فنادق مهجورة في الجنوب غدت مراكز إيواء للنازحين
تختزن ذاكرة اللبنانيين في الحروب كثيرًا من الصور، منها صور النزوح ومراكز الإيواء، وهي كانت ولمّا تزْل تلتقط إمّا في مدارس وملاعب رياضيّة، وإمّا في الحدائق، وهذا ما حدث في حرب تموز العام 2006، وغيرها في عديد من الحروب، لكنّ الحرب الدائرة في الجنوب منذ سبعة أشهر متتالية، أضافت صورًا أخرى لأماكن النزوح واللجوء ألا وهي الفنادق.
يتربّع فندق “مونتانا” على مرتفعٍ يطلّ على بلدة المروانيّة في قضاء الزهراني، هو واحد من تلك الفنادق التي غدت مركز إيواء. يتألّف الفندق الذي يحوطه مرجٌ أخضر من ثلاثة طوابق، وعلى عكس ما قد يوحي للبعض بأنّه مكان مهجور ومتهالك، فإنّ وحدة إدارة الكوارث في الجنوب حوّلته إلى مركز إيواء، وهو يختلف تمامًا عن أيّ مركز إيواء آخر.
للفندق تجارب في استخدامه كمركز إيواء، فإثر بيعه بالمزاد العلنيّ منذ أكثر من عقد من الزمن، استُخدم في جائحة كورونا كمقرٍّ للحجر الصحيّ عقب انتشار الوباء. أمّا اليوم، ومع استمرار الحرب الدائرة على الحدود منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وافق صاحبُ الفندق بوضعه تحت تصرّف الدولة بغية تحويله إلى مركز إيواء للنازحين، في حين تمّ افتتاحه للعائلات النازحة من المناطق الجنوبيّة الحدوديّة في أواخر كانون الأول 2023.
فندق بمواصفات مريحة
لا يزال الفندق يحتفظ بحيّز من بريقه القديم، كالباحة الرخاميّة و”الدربزين الحديديّ” وحوض السباحة الذي تحوّل إلى مساحة للهو الأطفال، يمضون أوقاتهم فيها يلعبون “فوتبول” (كرة القدم) و”تنس”، أو على درّاجاتهم الهوائيّة، فهي المتنفّس الوحيد لهم بعيدًا عن الجدران المُغلقة.
تنطبق ملامح الأماكن المهجورة على الفندق، عند النظر إلى واجهته الضخمة المتهالكة وأضوائه المطفأة. وربّما توحي فكرة أن يكون مخصّصًا للنازحين، بأنّ البؤس والوجع يسيطران على قاطنيه، وهذا ما ترفضه السيّدة مناهل رمّال ابنة بلدة العديسة الحدوديّة والتي نزحت مع عائلتها إلى الفندق، فتسارع للقول في حديث إلى “مناطق نت”: “إذا أردتم تصويرنا سوف أرتدي الحجاب الأحمر، فلا أريد أن نظهر وكأنّنا في حالة حداد”.
تتابع مناهل حديثها الذي لا يخلو من بعض العتب على عديد من التغطيات الصحفيّة التي “صوّرتنا وأظهرتنا بشكل غير لائق، فنحن نعيش هنا بكرامتنا، ولا أحد ينكر أنّنا نمرّ بظروف صعبة، والحرب طالت بمدّتها وبتأثيرها علينا، فشرّدت عائلتي، إذ بات كلّ فرد منها يعيش بعيدًا عن الآخر، ولدي ابنة تُكمل دراستها في الجامعة، وابنتان متزوّجتان في بيروت، وأنا وابني جئنا إلى الفندق. هنا شعرنا بالراحة، على رغم أنّنا نعيش في غرفة واحدة، لكننا نمتلك خصوصيّتنا ولدينا مرحاضنا الخاص، ولا أحد يزعجنا”. تضيف مناهل.
حكايا النزوح بين الغرف
في الطابق الأرضيّ للفندق، يجتمع الرجال للعب الورق في محاولة لتجزية الوقت، بينما يخصّص آخرون وقتًا للمشي في محيط الفندق عصرًا، أمّا الوقت المتقطّع فيقضونه بتتبّع الأخبار على الهاتف الخلوي، أو الذهاب لشراء بعض حاجيّاتهم الضروريّة.
يقول أحدهم من بلدة كفركلا (آثر عدم ذكر اسمه) لـ”مناطق نت”: “أعمل في البناء، ولم يعد هناك مجال لنا لمواصلة عملنا في ظلّ الحرب الدائرة، فشغلي وعدّة العمل وزبائني في المنطقة الحدوديّة، ولا يمكنني العودة إلى نقطة الصفر والبدء من جديد. لذلك نتمسّك بأمل أن تنتهي هذه الحرب عاجلًا غير آجل”.
بين جدران غرف الفندق المرقّمة، حكايا كثيرة لعائلات جنوبيّة نازحة من كفركلا، العديسة، الخيام، عيترون، عتيا الشعب، الطيبة، بيت ليف، بنت جبيل وغيرها من المناطق. في كلّ طابق من الفندق وضع الأهالي طاولة كبيرة يلتمّون حولها لاحتساء القهوة في الصباح، والمسامرة في فترة ما بعد الظهر التي لا تخلو من طقوس التبصير في فنجان القهوة، وتبادل الأحاديث.
في الطابق الأرضيّ للفندق، يجتمع الرجال للعب الورق في محاولة لتجزية الوقت، بينما يخصّص آخرون وقتًا للمشي في محيط الفندق عصرًا، أمّا الوقت المتقطّع فيقضونه بتتبّع الأخبار على الهاتف الخلوي
غرف تشبه بيوتهم
يغصّ الفندق بالزوّار لا سيّما في فترة الأعياد، فيأتي أقارب النازحين لزيارتهم وتفقّد أحوالهم، وهم مثلهم نازحون إلى قرى مجاروة في قضاء الزهراني وإقليم التفّاح، فقد بلغ عدد العائلات النازحة إلى منطقة قرى ساحل الزهراني 1768 عائلة، أيّ ما يقارب 7500 فرد.
بشكل منظّم ومرتّب جدًّا، زيّن النازحون غرف الفندق بما يألفونه من ديكور، حاكوا من خلالها بيوتهم التي تركوها، من حيث الترتيب ورائحة النظافة التي تفوح بين الغرف والممرّات.
من بين تلك الغرف واحدة حوّلها نازح من بلدة الخيام، إلى غرفة مجهّزة بالكامل، إذ استطاع وفي أثناء مشاركته في تشييع أحد أبناء البلدة، من جلب البرّاد والغاز والتلفزيون وحاجات المطبخ كالطناجر والصحون. في حديث لـ”مناطق نت” يقول ابن بلدة الخيام، وقد كان يعمل قبل النزوح في توزيع الخبز بين المناطق الحدودية: “لا أستطيع العمل في المكان الذي نزحت إليه، على الرغم من كلّ حاجياتنا المتوافرة من خدمات الأكل والشرب الأساسّية وغيرها”. ويضيف: “العائلة الواحدة تحتاج إلى مصروف يوميّ لا يقلّ عن ثلاثين دولارًا أميركيًّا، وهذا بالكاد يكفي بين تأمين احتياجات الأطفال وبعض الأدوية، وتشريج خطوط الهاتف”.
فندق بـ265 نازحًا
استقبل الفندق عند فتح أبوابه أمام العائلات النازحة، 14 عائلة من القرى الحدوديّة، وأصبح يضمّ اليوم 65 عائلة يبلغ عديدهم 265 فردًا، وذلك وفق ما قاله مدير اتّحاد بلديّات قرى ساحل الزهراني ومسؤول لجنة إدارة الكوارث فيها سلام بدر الدين، لــ”مناطق نت”.
ووفق بدر الدين فقد تمّ تأهيل المكان بدعم من منظّمات دوليّة كالـ”UNCHR”، وجمعيّات أخرى قدّمت كلّ احتياجات النظافة والمياه والخبز، إلى جمعيّة “نساند” التي كانت تقدّم ثلاث وجبات طعام يوميًّا، لكنّها توقفت مع انتهاء شهر رمضان بقرار دوليّ بعد استهداف إسرائيل طاقم المطعم الغذائيّ العالميّ في غزّة. وتولّى مجلس الجنوب تقديم حصص غذائية. أمّا منظمة Save The Children فتقدّم من خلال غرفة مستحدثة في الفندق، برنامجًا مخصّصًا للدّعم النفسيّ للعائلات ونشاطات للأطفال.
من جهتها خصّصت منظّمة “أطبّاء بلا حدود” عيادة نقّالة تأتي كلّ أسبوع للكشف على المرضى، كما تمنح بعض الأدوية، “إلّا أنّ كلَّ ذلك معرّضٌ للتوقّف، كون الدولة اللبنانيّة لم تقرّ رسميّا بأنّ هناك حربًا قائمة على مستوى البلد. وتعمل الجمعيّات بالميزانيّة التي كانت مخصّصة لجائحة كورونا ومرض الكوليرا، ولم تخصّص تمويلًا لاحتياجات الحرب”، يقول بدر الدين.
يتابع بدر الدين: “خصّصنا قاعة للطلّاب مجهّزة بالإنترنت بغية متابعة الطلّاب دروسهم عن بعد، إلّا أنّهم يعانون من صعوبات في فهم القدر الكافي من الشرح في ظروف الحرب”.
النزوح والتعليم عن بُعد
يشير الطالب محمّد عواضة من بلدة الطيبة لـ”مناطق نت”: “أنا في الصفّ الثانويّ الأوّل، نستعدّ الآن للامتحانات، ولكن خدمة الإنترنت سيّئة، ليس فقط في المركز، بل أيضًا لدى الأساتذة الذين يقومون بتدريسنا عن بعد، ولا أعلم كيف سنتمكّن من تقديم الامتحانات! وكوني طالب في مدرسة خاصّة لا يمكنني الالتحاق بالمدارس الرسميّة المحيطة بالمنطقة”.
من جهتها خصّصت منظّمة “أطبّاء بلا حدود” عيادة نقّالة تأتي كلّ أسبوع للكشف على المرضى، كما تمنح بعض الأدوية، إلّا أنّ كلَّ ذلك معرّضٌ للتوقّف، كون الدولة اللبنانيّة لم تقرّ رسميّا بأنّ هناك حربًا قائمة على مستوى البلد.
ومن أجل تأمين احتياجات الدراسة تقوم اللجنة المسؤولة عن الفندق بتأمين اشتراك المولّدات وتقنينه تبعًا لوقت الدراسة، وذلك لثلاث ساعات صباحيّة للدراسة، ومن الخامسة مساءً حتّى منتصف الليل، فلا يوجد إمكانيّة لتوفير الكهرباء على مدار الساعة، في حين تتوافر كهرباء الدولة مدة ساعتين في النهار.
يؤكّد بدر الدين أنّهم يعملون بصفر ميزانيّة ويعتمدون على التمويل الذاتيّ، ومن خلال بعض الأحزاب السياسيّة لتأمين عيش كريم لأبناء الجنوب، “فلا يمكن أن تكون هناك لجانًا مُشكلة للكوارث لا تعمل في السلم، وتتهرّب من مسؤوليتها في الحرب”.
ويختم: “هؤلاء أهلنا ولا يمكن أن نتركهم في مثل هذه الظروف. الوضع يستلزم تكاتفًا وتعاونًا على أصعدة عدّة، بينما يتمّ التعامل بسياسة أنّه لا حرب في لبنان، في حين أنّ الجنوب تحت الحرب. ولدينا تحدٍّ كبير اليوم في موضوع تأمين الطعام، فلا يمكن للنازحين العيش وطهي الطعام من الحصص الغذائيّة التي تعتمد على الحبوب والبقوليّات فقط”.
في كلّ ناحية من الفندق تدور حكايا كثيرة، كقصّة المُدرّس عبّاس نحلة، وهو أستاذ مادة الجغرافيا في مدرسة بلدته الطيبة. لا يزال نحلة يتابع تعليم تلامذته عن بُعد، ولا سيّما في فترة بعد الظهر وهي المخصّصة للنازحين السوريّين الذين كانوا في المنطقة، كما يقدّم المساعدة التعليميّة للطلّاب النازحين في الفندق.
يقول المدرّس نحلة: “الوضع صعب، وليس بمقدور الجميع تحمّل إيجارات المنازل، خصوصًا أن المدة طالت، ولكنّ تواجدنا في هذا المكان أفضل من فكرة التواجد في مدرسة لإيواء النازحين، فهنا لدينا نوع من الخصوصيّة، أيضًا الإلفة بين الموجودين تخفّف من وطأة ترك منازلنا وأرضنا”.
فندق الصنوبر في عين قنيا – حاصبيا
ثمّة صورة مشابهة لفندق المروانيّة في منطقة حاصبيا، وتحديدًا في منطقة عين قنيا، حيث تحوّل فندق “الصنوبر” كذلك إلى مركز إيواء للنازحين من منطقة العرقوب، وهم من بلدات الهبّاريّة، كفرشوبا، كفرحمام راشيّا الفخار، الماري والفرديس.
يضمّ الفندق الذي يملكه أحد أبناء البلدة 13 عائلة، توقّف العمل به قبيل الأزمة الاقتصاديّة، ليتحوّل في فترة جائحة كورونا إلى مركز للحجر الصحّيّ أيضًا، ومنذ بداية الحرب تحوّل إلى مركز لإيواء النازحين من الجنوب.
على الرغم من صعوبة التهجير والعيش بغرفة واحدة، يجمع قاطنو الفندق على أنّ ما يعيشونه في هذا المكان أفضل بكثير من اختبار النزوح في مراكز غير مؤهلة، فبلديّات حاصبيّا تؤمّن المياه والكهرباء للفندق على مدار الساعة، في حين يتقاسم الأهالي أجرة اشتراك الإنترنت. وفي هذا الصدد يقول أحد النازحين لـ”مناطق نت: “لا يُمكننا العيش من دون إنترنت، خصوصًا أنّنا عاطلون عن العمل، فهو الوسيلة الوحيدة للتسلية والاتصال بالخارج”.
حنين إلى الضيعة
بغرفة متواضعة تقطن السيّدة هاجر علي التي حوّلت شرفة غرفتها المطلّة على مشهد خلّاب، إلى مطبخ صغير لتحضير الطعام. تحتار هاجر التي نزحت مع عائلتها من كفرشوبا في اختيار “الطبخة”، نظرًا لظروفها المادّيّة الصعبة، فلديها طفلان أحدهما مصاب بداء السكّري، تقول في حديث لـ”مناطق نت: “يكلّفنا النزوح مبالغ طائلة هي أكثر ممّا كنّا نصرفه في البيت، والمساعدات بسيطة جدًّا، زوجي متوقّف عن عمله بعدما كان يعمل في مجال البناء والزراعة، وكلّ ما أدّخرناه سابقًا صرفناه، ويصعب علينا تأمين الدواء باستمرار لابني المريض”.
في غرفة جارتها في البلدة والنزوح، تجلس أمّ أحمد وتعيد ترتيب الأغراض مرّات ومرّات، وتؤثر الصمت. يتابع ابنها أحمد هاشم (13 عامًا) اللعب على جهاز الهاتف. يتحدث لــ”مناطق نت” عن يوميّاته في كفرشوبا قبيل الحرب فيقول: “كنت أعود من المدرسة، أدرس وألعب مع رفاقي ونسهر ونذهب للصيد، أكثر ما أتذكّره التدريب على المسرحيّات التي كُنّا نحضّر لها في المدرسة. هنا لا نفعل شيئًا إلّا أنّنا نجلس مع هواتفنا ولا نخرج إلّا للشرفة أو الباحة أحيانًا كي نتسلى”.
لا يزال أحمد يتابع دروسه عن بعد، ولكنّ “الدرس عن بعد ليس جيّدًا، ومن الممكن أن تضيع علينا السنة الدراسيّة. اليوم نحن في منطقة آمنة، وأبي لا يزال في كفرشوبا يرفض ترك أرضه، ولا يستطيع ترك عمله في الأرض، على رغم الخطر” يضيف أحمد.
صفر إمكانيّات
“نحاول تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش للنازحين في قُرانا، وقد توزّعوا في البلدة على عدّة مراكز، كدير صيدنايا ومركز “جمعيّة نور”، والبعض منهم استأجروا بيوتًا خاصّة بهم في البلدة”. هذا ما قاله رئيس بلديّة حاصبيّا لبيب الحمرا لـ”مناطق نت”.
تتشابه أحوال البلديّات وظروفها في كلّ المناطق الجنوبيّة، إذ لا موازنة منذ منتصف العام 2020، ولم يتمّ دفع أيّ من مستحقّات الصندوق البلديّ المستقلّ. يتحدّث الحمرا عن حال موظّفي البلديّات، “فهم محرومون من تثبيت أوضاعهم والاستفادة من الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ، أو الدخول في تعاونيّة موظّفي الدولة. فلا يمكن موظّفي البلديّات الاستفادة من خدمات الاستشفاء أو الحصول على مساعدات مدرسيّة التي كانت تخصّصها الدولة لموظّفيها قبيل الأزمة الاقتصادّية. إذ لا يتجاوز الراتب الشهريّ للموظّف في البلديات 150 دولارًا أميركيًّا.
ويشير الحمرا، إلى “أنّ النازحين هم من قرى العرقوب، يقوم بعض منهم بتفقّد رزقه وممتلكاته في بلدته، من وقت لآخر، فيما البعض الآخر يحاول التأقلم، حيث نشاهد افتتاح محلّات تعود لنازحين كي يعتاشوا منها”. ويختم حديثه عن المساعدات العينيّة التي يتلقّاها النازحون بالقول: “إنّها غير كافية للعيش بشكل طبيعيّ، ويبقى الأمل بعودتهم إلى قراهم في أقرب فرصة ممكنة”.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.