأنّ ابنتها ستختار غرفة خاصّة بها، وتصمّمها كما تحلم. وتؤكّد أنّ ما عاشته وهي طفلة وما عاشته ابنتها هو جزء من معركة الصمود في مواجهة العدوان الإسرائيليّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى