“فراكة” بنت جبيل.. انجبلت في الجنوب وفاحت رائحتها في ديربورن
تختلف فراكة أهل بنت جبيل عن أي طبق فراكة أو كبّة آخر، فهي بعيدة كل البعد عن الكبة “الزغرتاوية” أو “الطرابلسية” أو “الحلبيّة”، وأكثر ما يميزها أنّها “نيّة”، بالإضافة إلى “التحويجة” التي ترافقها.
قصة بنت جبيل مع الفراكة ليست جديدة، عمرها من عمر الأرض، كما رافقت أبناءها جيلاً بعد جيل. حملوها معهم كرسائل العشاق وداروا بها في كل مكان، وعند لحظات الحنين يستحضرونها كمن يستحضر إكسير الحياة. حملها الآباء كما الأبناء، وأورثتها الأمهات لبناتهنّ حتّى صاروا يتفاخرون بها كمن يتفاخر بشهادة علميّة. بالنسبة لهم هي الاختراع الأمثل والأكثر ابتكاراً. وربما السّبب الّذي يجعلهم يتمسّكون بها أكثر من أي شيء آخر، أنّها من تراث بنت جبيل الأصلي وتاريخها القديم.
لم تحظَ فراكة بنت جبيل بإعجاب ومحبة أهل البلدة فقط، بل يجزم كل من يتذوقها أنّها “الأطيب”. حتى صار البعض يقصد البلدة بحثاً عن عزيمة على فراكة. سرّ هذه الشهية والشهرة الواسعة هو في مكوّنات “فراكة بنت جبيل”. يُحضّرونها من “اللحمة المدقوقة”، والأغلبية من أهالي المنطقة يفضلونها من لحم البقر، والبعض يضيف إليها كمية من الدهن الأبيض. بعد ذلك يتم “تنقيتها” من كل الأوردة والشوائب. ثم يضاف إليها الملح والفلفل الأحمر والبرغل و”تحويجة الكمونة” وبعض الماء البارد، ثم تعجن باليد إلى أن تتماسك.
الفراكة في “ديربورن”
عند الوصول إلى “ديربورن” الأميركية، تشعر للوهلة الأولى أنّك في بنت جبيل. من المتاجر إلى أهالي البلد والأهم الفراكة، الحاضر الأبرز رغم الغياب هناك. ما زالت العائلات التي هاجرت منذ سنين تحضّر الفراكة على الطريقة “البنت جبيلية”. حتى أنّ البعض حمل “البلاطة” وطار بها، لكي لا يفتقد لصحن الفراكة. الغربة في تلك الأرض أسهل، الفراكة موجودة، وإلّا امتلأت حجوزات الطيران كل خميس باتّجاه لبنان.
لا أحد يستطيع أن يمس أو يعدل في المقادير والمكوّنات، وحتى لو انتقلت إلى المقلب الآخر من الدنيا. فعند نهاية زيارات المغتربين في الصيف لبنت جبيل، سترى الإقبال الواسع على شراء “البرغل” و”الكمونة” أو “التحويجة”. لو جربت أن تفتح حقيبة سفر واحدة ستباغتك رائحة “البردقوش” و”النعنع” و”الحرّ” بالتّأكيد.
عند نهاية زيارات المغتربين في الصيف لبنت جبيل، سترى الإقبال الواسع على شراء “البرغل” و”الكمونة” أو “التحويجة”. لو جربت أن تفتح حقيبة سفر واحدة ستباغتك رائحة “البردقوش” و”النعنع” و”الحرّ” بالتّأكيد.
بالرغم من أنها جنوبية تقول يارا، التي تزوجت كريس من تنورين في قضاء البترون ويقيمان في ولاية ميشيغن الأميركية، إنها تعرّفت على الفراكة البنت جبيلية في ديربورن. وتروي أن المرة الأولى التي تناولها كريس الذي يعتمد نظاماً غذائياً صارماً يتماشى مع برنامجه الرياضي، سحرته طعمتها كثيراً، هو الذي لا يتناول اللحوم النيئة أبداً. لم يقتصر الأمر على كريس تتابع يارا، أن أهل زوجها وعائلته الكبيرة “انغرموا” بالفراكة البنت جبيلية، وأصبحوا يتحدثون عنها في كل مجالسهم ويطلبونها من يارا في كل غدواتهم ومناسباتهم، مصحوبة مع كأس العرق البلدي.
