عن مسرحية “حياة” لأحلام الديراني وممارسة التذكّر

ربّما لا يوجد بحر في بعلبك كما تذكر الأسطورة لتسافر عبرَه السّلاحف البحريّة حاملةً على ظهرها نساء المدينة وضواحيها وحكاياتهنّ، ولكنّ هذا لن يمنعهنّ من ممارسة التذكّر.

تُنهي أحلام الديراني الحكاية من حيث تبدأ الرّحلة: الأرض وهي على ظهر سلحفاة عتيقة، تشقّ طريق الرّمال والموج أمام الأخريات.

بعضهنّ يصل إلى حيث يستطعن البوح والشّفاء. بعضهنّ يتآلفنَ مع وعورة الطريق، ويبتلع النسيان كثيرات.

مسرح الحكاية والجسد

تحاول أحلام الديراني وهي مؤدّية وميسّرة في الفنون الأدائيّة، عاملة وعضوة مؤسّسة في “بح”، تعاونيّة غير رسميّة في المسرح والفنون الأدائيّة، تكريس ممارسة المسرح الأدائيّ في بعلبك من خلال عرضها لمسرحيّة بعنوان “حياة” في أوتيل بالميرا بعلبك العام 2022 وفي بيروت شهر أيّار الماضي، تنظيم “بح” وتعني برمجة حيّة لتعاونيّة غير رسميّة، تبرمج بشكل جماعي بالتنسيق مع صانعي الفنون الحيّة بعد إطلاقها سلسلة من العروض الأدائيّة، التذوقيّة والراقصة.

من مسرحيّة “حياة” لأحلام الديراني

ومسرحيّة “حياة” نتاج بحث استمرّ مدّة ثلاث سنوات في بعلبك الهرمل حيث ولدت ونشأت، يجمع أدوات فنّيّة تواصليّة وأدائيّة، في مقاربات اجتماعيّة، سياسيّة، نسويّة وغيرها في عديد من قرى البقاع الأوسط والشماليّ، لخلق مساحات يمكن التعبير فيها عن حميميّة الأجسام الحيويّة وتفاعلاتها، وحيث تشتبك المفاهيم حول الجسد والمنظور الاجتماعيّ.

“حياة” وهي حكواتيّة من بعلبك، الشخصيّة القرينة لأحلام، أو وجهها الآخر، والتي تروي من خلالها أخبار نساء مختلفات في بعلبك جُمعت أصواتهنّ الجماعيّة خلال سيرورة البحث، حيث يندمج الشخصيّ الحميم بالعام.

تحكي حياة قصص سبع نساء مع العار الذي جسّدته في شخصيّة وحش يجوب أنحاء المدينة حاملًا كيسه الأسود الكبير ململمًا قصص النّساء، خصوصًا اللواتي لا يستطعن مشاركتها مع أيّ كان.

لا تخاف الشّخصيّات من العار نفسه، بل من أن يكشف ما في جعبته حين “يفلش” كيسه في المدينة. يخفن على أسرارهنّ، وما قد يوصمهنّ به المجتمع إذا ما تناثرت من ثقوب الكيس. لذا تحاول كل واحدة منهنّ رتق الكيس من خلال تجربتها وقدرتها على المقاومة، ليكتشفن معًا أنّه ومهما حاولن لن يستطعن ذلك، فالعار سيلازمهنّ طالما أنّهن في مجتمعات أبويّة محافظة. لكن بمقدورهنّ الكفّ عن الاختفاء “لأنّ الاختفاء الكلّي يعني الموت”،  يمتن وهنّ على قيد الحياة.

تحكي حياة قصص سبع نساء مع العار الذي جسّدته في شخصيّة وحش يجوب أنحاء المدينة حاملًا كيسه الأسود الكبير ململمًا قصص النّساء، خصوصًا اللواتي لا يستطعن مشاركتها مع أيّ كان.

تستمر “حياة” بالسرد إلّا أنّها تنسى إكمال الحكايا، كما تُرغم النساء على النسيان. تنفصل أعضاء جسدها عن بعضها البعض، تتفكّك، تعاني من انفصالها عن الواقع في آليّاتها الدفاعيّة، تكمل قصّتها بما يشبه الغناء الهادئ الحزين، تعود إلى البداية.

في البدء كانت السلاحف العتيقة وعلى ظهرها العالم، لا يهمّ من يصل يكفي أن يكون الطريق.

عند البيّاضة

لا أحد يلقي اليوم الأسيد على وجوه النساء عند البيّاضة.

كما تذكر “حياة”، “يلّي عاشوا التمانينات بعدهم لهلّق بيتذكّروا الأسيد يلّي انكبّ ع أجسام النسوان لأنهن ما كانوا محتشمات كفاية”. تنتقل حياة في بداية العرض بلحظة خاطفة من جعلنا نتخيّل وقع أقدام النساء، وأصوات خلاخيلهنّ وهنّ ذاهبات “للتملاية من رأس العين” من الرّقص والفرح، إلى وقع عبارتها الصادمة. فتنهال صور آلاف النساء في العالم اللواتي شوّهت هذه المادّة الحارقة وجوههنّ وأجسامهن، لا لشيء سوى لكونهنّ نساء ولأحقيّة المجتمع التصرّف بأجسامهّن وإن وصل حدّ الانتهاك.

لا أحد اليوم يلقي الأسيد على وجوه النساء عند البيّاضة – غالبيّتهن لم تعدن سافرات بعد أن غزا التديّن وجه المدينة – تلقى عليهنّ أشياء أخرى؛ تلقى التشبيحات الليليّة، والاستعراضات الدائمة للسيّارات والموسيقى الصاخبة من قبل شباب المنطقة. تلقى الكلمات وهي تخترق خصوصيّة أجسادهن وحقّهن بالتمتّع في ما تبقّى من مشاع في هذه المدينة.

ليل المدينة ليس للنساء، ولا نهارها.

تروي إحدى النساء اللواتي عرفتهنّ أنّ حارسًا من حرّاس “مرجة رأس العين”، منذ عدّة سنوات لاحقها لفترة زمنيّة طويلة مهدّدًا إيّاها بالقتل، إذا قرّرت الارتباط بشخص آخر غيره.

تُرمى النساء بالخوف والذعر على حياتهنّ، وهنّ “محتشمات” في مفاهيم المجتمع القبليّة.

سبعة أبواب

ليست وحدها الحكايا التي تختفي خلف الأبواب السبعة.

لا تروي حياة في بعلبك قصصها بنيّة الشفاء فقط، بل التذكّر، أن يعرف الجسد ثقل العار.

تُرغم النساء على الاختفاء القسريّ بشكل يوميّ، خلف بوّابات كثيرة من ضمنها العيب، الحرام، الشرع، الدين، الشرف والقبيلة…

تختفي بعض النساء فجأة، ليس من المساحات العامّة، أو الافتراضيّة فحسب، بل يطالهنّ النسيان حتّى في ذاكرة صديقاتهنّ المقرّبات.

أحاول إحياءهنّ، أو إيجادهنّ بالتذكّر. فأرى وجوههنّ، حركات أجسادهنّ وهنّ متّشحات بالسواد. أعرف – من خلال حدسي كامرأة- الخوف في عيون كلّ من عايشت ظلمًا مشابهًا.

تقول إحدى النساء: “أخبرتني البصّارة أنّ طريقي مليء بالدّم والنار”. هي التي زوّجت بالمقايضة، وارتبط مصير الزيجتين رباطًا عنيفًا، يجمع بين كائنين غير متحابّين، إلّا في عرف العشيرة، وتختفي.

كانت صديقتي الأخرى في ليلة العرس تركض بين الأبواب وتبكي، إلّا أنّ باب السماء السابع كان مقفلاً، ولم يسمعها أحد.

ثقوب في الكيس الأسود

ربّما لا تحلم كلّ النساء في بعلبك بالبحر، منهنّ من تحلم بليلة هادئة وبنوم عميق على سريرها. هل نعرف نحن- كنساء – النوم العميق؟ يتطلّب ذلك اختفاء الوحوش من حياتنا. لن يختفوا جميعهم، نعرف ذلك في قرارة أنفسنا، طالما أنّ الذكوريّة متجذّرة في أعماقنا وفي أعماق الجميع، ولكن ماذا ستضرّنا المحاولة؟

نختفي في معظم حياتنا، سواء في ميادين العمل، في حياتنا الشخصيّة أو في منازلنا. تتفاوت ظروفنا والأسباب لكنّ شيئا ما يجمعنا، لعلّه عمق الخسارات التي نشعر بها ونتجاهلها.

تُزوّج معظمنا في أعمار صغيرة، نترك مدارسنا وجامعاتنا بقرارٍ من عائلاتنا وأزواجنا، نختفي بين جدران المطابخ، ومتطلّبات الأعمال الرعائيّة، نختفي في أذهان النّاس “كعوانس” وعجائز ولا نتوقّف عن الاختفاء عند كلّ منعطف في حياتنا…

الثقوب في الكيس الأسود تحدّق في النّاظر إليها. كيف نوجِدُ العالم دون موتنا، كيف يمكننا أن نصبح مرئيّات؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى