كرة السلّة الرياضة اللبنانيّة ترهقها السياسة وتتجاذبها الطوائف

لم تخفّف المعارك المندلعة جنوبًا من منسوب الحماس المرتفع الذي تشهده مباريات كرة السلّة، بعدما باتت الرقم الصعب والأوّل في ترتيب الجمهور والاهتمام بالألعاب الرياضيّة، حيث تفوّقت على كرة القدم، الساحرة الصغيرة التي تُعتبر الأولى شعبيًّا في العالم، والمترهّلة لبنانيًّا خلال الأعوام السابقة، إذ انصرف قسم كبير من جمهورها إلى السلّة وكرتها يتابعونها، فيما تشهد الأخيرة ازدياد جمهورها حماسة وتناميًا يومًا تلو يوم.

لعلّ أخبار ناديي “الحكمة” و”الرياضيّ” اللذين يشكّلان قطبي لعبة كرّة السلّة في لبنان تفوّقت على ما عداها من أخبار، فباتت على كلّ شفة ولسان، من متابعة أخبار المباريات واللاعبين وغيرها من الأمور الإداريّة.

لكن ووفق المثل الشائع “ما دخلت السياسة على شيء إلّا وأفسدته”، فإنّ ما يحصل من استثمار للسياسة في اللعبة المستحوذة على قلوب اللبنانيّين وتشكّل متنفّسًا لهم في ظلّ الأوضاع الضاغطة، ينغّص فرحهم بها، خصوصًا أنّها أتخمت بالكثير من الرمزيات الطائفيّة التي بدورها أفسدت كثيرًا من جماليّات اللعبة.

إنّ ما يحصل من استثمار للسياسة في اللعبة المستحوذة على قلوب اللبنانيّين، ينغّص فرحهم بها، خصوصًا أنّها أتخمت بالكثير من الرمزيات الطائفيّة التي بدورها أفسدت كثيرًا من جماليّات اللعبة

كرة السلّة رياضة جماعيّة تحتلّ المركز الثاني أو الثالث في كلّ بلدان العالم، حيث تُعرف كرة القدم بأنّها الرياضة الشعبيّة الأولى في العالم، أمّا في لبنان وحيث أنّ كلّ شيء يختلف، باتت كرة السلّة معشوقة الجماهير، بينما تشهد كرة القدم ترهّلًا وتراجعًا، لدرجة أنّ الاعتداءات الاسرائيلية جنوبًا لم تحجب أهمّيّة كرة السلّة، فأخبارها النهائيّة بين قطبيها النادي الرياضي – بيروت ونادي الحكمة على كلِّ شفة ولسان.

من مباريات فريقي الرياضي والحكمة
ثقافة مجتمع

يقول الإعلاميّ صبحي قبلاوي، الذي رافق نهضة كرة السلّة لسنوات طويلة، سواء في تنظيم دورة حسام الدين الحريري أو في التعليق الرياضيّ على المباريات، في حديث لـ”مناطق نت”: “عادت كرة السلّة اللبنانيّة إلى الواجهة الرياضيّة في التسعينيّات مع الراحل أنطوان شويري كنوع من التشويق والاستعراض، وكانت مزيجًا بين النقل التلفزيونيّ والرياضة، وهذا يعود إلى طبيعة الشعب اللبنانيّ الذوّاق والتوّاق إلى كل جديد”.

يتابع قبلاوي: “صحيح أنّ كرة القدم لعبة جميلة ولها عشرات الألوف من المشجّعين، لكنّ كرة السلّة استطاعت استقطاب الطبقتين الوسطى والأعلى نوعًا ما، وجذبت الشركات وكبار المعلنين، وأصبحت اللعبة رقم واحد في لبنان تلفزيونيًّا وجماهيريًّا”.

عن أسباب النجاح والتطّور يشير قبلاوي إلى أنّ “اتّحاد اللعبة السابق والحالي تحديدًا برئاسة أكرم الحلبي نجح في نشر اللعبة عبر الاهتمام بالفئات العمريّة والأكاديميّات في كلّ المناطق، حتّى دخلت اللعبة إلى كلّ بيت”.

الإعلامي صبحي قبلاوي

ويتابع: “لم تعد كرّة السلّة لعبة عاديّة بل غدت ثقافة مجتمع، كذلك لعبت قناة “إم تي في”MTV التلفزيونيّة دورًا في دفع اللعبة، خصوصًا في السنوات الأربع الأخيرة، “إلى محل غير، طايرة طيران اللعبة”، وستذهب أكثر بكثير في السنوات المقبلة سواء الأندية أو المنتخب الوطنيّ”.

الحكمة والغبن المسيحيّ

لم تبقَ كرة السلّة في إطارها الرياضيّ التنافسيّ فحسب، بل غدت تُمَثّل رمزيّات وهويّات طائفيّة وسياسيّة ومناطقيّة ووطنيّة. في تسعينيّات القرن الماضي وما عُرف حينها بالـ”الغبن المسيحيّ” و”الوصاية السوريّة”، شعر المسيحيّون بالتهميش والاستضعاف، تجلى ذلك في قرار مقاطعة الانتخابات في العام 1992 وغيرها.

في تلك الحقبة تضخّمت انتصارات نادي الحكمة الرياضيّة، فغدت انتصاراته طائفيّة أكثر منها رياضيّة، وأصبح عنوانًا لرفع “الغبن” بعدما كانت أبواب السياسة موصدة أمام ذلك بإحكام، وهذا ما دفع بالنائب في البرلمان نديم الجميّل إلى حدّ القول: “الحكمة كانت وراح تبقى مصدر الفرح والوحدة ورصّ الصفوف بالمجتمع المسيحيّ”.

وكلنا يذكر في ذروة ذلك المشهد ما شهدته المناطق المسيحيّة عندما فاز نادي الحكمة ببطولة آسيا في كرة السلّة العام 1999 حيث عمّت الاحتفالات واستمرّت حتّى الصباح في تلك الليلة، وبقي وهجها ممتدًّا أسابيع، وكانت تعبيرًا صارخًا عن الوجه الآخر الذي تختبئ فيه السياسة والطائفيّة في هوايات وألعاب يجب أن تكون بمنأى عنها وجامعة للكلّ.

نوستالجيا وجدانيّة

يقول المُحلّل والكاتب السياسيّ سيمون أبو فاضل لـ”مناطق نت”: “مثّل نادي الحكمة حالة وجدانيّة ليس أكثر، ولا يجب أن يكون موضوعًا يدخل في البُعد السياسيّ والأهداف المسيحيّة؛ نعم كان متنفّسًا للناس، أجاد البعض في تصويره إعلاميًّا على أنّه حالة انتصار مسيحيّة، إنّها نوع من النوستالجيا عاشها المسيحيّون في مراحل كانت تُغطّي على عوامل أكثر أهمّيّة استراتيجيًّا ووجوديًّا”.

يتابع أبو فاضل: “أنا لا أرى الموضوع أكثر من حالة إعلاميّة، لأنّ النادي له حسابات تجاريّة اقتصاديّة، من هنا لا أضعه في خانة البُعد السياسيّ الطائفيّ والمذهبيّ، ولا في خانة الانتصارات السياسيّة، لأنّ الرياضة يجب أن تبقى بعيدة عن السياسة والمذاهب”.

المحلل السياسي سيمون أبو فاضل
“الرياضيّ” على صورة “الحكمة”

لأنّ دوائر الزمن تدور ولا يبقى حال على حاله، بقيت رمزيّة كرة السلّة السياسيّة، إنّما الغبن والإحباط انتقلا من المسيحيّين إلى السُنّة، خصوصًا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 وما وما شهدته بيروت في 7 أيار من العام 2008 وصولًا إلى عهد الرئيس ميشال عون، وما شهده من نزاع وصراع بين الرئاستين الأولى والثالثة، والانتخابات الأخيرة التي كرّست الشعور السنّي بالإقصاء والاستبعاد.

ما حصل مع فريق الحكمة في تسعينيّات القرن الماضي يكرره فريق الرياضيّ في عشرينيّات القرن الواحد والعشرين، النادي البيروتيّ العريق الذي تحمل قاعته اسم الرئيس صائب سلام، بات في السنوات الأخيرة رمزًا فعليًّا لوحدة الجمهور السُنّيّ، والبطولات التي يحقّقها النادي تُظّهر وكأنّها تعويضًا عن الانكسار السياسيّ، لذلك نرى عديدًا من السياسيّين السُنّة نوّابًا ووزراءً وحزبيّين يتسابقون للتواجد في مباريات الرياضيّ على ملعبه وبين جمهوره في المنارة.

