كرز عرسال يستعيد عافيته زراعيًا.. ماذا عن التسويق ودور الدولة؟
يلازم “الكرز إسم بلدة عرسال كما يلازم الزّيتون القدس، وشتلة التبغ الجنوب، والياسمين الشام، مثل توأمان لا ينفصلان فلا ذكر لأحدهما دون الآخر. لكن هل استعاد الكرز العرسالي عافيته بعد أعوام المحنة الكبرى، وسلك الطريق السليم نحو التصدير والتسويق بما يستحق؟
يعود تاريخ زراعة الكرز في جرود عرسال إلى خمسينيات القرن الماضي على يديّ عبد الحليم الجباوي وخضر علي الحجيري ضمن نشاطهما الحزبي (وذلك بحث أخر). باشرا بمئتي غرسة واليوم بات العدد يزيد عن المليون شجرة من مختلف الأصناف والأحجام كالسكري وقلب الطير والبني والطلياني والفرعوني. تبدأ زراعته من ارتفاع 1600 متر وصولًا إلى 2900 متر كأعلى نقطة في جرود البلدة. أما تكاليفه التي تقتصر على الحراثة والتشحيل والتقليم، فقد ارتفعت كثيرًا بفعل انهيار قيمة الليرة والارتفاع الجنوني لأسعار المحروقات.
تجدر الإشارة إلى أن زراعة الكرز هي بعلية بالكامل، كونها من المزروعات التي تحب برودة الطقس وخاصة الثلوج، كما تعيش في المناخ شبه الصحراوي وتتميز بنكهة خاصة عن الاشجار المروية منه.
في تسعينيات القرن الماضي، شهدت زراعة الكرز طفرة نوعية في جرود عرسال، مع شقّ الطرقات الجبلية، بفعل انتشار المقالع في المناطق الجردية، وتوفر وسائل النقل القادرة على الوصول إلى الجرود بسهولة. إضافةً إلى توفر الآليات اللازمة لاستصلاح الأراضي ونقبها، حتى بات بالإمكان القول إن كل بيت في عرسال يملك بستانًا للكرز أو أكثر، وهو ما يشكل مصدرًا أساسيًّا للدخل.
الأزمة السورية والجرود
مع بداية الأزمة السورية وتحوُّل جرود عرسال إلى منطقة حرب حقيقية، عايش المزارع العرسالي مجازفات ومخاطرات عديدة من أجل الوصول إلى بستانه، وكان دونها عقبات كثيرة، استمرت حتى العام 2014 حيث تعذّر بشكل كامل الوصول إلى الجرود على أثر ما سُمي بـ “معركة عرسال” والتي استمرّت حتى العام 2018.
بعد ذلك التاريخ أيضًا، لم يكن من السهل على المزارعين العودة إلى ما تبقّى من بساتينهم وأرزاقهم، وذلك بسبب الإجراءات الأمنية المكثّفة التي اتخذها الجيش، ومعها لا يزال المزارع في عرسال خاضعًا لتدابير قاسية جدًّا ومجحفة أحيانًا، مثل قرار منع وصول مواد البناء لإعادة بناء البيوت الزراعية المدمرة أو لترميم المتضرر منها، وأيضًا منع المبيت في البساتين وفرض الاستحصال المسبق على الأذونات الأمنية وصولاً إلى حظر حتى بواريد الصيد.
أيضًا التداعيات النفسية والعاطفية نتيجة انقطاع المزارعين عن أرزاقهم وبساتينهم، وارتباطهم بالمكان والنبات الّذي أعطوه سنوات عمرهم وعرق جبينهم لم تكن سهلة. لذلك أُصيب بعض المزارعين بعوارض صحية كالجلطات والسكري عند رؤية بساتينهم الخضراء وقد حوّلتها أيادي الإجرام إلى مناطق يباس جرداء بعد قطع الأشجار وتدمير البيوت وتخريب الطرقات.
لكن بما أن الوقوف بعد الوقوع هو ضرورة بشرية للاستمرار، انطلق المزارعون في ورشة إعادة إحياء بساتينهم ومصدر رزقهم. وقد كان هذا العام هو عام التبارك للكثيرين، أي بداية الإنتاح من جديد. حيث عاد للبساتين المخرّبة لونها الأخضر، ليرويها عرق المزارع وبسمته.
غياب الدولة
باستثناء الإجراءات الأمنية المشددة على كل الطرقات المؤدية إلى الجرود، لم يشعر المزارع العرسالي باحتضان ومؤازرة الدولة له واهتمامها به، لتثبيته في أرضه من جديد واستعادة مصدر رزقه، بل إن أغلب المسؤولين ممن زاروا عرسال إبان الأزمة السورية والتقطوا الصور وأطلقوا التصاريح السياسية النارية، تناسوا عرسال وأهلها، ولم يجيبوا على اتصالات ومناشدات أبناء البلدة.
بلكنته الجردية المحببة، يقول مزارع الكرز العتيق أبو مصطفى الحجيري لـ “مناطق نت”: “يا عمي هاي بلاد فالج فيها ولا تعالج، صار عمرنا 80 سنة، وما نهار شفنا هالدولة تذكرتنا بشي، غير بالجرجرة عالحبوس والبهدلة عالحواجز “. وتابع: “في مطلع شبابنا كنا نقصد مناطق جزين وشرق صيدا والجبل للعمل بالزيتون والدراق والتفاح، وكنا نرى إهتمام الدولة والبلديات والمسؤولين، بإقامة الاحتفالات والأعراس لمحاصيل زراعات تلك البلدات، أما نحن أيتام ما إلنا أم تبكي علينا”.
كذلك فإن مبلغ الـ 10 مليار ليرة الذي أقرته الحكومة كتعويض للمزارعين وقامت الهيئة العليا للإغاثة بتوزيعه، شابته عشرات الأخطاء المقصودة، والسمسرات، وشبهات الفساد، كما تمنّعت الهيئة عن إصدار جداول بأسماء المستفيدين وبقيمة المبلغ.
في عام 2019 وبعد جهود حثيثة من البلدية، قامت وزارة الزّراعة بافتتاح مركز عرسال الزراعي، في مبنى قدمته وجهزته البلدية، لكنه ككل مؤسسات الدولة متروك لقدره بدون أي دعم أو تفعيل، رغم إصرار طاقمه على استمراريته.
غياب الرؤية البلدية
غياب الدولة المزمن عن عرسال وكل البقاع الشمالي، لجهة الإنماء المتوازن ومشاريع الزراعات البديلة، وغيرها أحدث فراغًا كبيرًا، ولم تحاول البلديات المتعاقبة في البلدة منذ العام 1998 على تعبئة هذا الفراغ، وإيجاد الحلول له. فحتى اليوم لا يوجد لدى البلدية خططاً زراعية، أو رؤية مستقبلية علمية واضحة لتطوير القطاع وتحسينه، سواء من خلال استحداث طرقات زراعية في الجرود أو إنشاء برادات، أو من خلال إقامة دورات إرشادية توعوية للمزارعين حول التقليم والتشحيل والحراثة ورش الأسمدة واستعمال الأدوية والتوضيب والبحث عن فرص للتصدير بشكل علمي وممنهج.
مبلغ الـ 10 مليار ليرة الذي أقرته الحكومة كتعويض للمزارعين وقامت الهيئة العليا للإغاثة بتوزيعه، شابته عشرات الأخطاء المقصودة، والسمسرات، وشبهات الفساد، كما تمنّعت الهيئة عن إصدار جداول بأسماء المستفيدين وبقيمة المبلغ
دور البلدية قامت به منظمات وجمعيات دولية تحت شعار دعم المجتمع المضيف مثل UNDP والـ USAID ومؤسسة رينيه معوض، وجمعية يوحنا بولس الثاني، وجمعية جسور النور المحلية، وهي أثمرت عن إنشاء براد زراعي صغير، ومعمل تجفيف فاكهة، وإطلاق ورش تدريب على الأساليب العلمية الصحيحة في التشحيل والتقليم والتطعيم. وأثمرت أيضًا عن تقديم أربعة جرارات زراعية لتخفيف أعباء الحراثة عن المزارع، لكنها لم تكن كافية فعليًا، نظرًا لقلة عددها في ظلّ مساحة الجرود الشاسعة.
وفي ظلّ غياب إحصاء رسمي دقيق لحجم انتاج الكرز العرسالي فإن التقديرات تقول إن كميات الكرز المنتجة من عرسال تتراوح بين 4500 – 5000 طن سنويًّا، تتوزع ما بين السوقين المحلي والسوري وكمية صغيرة يتم تصديرها خارج لبنان. يبدأ جني الموسم ما بين منتصف أيار ويستمر حتى منتصف آب، وتتحكم بأسعاره أهواء التجار وحركة السوق ونوعية الثمرة.
من جهته يقول بسيم الأطرش، وهو المدير التنفيذي لجمعية جسور النور والمشرف على برادها الزراعي لـ “مناطق نت” إن الكرز العرسالي يتميّز بأنه فاكهة طبيعية بالكامل، حيث أكدت الفحوصات المخبرية خلوها من أي مواد كيماوية وهي مؤهلة تنافسيًّا للتصدير إلى الأسواق الخارجية، مع ملاحظة مهمة جدّا أن الكرز العرسالي ونظرًا لزراعته البعلية على ارتفاعات عالية، لا يضربه الدود بعكس الكرز المروي”. أمّا عن سعره في الموسم الحالي فيؤكد الأطرش أنه يتراوح بين الـ 100 والـ 120 ألف ليرة لبنانيّة، وهذا ينطبق على سعر الكرز ذي النوعية الممتازة.
وبسؤاله عن أبرز معوقات التطور أكد الأطرش أنها تتمثل بصعوبة تأقلم بعض المزارعين مع طرائق التقليم والتشحيل العلمية الحديثة. إضافةً إلى غياب التسميد السنوي الصحيح وما يعطيه للأرض من مواد عضوية تحتاجها. وكذلك اقتصار الحراثة على مرة واحدة بينما الأرض تتطلب بالحد الأدنى حراثة مرتين أو أكثر. وكذلك التوضيب العشوائي للمحصول دون فرز الجيد عن المتوسط منه وعدم استثمار المحصول المتبقّي في صنع المربيّات أو العصير. هذه العوامل كلّها تشكّل عائقًا أمام التطور، بالإضافة إلى الكلفة العالية لتشغيل البرادات نظرًا لارتفاع سعر المازوت، في ظلّ محدودية سعته.
غياب الجمعيات والتعاونيات الزراعية
جرت محاولات عدة لإنشاء جمعيات للمزارعين، تعمل على تحسين القطاع الزراعي وإعادته إلى الطريق الصحيح، لكنها للأسف لم تحقق المرجو منها. وللوقوف على الأسباب التي أدّت لذلك يشرح رئيس التعاونية الزراعية أحمد الفليطي لـ “مناطق نت” قائلًا: “الجمعيات الزراعية تتخبط كما يتخبط المزارعون، فلا خطط وبرامج واضحة عندها في موضوع الكرز، حيث لا يزال العمل أهليًّا، تغيب عنه رؤية العمل التنموي الزراعي، والفجوة كبيرة بين المزارعين والمنظمات على اختلافها، علمًا أن الجمعيات تهتم فقط بأعضائها، ورغم ذلك تتعثر بسبب غياب مفهوم الوعي العام عن التعاونيات ودورها والنظم التي ترعاها”.
ويضيف لـ “مناطق نت” أنّه على صعيد التعاونية الزراعيّة التي بدأت بـ 13 مزراع، واليوم أصبحت تضم 75 مزارعًا، يعملون على تغيير هذا الواقع، عبر بناء علاقة ثقة بين التعاونية كإطار جماعي وبين المزارعين كأفراد. يتابع الفليطي “حاول هؤلاء سابقًا بناء علاقة ثقة مع المجلس البلدي، لكن للأسف النظرة المحلية الضيقة والتموضع العائلي أو الحزبي، والمصالح الخاصة، والمفاهيم العرجاء عند مجتمعنا المحلي حالت دون ذلك”.
الفليطي أشار إلى أن محاولات أجريت في الموسم الحالي، لتسويق الإنتاج بغية الوصول إلى الأسواق الخليجية والأوروبية من أجل رفع السعر، وفتح كوة في جدار التصدير المسدود بفعل عوامل كثيرة، سواء كانت سياسية أو بسبب تفخيخ المنتجات الزراعية بالحبوب المخدرة. وأشار الفليطي إلى أنهم أنشأوا مشتلًا لإنتاج نصوب الكرز، وحقل أمهات لأصناف جديدة مثل “السويت هارت” و”الجورجيا” و”السكينا”.
ودعا الفليطي لوضع برنامج عمل جدي وعقد مؤتمر زراعي محلي، يجمع ممثلين عن المزارعين، وناشطين وباحثين أكاديميين، بالإضافة للبلدية ووزارتي الزراعة والبيئة، يخلص في النهاية إلى وضع استراتيجية شاملة، وبذلك نغادر مربع الكلام والشعارات لمرحلة الفعل.
الكرز الملقب بـ “فاكهة الملوك” يمكن له -إن توفرت الإدارة بطريقة علمية سليمة وبتعاون جدي بين البلدية ووزارة الزراعة- أن يغدو موردًا إقتصاديًّا أساسيًّا بدءًا من البستان مرورًا بالنقل والتوضيب وصولًا إلى التصدير. كذلك يمكن اسثماره سياحيّا لوجود محبي السياحة البيئية الجبلية وإقامة مهرجان سنوي له أسوة بمهرجانات كروم زحلة وعرق كفريا ودراق بكفيا أو مونة بعلبك وسواها من مهرجانات المناطق لتسويق منتجاتها.