في الجنوب.. سحر ومأساة العلاقة بين الناس والحيوانات

“نحن بحاجة إلى الحيوانات، وهي بحاجة إلينا. الإنسان جزء من هذه الطبيعة وليس وصيًا عليها”. هذه هي الحقيقة التي يشير إليها طبيب الصحة العامة المهتم بشؤون الحيوانات، “حسن فيّاض”، الذي يذهب بنا إلى عوالم العلاقة العميقة بين الإنسان والحيوانات.

هذه العلاقة تقودنا إلى مسألة أساسية وهي أن حرمان الحيوانات من موقعها الطبيعي في نسيج المجتمع، هو إنكار لحقيقة أساسية من أن حياة الحيوان تحمل قيمة لا حصر لها، فمصائرنا متشابكة ومترابطة بخيوط دقيقة من التعايش تُلزم الانسان باحترام الحيوانات، وذلك من خلال الاعتراف بحقوقهم وحمايتهم، فنحن لا نكرم قيمتهم الجوهرية فحسب، بل نحمي البوصلة الأخلاقية الخاصة بنا، وهي الحفاظ على سلامة نظامنا البيئي المشترك.

في هذا النسيج المعقّد للحياة، تتشكل خيوط تربطنا بالكائنات الحية وعالم الحيوان، وهي علاقة عميقة لا تتجزّأ وتتغذّى عبر التواصل بين الإنسان والحيوان بالحب والتعاطف والرفقة. هذه العلاقة الّتي تتعزّز بمرور الوقت والتفاعل المستمر، تعتبر بالغة الأهمية، تحديدًا في المناطق الجنوبية.

الدكتور حسن فياض مع بعض الكلاب التي يعتني بها أمام عيادته

مما لا شك فيه أن هناك تغييرًا ملفتًا وملموسًا، نشهده يوميًا في المجتمع الجنوبي فيما يخص العلاقة مع الحيوانات، يتجلى ذلك من خلال ازدياد عدد الأشخاص الذين يعتنون لو بكلبًا واحدًا، سواءً في منازلهم أو خارجها، وهذا ما نلحظه في الطرقات أو نشاهده في السيارات لكلاب رفقة الناس، إلا أن ذلك لا ينفي حدوث ممارسات مؤذية بحق الحيوانات نشهدها بين الفينة والأخرى.

عملية تسلل في ليلة برد قارسة لإنقاذ جاك!

في العام 2020، وفي إحدى ليالي شباط القارسة، في بلدة “أنصار” الجنوبية، قرر إثنان من شباب البلدة الذّهاب لتحرير كلب يدعى جاك، بعد أن لاحظا لفترة طويلة أنه مقيد بشكل دائم، ومهمَل، ويعيش في بيئة قاسية، تحت رحمة الإهمال والألم والتغيّرات المناخية.

مدفوعان بتصميم لا يتزعزع على إغاثة من لا صوت لهم، غامر الشابان في وقت متأخر من الليل، بينما كان الجميع غارق في النوم، وما وجدوه كان مشهدًا محفورًا إلى الأبد في أذهانهم، كلب يرتجف من البرد، مقيّد بسلسلة صدئة في زاوية قذرة، فحررا جاك واختفيا معه دون أيّ تردّد.

هناك تغييرًا ملفتًا وملموسًا، نشهده يوميًا في المجتمع الجنوبي فيما يخص العلاقة مع الحيوانات، يتجلى ذلك من خلال ازدياد عدد الأشخاص الذين يعتنون بالحيوانات، سواءً في منازلهم أو خارجه، وهذا ما نلحظه في الطرقات أو نشاهده في السيارات لكلاب رفقة الناس

تلعب الحملات التي تُنظّم على مواقع التواصل الاجتماعي والمهتمة بمساعدة الحيوان ومحاسبة كلّ من يؤذيه، إلى خلق مساحات آمنة لهذه الكائنات وتعزيز مبدأ الثواب والعقاب الإفتراضيين. هذا الوعي تجاه قضايا الحيوانات والعلاقة بينهم وبين البشر لم تقتصر على فئة عمرية معينة، إذ يقول الطبيب “حسن فياض” الذي اشتهر على منصة “الفيسبوك” بالدفاع عن الحيوانات والدعوة للإهتمام بها “علمونا أن الكلاب والقطط مخلوقات نجسة، وهذا طبعًا أمر مرفوض تمامًا، لأنها كائنات لطيفة جدًا. بحسب تجربتي، فإن كل منزل فيه حيوان أليف، هو منزل هادئ وفيه جو عائلي صحي”.

يضيف الطبيب فياض “أشعر بواجب أخلاقي وإنساني تجاه هذه المخلوقات. دائمًا هناك قطة أو كلب أو أي حيوان أليف، ينتظرني لكي أطعمه، وبالتأكيد لن أخيّب أمله، وأتركه بلا طعام وأمان”. بمجرد المرور أمام بيته وعيادته، ستجد العديد من الكلاب والقطط، التي يؤمن فياض غذاءها بشكل يومي دون انقطاع. وهو لا يكتفي بذلك، بل يذهب إلى العديد من الأماكن بهدف الاعتناء بحيوانات وإطعامها وتكون بانتظاره.

الدكتور فياض يطعم القطط
لا تقتلني، أنا لست كائنًا نجسًا ولا مزعجًا!

وسط هذه الروابط العميقة التي تنبع من الحب غير المشروط والمتبادل، يوجد ممارسات خفية مقلقة وأكثر قتامة. حقيقة مؤلمة أن بعض الأفراد، مدفوعون بعدم الأمان أو الإحباط أو التصورات المشوهة، يلحقون الأذى بالمخلوقات البريئة التي تشاركنا هذا الكوكب.

يؤذي بعض الأفراد الحيوانات بدافع الشعور بالقوة والهيمنة، أو في محاولة لتأكيد السيطرة في عالم يشعر بعدم اليقين دائمًا. وقد يرتكب آخرون أعمال أعنف ضد الحيوانات بسبب مفاهيم مشوهة وثقافة عدائية تجاههم، والتي تتنوع بين قتلهم بأسلحة نارية أو تسميمهم أو وضع مسامير في طعامهم لمجرد الإنزعاج منهم، أو من أصواتهم، أو لمجرد الإعتقاد بأنها كائنات نجسة لا تستحق العيش، غير مدركين مستوى الألم العاطفي والجسدي الذي يسببونه لهذه الكائنات.

لذلك فإن المجتمع الذي يتسامح مع هذا السلوك ويطبّع معه، يخاطر بفقدان بوصلته الأخلاقية. فهذه الأفعال تؤدي إلى تآكل القيم الأساسية المتمثلة بالعاطفة والرحمة واحترام جميع الكائنات الحية. فالتغاضي عن الألم الذي تعاني منه هذه المخلوقات، هو بمثابة عملية تخلّص من أسس إنسانيتنا المشتركة.

وللبحث عن الأسباب التي تجعل من العلاقة بين الإنسان والحيوان مجرّدة من التعاطف والرحمة، تبرز الثقافة السائدة في مقدمة الأسباب. هذه الثقافة التي تفتقد التربية الصحيحة والتوعية على الرأفة بالحيوانات، من المنزل إلى الشارع والمدرسة والإعلانات التلفزيونية والحملات ذات الصلة. هنا يؤكد الطبيب فياض ومعه إحدى الناشطات المدافعات عن حقوق الحيوانات أن “ظاهرة قتل الكلاب بأساليب وحشية وغريبة وتسميمها، مؤشر سلبي يدق ناقوس الخطر، ومن يقوم بهذا الفعل هو إنسان عدواني غير سوي، وليس مستبعدًا أن يسمم أبناؤه أيضًا ويلوثهم نفسيًا، فهو إنسان لا رحمة ولا عاطفة في قلبه، وبالتالي هو إنسان خطير على المجتمع”.

حرّاس الرحمة

في مواجهة هذه الفظائع المؤلمة، يأتي دور المدافعين عن الحيوانات الذين يرفضون غض النظر عن المعاناة، وينتفضون ضد الظلم، ويدافعون بلا كلل عن حقوق ورفاهية كل كائن حي. وبتصميم لا يتزعزع، يتحدون الوضع الراهن، فيضغطون بلا هوادة من أجل التغيير مطالبين بمساءلة كلّ من يؤذي الحيوانات.

ظاهرة قتل الكلاب بأساليب وحشية وغريبة وتسميمها، مؤشر سلبي يدق ناقوس الخطر، ومن يقوم بهذا الفعل هو إنسان عدواني غير سوي، وليس مستبعدًا أن يسمم أبناؤه أيضًا

هؤلاء الأبطال المجهولون يقفون كأوصياء على من لا صوت لهم، أمثال المزارع اللبناني “حسين حمزة” الذي أسس مأوى في منطقة الزهراني، يضم أكثر من 350 كلبًا من الكلاب الشاردة والمُعنّفة والمريضة وشبه العاجزة الذين يعيشون في الشوارع تحت رحمة الظروف القاسية. يؤمّن حسين غذاءهم اليومي ويوفّر لهم الأمان ويمنحهم الطمأنينة، ولا ينسى العناية بصحتهم، حيث يشير لـ “مناطق نت” أن لديه شعور بالأبوة تجاه هذه الحيوانات. أفكر بها دوماً وبما تعانيه وستعانيه من بعدي! أرجو أن يغير الناس نظرتهم وموقفهم تجاه الحيوانات”.

في مواجهة ثقافة يمكن أن تكون قاسية وغير مبالية، تتطلب قضية الإهتمام بشؤون الحيوانات اهتمامًا جماعيًّا يقوم على التعاطف. كل خطوة يتم اتخاذها للدفاع عن الحيوانات، هي شهادة على مسؤوليتنا المشتركة على هذا الكوكب. إنها مسؤولية تتطلب منا الدفاع عن حقوق جميع الكائنات الحية، وتضمن حمايتها من الأذى، ومنحها الكرامة التي تستحقها.

الناشط حسين حمزة

لا يتردد حمزة وآخرون أمثال الناشطتان هيفاء ورينا، بتلبية طلب أي شخص يحتاج إلى علاج أو حقن أو طعام أو أي نوع من أنواع المساعدات لحيواناتهم الأليفة أو لحيوانات أخرى تعيش في الشارع يعتنون بها، حيث يلجأ الناس لهم بشكل دائم ومستمر.

إلى جانبهم يأتي دور شباب وشابات الدفاع المدني من خلال مراكزهم في الجنوب، حيث يلبون دون تردد أي إتصال لإنقاذ قطة عالقة في أماكن ضيقة أو مرتفعة أو كلب يحتاج إلى المساعدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى