عنف الاحتلال في المجال البصريّ.. من يشهد الفاجعة؟
“علينا حتمًا، في يوم ما، أن نفتح بوّابة الظّل ونتقدّم نحو الدرجات الأولى، لنبحث عن نور يمكّننا من التعرّف على أنفسنا في ظلمات شديدة القِدم بحيث تعوّدت عليه الأبدان المهانة”.
ميشيل سير
لنتخيّل المشهد- عائدين إلى أوّل المراحل التاريخيّة- المجتمع الدوليّ مكبّل بقيود ما بعد الحداثة، وما خلقته الهياكل الاستعماريّة الرأسماليّة، ومن غير أيّ رغبة في التغيير، في كهف أفلاطون القديم، وخلفهم نار ملتهبة تضيئها المجازر الإسرائيليّة المُرتكبة، منعكسة على الجدار، ويجدون اللذّة بمجرّد رؤية صورة الضحيّة المختلقة المستعرضة أمامهم، ويظنّون أنّها الحقيقة على نسق ما جرت العادة.
حرب الصورة
على مرأى العالم كلّه ترتكب إسرائيل مجازرها وإباداتها الجماعيّة، بحق الفلسطينيّين، وهو ما يظهر حضور الكاميرات في موقع العنف، أو بتعبير سوزان سونتاج “كيف يرافق التصوير الفوتوغرافيّ الموت، حيث يتجّسد المعنى في لقطات من لحم ودم، يشكّلان الظلّ والضوء؟”. لقطات تتجاوز كونها فنّ “واضحة النهار”، ليصير فنّ “فاضحة النهار”، حيث العين شريكة في الرؤية، ولا عين بريئة إلّا العين العمياء.
على مرأى العالم كلّه ترتكب إسرائيل مجازرها وإباداتها الجماعيّة، بحق الفلسطينيّين، وهو ما يظهر حضور الكاميرات في موقع العنف. لقطات تتجاوز كونها فنّ “واضحة النهار”، ليصير فنّ “فاضحة النهار”.
كان التصوير الضوئيّ الواسطة الثوريّة في المجتمعات الصناعيّة، إلّا أنّ الكاميرا حملت معها النموذج المصغّر للاقتصاد الرأسماليّ السياسيّ الاستهلاكيّ المدمّر، حسب فالتر بنيامين. فأصبحت الصورة، تعبّر عن سلطة مركزيّة النظر بما أنّ عالم اليوم أصبح بصريًّا، وذلك لأنّ اللغة ليست فاشيّة بقدر ما هو البصريّ. فهو يوجّه كاميرته نحو أولئك الذين يملكون مظهرًا أفضل، مكرّسًا السلطة في يد من يملكون المشهد، وخطاباتهم وثقافتهم المسيطرة.
كما تتجلّى وظيفة البصريّ، في الاستعمار والغزو واحتلال الثقافات، بل حتّى الدعاية وهو ما فهمه الأمريكيّون جيّداً، حيث اعتبروا أنّ الصورة يمكن أن تشكّل وتساهم في صياغة رؤيتنا للتاريخ عبر صناعة الأفلام مثلاً. وظهرت أشكال جديدة في حرب الدعاية من خلال الحاجة لتقديم صورة مشوّهة عن الآخر، الآخر الجحيم، الدمويٍّ.
وإذا كان المستعمر في الماضي يصارع الآخر بقوّة السلاح والموت في مكان وزمان محدّدين، للنيل منه جسديًّا، واقتصاديًّا باحتلال أرضه، والتنكيل به، وتدمير معالمه ومعارفه المادّيّة على شكل غزوات وحروب، فاليوم يحصل كلّ هذا في فلسطين وفي غزّة تحديدًا، مترافقًا مع عنف الصورة من خلال تشويهها مادّيًّا ومعنويًّا، بغرض زرع الشكّ في فكر الآخر، من أجل زعزعة كلّ إيمان بالنفس أو مقاومة لديه. ثمّ الوصول من خلال السفسطة والبرهان المقلوب، والتعميمات والاتّهامات إلى معقل ووجدان الآخر. وفي الخطابات السياسيّة نماذج كثيرة أخرى تعبّر عن مضامين العنصريّة الاستعماريّة.