الجمهور يريدها رياضة فقط

صحيح أنّ السياسة في لبنان تدخل في كل تفاصيل الحياة، لكنّ صوت العقل لم يخفت كلّيًّا، خصوصًا في صفوف الشباب اللبنانيّ الذي كفر بكلّ السياسيّين وفَقَد أيّ ثقة بهم.

تتابع الصبيّة نور شقير مباريات كرة السلّة منذ نعومة أظفارها، تُشجّع فريق النادي الرياضيّ بكلّ شغف، تتابع غالبيّة مبارياته على أرض الملعب، تقول في دردشة مع “مناطق نت”: “إنّ استمراريّة كرة السلّة في لبنان سببها وعي الناس لعدم السماح بدخول السياسة إليها، السياسة ستُخّرب هذه اللعبة الجميلة. حاليًا هي المتنفّس الوحيد لنا، كلّ لبنان هذا الأسبوع يتحدّث عن “ديربي” _Derby_ حكمة رياضيّ، معظم الناس تتجمّع في البيوت والمقاهي للمتابعة والتشجيع، الجوّ العام جميل جدًّا، بعد سنوات طويلة يعود الـ”ديربي” في النهائيّ المنتظر محلّيًّا وعربيًّا حتّى في بلاد الاغتراب”.

تتابع شقير: “أتمنّى من كلّ الناس لا سيّما الجيل الجديد ألّا ينجرّوا في التشجيع الرياضيّ خلف السياسيّين، فالحفاظ على جمال هذه الرياضة مسؤوليّتنا جميعًا، حرام أن نسيء إليها، خصوصًا في ظلّ انتشارها وتوسّعها إلى كلّ المناطق عبر الأكاديميّات والمدارس، لاعبينا ومدرّبينا بلغوا مستوى عالٍ في المنطقة، المدرّب جاد الحاج وقّع في دولة البحرين، اللاعب وائل عرقجي مطلوب في اليوروليغ، المنتخب في كأس العالم حقّق نتائج مُشرِّفة، كذلك الأندية في بطولة دبي ووصْل”.

نور شقير

تؤكّد شقير “أنّ كرة السلّة أدخلت الفرحة والفخر إلى كلّ بيت لبنانيّ”، لذلك تدعو “من لا يشجّع اللعبة فليذهب ويشجّعها ويرَ ويسمعْ كيف يحسدنا الجميع في دول الجوار على بطولتنا، ويقولون لنا “نيّالكن ع هيك مستوى وهيك بطولة”، لذلك يجب فعل المستحيل لإبعاد السياسة والطائفيّة إلى خارجها. يجب على الجميع التحلّي بالروح الرياضيّة الوطنيّة والتشجيع الحضاريّ الراقي حفاظًا على هذا المتنفّس الذي بقي لنا”.

الاتّحاد يحسم

بعد محاولات التسلّل المشبوهة والمسيئة للعبة كرة السلّة أخيرًا، أطلّ رئيس اتّحادها أكرم الحلبي أكثر من مرّة هذا الأسبوع مؤكّدًا “أنّ كرة السلّة هي مُلك الناس وفرح الناس وستبقى كذلك، سنقطع يد السياسة عنها بالكامل، هذا الموسم كان جميلًا وناجحًا بكلّ المقاييس، ووعْدنا للناس أن يكون الموسم المقبل أجمل وأكثر تنافسيّة، ستبقى شعلة كرة السلّة عالية”.

موسم كرة السلّة الحالي هو من الأجمل والأمتع في تاريخها، على جميع الصُعد، جماهيريًّا، إداريًّا، تحكيمًا وتنظيمًا، كذلك على صعيد نخبة اللاعبين الأجانب المميّزين الذين استقدمتهم الأندية. كلّ ذلك جعل من مبارياته قمّة الإثارة والتنافس والتشويق، كثير منها حبست الأنفاس حتّى الثانية الأخيرة. يبقى الأمل على همّة الاتّحاد ووعي الإدارات والجمهور، للعمل جميعًا على صدّ كلّ محاولات السياسة والطائفيّة تدمير لعبتنا الجميلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى