فلسطين في السينما اللبنانيّة بين الجديّة والشعبيّة
مرّت السينما اللبنانيّة منذ تأسيسها بمراحل عديدة، وتأثّرت بصورة خاصّة بمراحل السياسات العربيّة المحيطة، مثل تأميم صناعة السينما في مصر في فترة الستينيّات، وهجرة الرساميل وقطاع الإنتاج السينمائيّ إلى لبنان.
وجدت رؤوس الأموال الإنتاجيّة المصريّة الملاذ الآمن في لبنان، فأنتجت عشرات الأفلام الغنائيّة والتجاريّة مستفيدة من طبيعة لبنان التي استغلّت مشهديًّا وصوّرت لبنان آنذاك على نحو بطاقات بريديّة سياحيّة. لم يخلُ فيلم واحد من هذه الأفلام، من صور شارع الحمراء وصخرة الروشة والتلفريك وسيّدة حريصا وغيرها من الأماكن السياحيّة اللبنانيّة.
بعد تراجع الرئيس جمال عبد الناصر عن سياسة التأميم في مصر، وبعد هزيمة الـ67، تنادى سينمائيّون عرب في دمشق ليطلقوا نظريّة السينما البديلة، وهي السينما التي ستتناول القضيّة الفلسطينيّة في أولى اهتماماتها.
كان لبنان أول من تأثّر في هذه الظاهرة وسمحت له تعدّديّته الاجتماعيّة والسياسيّة، وأيضا التصاقه بالحدود الفلسطينيّة، فكان أوّل هذه الأفلام المنجزة في لبنان فيلم “الفدائيّون” لكريستيان غازي (1938- 2013) في العام 1967، وهو أوّل شريط روائيّ لبنانيّ يتحدّث عن القضيّة الفلسطينيّة، بعد أن ساهمت هزيمة الـ67 في بلورة وعي جيل جديد على القضيّة الفلسطينيّة، ثمّ أثّرت أحداث أيّار العام 1968 في باريس، على ثقافة دارسي السينما في أوروبّا وفي جيل السينمائيّين اللبنانيّين بين الستينات وأوائل السبعينات.
كان لبنان أول من تأثّر في هذه ظاهرة “السينما البديلة”، فكان أوّل هذه الأفلام المنجزة في لبنان فيلم “الفدائيّون” لكريستيان غازي (1938- 2013) في العام 1967، وهو أوّل شريط روائيّ لبنانيّ يتحدّث عن القضيّة الفلسطينيّة.
هذا الوعي قابله نشوء تجمّعات وصناديق إنتاجيّة ستتبنّى العشرات من الأفلام الوثائقيّة والروائيّة لمخرجين لبنانيّين وعرب، وستصوّر بين لبنان وسوريّا والأردن وتتناول القضيّة الفلسطينيّة على مستويات فنّيّة وإنتاجيّة مختلفة. من الأفلام التي تبنّت نظريّة السينما البديلة فيلم كريستيان غازي الثاني عن القضية الفلسطينية “مائة وجه ليوم واحد” في العام 1972.
كفر قاسم
بعد عودة برهان علويّة (1941- 2021) من دراسته السينمائيّة، ستكون أولى أعماله فيلم “كفر قاسم” الذي صوّره في إحدى القرى السوريّة، ومن إنتاج المؤسّسة العامّة للسينما في سوريّا في العام 1974. ويروي قصّة مجزرة كفر قاسم التي ارتكبها الاحتلال في العام 1956، بحقّ العشرات من سكّان القرية.
تزامنت المجزرة مع اليوم الأوّل للعدوان الثلاثيّ (من إسرائيل، فرنسا، وبريطانيا) على مصر، بعد إعلان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وهو ما لحظه المخرج اللبنانيّ برهان علويّة في شريطه القيّم عندما أظهر أهالي البلدة الهادئة على بعد 18 كيلومترًا شمال يافا في فلسطين المحتلّة، وهم يتابعون أخبار العدوان، استنادًا إلى القصّة التي كتبها السوريّ عاصم الجنديّ (1933- 2001) وصاغ الحوار الكاتب عصام محفوظ (1939- 2006)، بينما تولى السيناريو برهان نفسه، والذي تميّز في تركيبته بروح سينمائيّة مغايرة لما صنعه آخرون في تناولهم القضيّة الفلسطينيّة، فتعامل مع الإنسان المحكوم بالأمل في استعادة حقّه المسلوب.
كلّنا فدائيّون
في موازاة الأفلام البديلة جرى إنتاج الأفلام ذات الطابع الجماهيريّ، والتي صوّرت الفدائيّ على غرار السينما الأميركيّة الاستهلاكيّة. من بين هذه الأفلام “فداك يا فلسطين” لأنطوان ريمي 1969، و”الفلسطينيّ الثائر” لرضا ميسّر 1969، و”أجراس العودة” لتيسير عبّود 1970، “القدس في البال” لأنطوان ريمي 1967. وقد يكون فيلم “كلنا فدائيون” لغاري غرابيديان (غرابيتيان) 1968- 1969 من أفضل هذه الأفلام الجماهيريّة، وربّما قصّة تصويره التي انتهت بمأساة حقيقيّة، جعلت هذا الفيلم من العلامات الفارقة في السينما اللبنانيّة التي تناولت القضيّة الفلسطينيّة.
في خلال تصوير المشهد الأخير من الفيلم، ليلة السبت- الأحد في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 1968 في “ستيريو” بمنطقة الحازميّة في بيروت، وكان مشهد تفجير يقوم به فدائيّ فلسطينيّ انتقامًا لرفاقه الذين قتلتهم قوّات الاحتلال، وكان من المفترض أنّ المكان الذي يتمّ تفجيره هو بار في تل أبيب.
أمر المخرج بتفجير المفرقعات وبدء التصوير، إلّا أنّ “احتكاكًا كهربائيًّا” أدّى إلى اشتعال المكان ووفاة ستة عشر فردًا من أعضاء الفريق العامل في الفيلم، من بينهم المنتج ادمون نحّاس (أحد مؤسّسي استديو نحّاس الشهير في مصر)، مخرج العمل غاري غارابتيان، الممثّل الشاب سامي عطّار، الممثّلة الشابّة منى سليم المعروفة باسمها الفنّي “تغريد”، المصوّر سركيس غوغونيان.
وأشارت التحقيقات إلى أنّ المخرج غاري غارابتيان الذي درس الإخراج في الولايات المتّحدة، وعمل مخرجًا في تلفزيون لبنان منذ تأسيسه العام 1959، كان قادرًا على النجاة بنفسه من الحريق، إلّا أنّه أبى أن يغادر الاستريو إلّا بعد أن يساعد كلّ رفاقه المصابين، فكانت النتيجة أنّه مات اختناقاً. استكمل بعدها الفيلم وافتتحه الزعيم الفلسطينيّ ياسر عرفات في بيروت سنة 1969.
فلسطين الهاجس
مع اندلاع الحرب في لبنان، وإطلاق مؤسّسة السينما وتخصيص الأحزاب ومراكز الإعلام ميزانيّات لإنتاج الأفلام الوثائقيّة التي تتناول القضيّة الفلسطينيّة والمشاركة فيها في المهرجانات الدوليّة، تمّ إنتاج عشرات الأفلام من مخرجين لبنانيّين وفلسطينيّين وعرب نذكر منهم: جان شمعون وهايني سرور ونبيهة لطفي التي أخرجت فيلم “لأنّ الجذور لا تموت” عن مخيّم تلّ الزعتر، ومصطفى أبو علي ومي مصري (زوجة شمعون) وعرب لطفي وجوسلين صعب وعشرات المخرجين الذين تناولوا القضيّة الفلسطينيّة من مخيّم الشتات ومن النقاشات الدائرة حول مستقبل العمل الفدائيّ.
بعد انتهاء الحرب وتوقيع معاهدة أوسلو، ظلّت قضيّة فلسطين هاجسًا في السينما والأدب اللبنانيّين، فكتب الروائيّ الياس خوري “باب الشمس” 2005 الذي اخرجه المخرج السينمائيّ المصري يسري نصرالله، وكتب وأخرج محمد سويد “ما هتفت لغيرها” 2008، وحتّى جيل الشباب من جيل التسعينيّات أمثال روان ناصيف وهالة أبو زكي وآخرون، ظلّوا يروون القضيّة الفلسطينيّة وتأثيرها على الواقع اللبنانيّ.