وهكذا تصبح الرؤية معيارًا، وقد تمحورت الصورة الكولونياليّة حول مرتكزات، منها: ثنائيّة الأنا كغرب مقابل الآخر، المرئيّون الذين يصبحون نبلاء جدداً وأصحاب رأي موثوق، ومن جهة، المجهولون الذين لم يمرّوا أبدًا على الشاشة.
وتظهر أكثر فأكثر أحاديّة العين، وأيديولوجيا الأنا المتضخّمة، في تمجيد عظمة الغرب وأسطوريّته، مبتدعة تقابلات مفبركة بين الهمجيّ والمتمدّن، بين الفرد والجماعة، على العجائبيّة في اعتبار المستعمر غريبًا، والنظر لهذا الغريب من منطلق عنصريّ، حيث يبرّر وزير الدفاع الإسرائيليّ يوآف غالانت دعوته إلى قتل المدنيّين الفلسطينيّين “لأنّهم حيوانات بشريّة”.
كاميرا الفلسطينيين تفضح عنف الاحتلال
إلّا أنّ التناقضات في داخل النظام الرأسماليّ، تظهر من خلال تجاوز الصورة دورها كوسيط لإظهار أو إخفاء ما يرغب الغرب بإخفائه، وتهديدها بقلب الطاولة على الواقع.
والعمليّة التاريخيّة تسبّب انقلابات “الكاميرا”، مثلما تقلب عمليّة الحياة المادّيّة الصور على شبكة العين، فيكون قلب القيم البصريّة أداة للمقاومة، وشهادة حيّة للذاكرة البشريّة جمعاء، حين تؤرشف ما يحصل في الظلّ، فتقلب الهامش إلى المتن. مفكّكة السلطة التي تستخدمها، مظهرة مثالبها وعنفها على الواقع والحقيقة.
في السياق الفلسطينيّ، روّجت آلة الإعلام الصهيونيّة “للوطن القادم” أو “الميلاد”، كما ادّعى زعيم الصهيونيّة ثيودور هرتزل أنّ فلسطين أرض بلا شعب، ودعمها بصور تمّ التقاطها من قبل بعض المصوّرين الأوروبّيّين.
وفي تلك الحقبة ازدهرت صناعة التصوير في فلسطين، وتطوّرت على يد بعض المصورين والمصورات، الذين أرّخوا فلسطين ما قبل النكبة. فكان خليل رعد عميد المصوّرين قد انطلق من الاستديو الخاص به إلى التجوال وتصوير فلسطين بسكّانها وعمرانها.
وقد تعرّض خلال النكبة شارع يافا القدس الذي يضجّ بمئات المصوّرين إلى التدمير النهائيّ، كما نُهب استديو رعد من قبل عصابات الهاجاناه، وصُودرت المئات من صوره ومقتنياته لتصبح ملكًا لخزائن مركز الأبحاث الإسرائيليّة، وأنقذ العدد القليل منها.
كما وثّقت كاميرا المصوِّرة كريمة عبّود، جغرافيّة فلسطين، فضلًا عن تصويرها وجوه الكثير من أصحاب الأرض لتأكيد هويّتها، في حين كانت إحدى الصحف اليهوديّة الألمانيّة تنشر مجموعة من الصور لبيوت وقصور التقطها مصوّر يهوديّ يدعى موشيه نورودو.
وقد ادّعى أنّها تعود إلى اليهود الأوائل الذين هاجروا إلى فلسطين واستطاعوا بناءها لتكون جاهزة لاستقبال “المهاجرين اليهود” من كلّ مكان. فنشرت كريمة عبّود الصور نفسها لبيوت تضجّ بأهلها لتثبت أنّ الصور التي نشرت بدون سكّان، صور كاذبة.
وثمّة قصص لمئات محال (استديوهات) التصوير الفوتوغرافيّ التي لم يُعرف شيئًا عن مصيرها، ولا عن أصحابها، ولم يصل شيئًا من سيرهم، فكريمة عبّود لم تُعرف حتّى العام 2007، لأنّ الاحتلال عمد إلى إخفاء ذلك الإرث أو تلفه، على أمل محوها من ذاكرة الشعب الفلسطينيّ. فمن يملك في العرف الإسرائيليّ القوّة يمكنه الاستحواذ على الحقيقة والذاكرة.