المفارقة أن أهل كريس تعرّفوا على الفراكة البنت جبيلية في ديربورن وليس في لبنان، وبذلك تكون يارا قد أنجزت عقداً تاريخياً مدنياً بين الفراكة البنت جبيلية مع الليموناضة البترونية في عقر الدار الأميركية.
الفراكة من طقوس يوم الخميس
من يزور بنت جبيل يوم الخميس، يجد قاسماً مشتركاً في أغلب بيوت البلدة، “صحن الفراكة”. الصّحن الثابت رغم الحروب والأزمات والأوبئة.
يُعدّ صحن الفراكة يوم الخميس من التقاليد المقدسة التي تربّت المنطقة على احترامها منذ الصِغر. لو جرب أحد أن يسأل “شو الغدا اليوم؟”، ينظرون إليه بنظرة استعجاب وسخرية، والجواب يكون “اليوم الخميس!”. حتى أنّ الحصة الأخيرة في المدرسة أيّام الخميس كانت بمثابة عذاب نفسي لطلّاب الضيعة، فكانوا يشعرون بأنّ الوقت طويل، أو ربّما في الخميس يصير أطول.
تسرد إحدى سيّدات بنت جبيل كيف كانت تهرب من المدرسة كلّ خميس لتأكل الفراكة. كانت تعاقب دائمًا في اليوم التالي إلا أنها لم تعلن توبتها، تقول “تستحق الفراكة و”مسحة البلاطة” كلّ ذلك”.
بدأت قصة “فراكة يوم الخميس” مع “سوق الخميس” في بنت جبيل. السوق الحاضر الذي لا يغيب منذ ما قبل احتلال فلسطين، حيث كان مقصداً لأهالي تلك المنطقة وكل القرى المجاورة. ويضم السوق الذي تزينه قناطر حجرية كل ما يخطر ولا يخطر على البال، بدءاً بالخضار والفاكهة، مروراً بالمواد الغذائية، وصولاً إلى الألبسة والأحذية وبسطات “المونة” والورد والشتول وغيرها.
تقول “زينة” إحدى صبايا بنت جبيل إنّ صوت بائع “الكمونة” هو منبه يوم الخميس، حيث كان بيتهم قريبًا من السوق. كان يصرخ في السابعة صباحًا “كمونة بلدية”، لتعرف أنّ موعد النوم قد انقضى وقد كتب عليها التضحية بساعة نوم أخرى كرمى لعيون صحن الفراكة.
“التحويجة”.. السر الأكبر
منذ ساعات الصباح الأولى، تنطلق السيدات لتأمين حاجيات الأسبوع، المرور بالسوق موعد لا تتأخرن عليه. “بدنا ياها هبرة”، هذا ما تسمعه عند كل باب لحام، بحيث يقع سوق اللحم في قلب سوق الخميس.
“كنت أرافق أمي كل أسبوع في صغري، أرى السيدات نفسهنّ يجتمعن عند اللحام، يخترن القطعة الأنسب ويلمنَه في كثير من الأحيان على “لحمة” الأسبوع الفائت التي كانت مليئة بالشروش” تقول زينة.
ليست اللحمة وحدها سر الفراكة، إنما السر الأكبر هو التحويجة. تتألف “التحويجة” من حبوب الكمون، النعنع، البردقوش، الورد المجفف، الحبق، حر، قلب الطير، الفلفل الأسود، القرنفل، والقرفة.
في موسم “المونة”، تنتشر “صواني” القش على السطوح، حيث تجفف مكونات الكمونة. تنتشر الألوان والروائح بين الحارات، ويصبح سؤال “بلشتي تحضير الكمونة؟”، وما يتشعب عنه من المصادر الموثوقة للمكونات وغيرها، الحديث الأنسب لمعظم الصبحيات والعصرونيات.
في موسم “المونة”، تنتشر “صواني” القش على السطوح، حيث تجفف مكونات الكمونة. تنتشر الألوان والروائح بين الحارات، ويصبح سؤال “بلشتي تحضير الكمونة؟”
تقول زينة إنها لا زلت تذكر فرحتها بـ “صينيّة” الورد التي كانت تجففها أمّها لتضيفها للكمونة، وفرحتها عندما تنتهي وتقول لها “تعي شمي ريحتهن!”.
لا تقتصر الكمونة على هذه الخلطة. في موعد تحضير الفراكة، يتم تحضيرها مع النعنع الأخضر والفلفل الأحمر والبصل والبردقوش والبرغل، حيث تطحن جميعها لتكسر حديّة النكهة قليلاً، ثم تعجن مع الفراكة.
فراكة “ستّي”
رغم أنّ الفراكة لم تغادر أهل بنت جبيل يوماً ورافقتهم كلّ أسبوع، إلا أنّ فراكة الجدّات كانت مختلفة.
“البلاطة موجودة إلا أنّ جدّتي لم تعد، أخذت النكهة معها وغادرت”. تقول زينة. كانت تدقّ الفراكة على البلاطة التي هي عبارة عن قطعة رخام أو صخر، تضيف الملح وتدقّ بالمدقّة الخشبية الكبيرة. تضيف:” كنّا نجتمع حولها، كمن يجتمع على “حكواتية”، لنحصل على “مسحة البلاطة” التي لا تضاهيها مسحة أخرى في كل الدنيا، رغم أنّها تتألّف من اللحمة وبعض البرغل والملح، الحكاية الأشهى والأكثر خيالية”.
تقول “أم حسين”، ابنة بنت جبيل الثّمانينيّة أنه “كان للفراكة عز لا يضاهيه عز في البلدة”، وتسخر من الآلات الكهربائية التي تستعمل اليوم لدق اللحمة. وتضيف أنه في السابق عند موت أحد أبناء البلدة، تتوقف السيدات عن دق اللحمة لمدة أربعين يوم، وذلك احتراماً لحرمة الموت. وتشير إلى أنه إذا اضطرت إحدى السيدات لتحضير الفراكة، تختبئ في بيت الجيران وتحضّرها سراً.
يقولون إنّ ذاكرتنا تحتفظ بالطعم والرائحة بشكل لا يُنسى. لا زالت رائحة الكمونة تردّنا إلى البيوت العتيقة، إلى نهار الخميس، إلى موعد الغداء. تشد حنيننا من شعره وتركض به إلى تحت التينة، حيث كنّا نجتمع لنأكل الفراكة ونشرب الشاي بعدها. لو مهما اختلفنا في السياسة والفن والآراء، نجتمع نحن أهالي بنت جبيل وأجيالها على حب الفراكة. “الفراكة” التي جعلت من الذي يجمعنا أكبر بكثير مما يفرّقنا.
لطالما فكّر الجنوبيون بالسبب الذي يجبرهم على العودة إلى بلادهم التي تركوها بكامل رضاهم. ما السبب الذي يمسكهم من كلتيّ أذنيهم ويرميهم تحت الشجرة التي وقعوا عنها ذات يوم وكسروا أقدامهم؟ في الغالب جواب أبناء “بنت جبيل” الجنوبية هو “الفراكة”، بكل بساطة.
لا يتخيّل أبناء القرى اللبنانية الأخرى أنّ طبقًا واحدًا يستطيع أن يحرّك أبناء بنت جبيل حتى اليوم، تحركهم “عصرة” الفراكة التي تمسد همومهم أحيانًا، لا بل تشفيها. يقولون إنّ “الفراكة” موجودة، بالتّالي لا شيء يستحقّ الحزن.