ازدواجيّة المعايير الإنسانيّة
مع انتشار التقنيّات الرقميّة، ارتبطت الآمال السياسيّة في جميع أنحاء العالم بالوعد الظاهريّ للتصوير الرقميّ. على سبيل المثال الثورات العربيّة: اعتمد كلّ منها على الكاميرا المتّصلة بالإنترنت كأداة لنشر الحركات الشعبيّة، والحشود التي تحمل كاميرات هواتفهم المحمولة عالياً. وكان لصورة الهواتف المزوّدة بكاميرات رقميّة مرفوعة نحو السماء من شأنها أن تصبح رمزًا للعدالة، ورمزًا لاحتجاج الشعب.
وبعد أن أصبحت كاميرا شهود العيّان سمة متوقّعة لمشهد عنف الدولة تحديدًا في سياق الحرب، عندما تتزايد المطالب الاجتماعيّة بالشهادة، وبخاصة مع ما نشاهده اليوم من مجازر بحقّ الغزاويّين/ات، تبثّ بالصوت والصورة الإجرام المُمارس بحقّهم.
مع خيبة الآمال العميقة من المجتمع الدوليّ الذي يشيح بنظره عنها، عن الصورة الدمويّة الحيّة أمام أنظار الجميع، مصدّقين صورة وهميّة لا وجود لها، إلّا في أذهان الإسرائيليّين عن أطفالهم الذين ذبحوا، وهو ما يفضح ازدواجيّة المعايير الإنسانيّة، التي سقطت.
بعد أن أصبحت كاميرا شهود العيّان سمة متوقّعة لمشهد عنف الدولة تحديدًا في سياق الحرب، وبخاصة مع ما نشاهده اليوم من مجازر بحقّ الغزاويّين/ات، تبثّ بالصوت والصورة الإجرام المُمارس بحقّهم.
وبينما ينفتح العالم أمامنا على القنوات التلفزيونيّة والإعلاميّة، فبدون قناة الـ “بي بي سي BBC”، لم يكن بإمكان فلّاح من منطقة الأرديش الفرنسيّة أن يرى بأمّ عينيه طفلًا إفريقيًّا يموت جوعًا، وشابًّا صينيًّا يوقف قافلة من المدرّعات.
إلّا أنّ القناة نفسها تحفّز اليوم الإبادات الجماعيّة، بنشرها صورة أحد مقاتلي حماس في أنفاق تحت المستشفى الأهليّ المعمدانيّ، مبرّرة بطريقة مرئيّة الجريمة. وهو ما يُعرف بتشكيل صور مضلّلة عن الواقع، وكأنّ الحرب لا تدور إلّا بين إسرائيل وحماس، وكأنّ الشعب بأطفاله ونسائه ورجاله لا وجود لهم، وأنّ فضح الممارسات الهمجيّة عبر الصور، التي كانت لوقت قصير مضى نوعاً من الرّدع المعنويّ على الأقلّ لإسرائيل أمام الرأي العام الدوليّ، لا يجلب نتيجة.
إطفاء عين الحقيقة
تشابكَ التصوير الفوتوغرافيّ مع الصراع السياسيّ على فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أيّ العقود الأولى لكلّ من الاستيطان الصهيونيّ وتقنيّات التصوير الفوتوغرافيّ التجاريّة.
وذلك حسب الدراسة التي قامت بها ريبيكا إل ستاين في كتابها لقطات شاشة: عنف الدولة أمام الكاميرا في إسرائيل وفلسطين، وهو أيضًا سجلّ أنثروبّولوجيّ للمشهد السياسيّ الإسرائيليّ المتغيّر في مطلع القرن الحادي والعشرين. ويواصل هذا الكتاب العمل الذي بدأته في كتاب “العسكرة الرقميّة”، أيّ النظر في الطرق التي تمّ بها تجنيد تقنيّات الإعلام في العصر الرّقمي، في العمل اليوميّ للاحتلال العسكريّ.
لقد بيّنت فيه سياسات إسرائيل العدوانيّة وتفاعلها مع الصورة بوصفها أداة لـ”المقاومة”، والتي حاولت مكافحتها بشتّى الطّرق، منها ما حصل أخيرًا باستهداف الجسم الصحافيّ الفلسطينيّ، الذي ارتقى منه الكثيرون، جرّاء العنف الممنهج ضدّهم، وهو ما يفسّر استهداف الجيش الإسرائيليّ “برج الجلاء” مقرّ قناة الجزيرة ومنابر إعلاميّة عديدة.
وما يفسّر ملاحقة إسرائيل للصحفيّين وحاملي الكاميرات، وحملات الاعتقالات التي تطالهم، سواء من الجانبين الفلسطينيّ واللبنانيّ، بعد أن استهدفت سيارة في لبنان تضمّ العديد من المراسلين والمصوّرين، وراح ضحيّتها مصوّر رويترز “عصام عبدالله”، وعائلة الصحافيّ وائل دحدوح وقبلها شيرين أبو عاقلة، وأسماء كثيرة يتقصّد الاحتلال الإسرائيليّ القضاء على أصواتهم/نّ وصور الحقيقة التي يبثّونها للملأ.
صناعة
المشهد
إذاً، لطالما أزال الحكم العسكريّ، الضحايا الفلسطينيّين والجناة الإسرائيليّين من المجال البصريّ. لكنّ حادثة قتل عبد الشريف الخليل في الخليل برصاصة أمام العالم، كانت العلامة الفارقة كيف حرّض المشهد “الجمهور اليهوديّ” ضدّ الجيش.
فمن قبل لم يكن وضع اسرائيل كمحتلّ موضع نقاش شعبيّ، وقد أثارت محاكمة أيلور عزاريا جدلًا في إسرائيل والذي أدين بالقتل سنة 2017. وكان الجميع يأملون أنّ تتمكّن هذه الكاميرات الجديدة من تقديم شهادة أكثر صدقاً وبالتالي تحقيق العدالة كما رأوها.
لطالما أزال الحكم العسكريّ، الضحايا الفلسطينيّين والجناة الإسرائيليّين من المجال البصريّ. لكنّ حادثة قتل عبد الشريف الخليل برصاصة أمام العالم، كانت العلامة الفارقة كيف حرّض المشهد “الجمهور اليهوديّ” ضدّ الجيش.
إلّا أنّهم خُذلوا وتعلّم الإسرائيليّون العاملون في مجال حقوق الإنسان (كانت منظّمة بتسليم الإسرائيليّة رائدة، إذ كانوا من أوائل من وزّعوا الكاميرات على الفلسطينيّين الذين يعيشون تحت الاحتلال ليتمكّنوا من توثيق الانتهاكات) أنّه حتى الأدلّة المرئيّة الأكثر وفرة عن عنف الدولة، تفشل عادة في إقناع النظام القضائيّ الإسرائيليّ أو الجمهور الإسرائيليّ، كما ستجعل قضيّة عزاريا واضحة بشكل مذهل.
بينما تمّ الاحتفاء بالمنفّذ العسكريّ باعتباره بطلاً قوميًّا: “أزاريا، ملك إسرائيل!”، كما كانت الحشود تهتف في تلّ أبيب، وأصبح أيقونة وطنيّة نشرت المجلات الإسرائيليّة صورة له يظهر فيها مبتسمًا. وهو ما أظهر فشل مشاهد عنف الاحتلال الإسرائيليّ الملتقطة في توليد نتائج قانونيّة جديدة.
لقد عمل الإعلام الإسرائيليّ منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر على صناعة مشاهد مغايرة للواقع، عبر الذكاء الإصطناعيّ، مثل صورة الطفل المحترق المزيّفة، أو صور لمخيّمات نازحين إسرائيليّين، وهو ما يبرعون فيه دائمًا، بجعل أنفسهم الضحيّة بينما هم الجلّاد.
وما تحقّقه الكاميرات الفلسطينيّة اليوم، هو في جعل رعب دولة إسرائيل مرئيّاً أمام الجميع. وأمام هول الفاجعة لو كان بالإمكان فقء عيون العالم وعيوننا نحن معه.