لم تترك الأزمة خيارًا للمرضى.. الأدوية السورية تعمّ البقاع
لم تدع الأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بلبنان منذ العام 2019 قطاعًا إلّا وتركت تداعياتها عليه، لكن تبقى الأكثر صعوبة وقساوة تلك المتّصلة بصحّة الناس، وتتمثّل بالطبابة والاستشفاء والدواء، و يمثّل الأخير الحلقة المحوريّة، إذ من النادر أن تصادف مواطنًا لا يتناول دواءً معيّنًا، كلّما تقدّم بالعمر، خصوصًا الفئات العمريّة التي بلغت وتجاوزت الأربعين.
منذ بدء الأزمة وخلالها، شكّل الدواء هاجسًا للذين يتناولونه، خصوصًا المصابين بأمراض مزمنة. ففي الفترات الأولى فُقد الدواء من الصيدليّات، وفي فترات أخرى توافر لكن بعدما ارتفعت أسعاره، مع التراجع الحادّ لقيمة الليرة اللبنانيّة، حيث بات راتب الموظّف لا يساوي ثمن دواء واحد، وربّما أقلّ بكثير، الأمر الذي دفع بالقسم الأكبر من المرضى إلى التفتيش عن بدائل للأدوية التي يتناولونها وهي غالبًا ما تكون على حساب صحّتهم وحيواتهم.
يعاني مواطنو وسكّان منطقة بعلبك أكثر من سواهم من الأزمة الاقتصاديّة، وبسبب عدم قدرتهم على شراء أدوية “لبنانيّة” أو أجنبيّة المنشأ، كونها باهظة الثّمن وخصوصًا أدوية الأمراض المزمنة، فلجأوا إلى شراء الأدوية البديلة منها السوريّة والإيرانيّة والتركيّة، وذلك لتدنّي أسعارها، وإن كان بعضها لا تتوافر فيه العناصر العلاجيّة الكاملة، الخاصّة بعلاج مرضٍ معيّنٍ، كما تؤكّد مصادر طبّيّة.
يعاني مواطنو وسكّان منطقة بعلبك أكثر من سواهم من الأزمة الاقتصاديّة، وبسبب عدم قدرتهم على شراء أدوية “لبنانيّة” أو أجنبيّة المنشأ، فلجأوا إلى شراء الأدوية البديلة منها السوريّة والإيرانيّة والتركيّة
آراء متفاوتة
تختلف النظرة “الطبّيّة” للأدوية السوريّة في البقاع الأوسط بين صيدليٍّ وآخر. ففي حين يرى بعضهم أنّ للأدوية السوريّة الفاعليّة نفسها عند الأدوية الأجنبيّة وإن اختلفت في نسب التركيز ومقدار الجرعات، ينظر إليها البعض الآخر نظرة تشكيكٍ بقدرتها ونتائجها المطلوبة في العلاج. وقد تكون للترويج الدعائيّ أهداف تجاريّة ربحيّة لا تراعي المبادئ والمعايير المهنيّة.
لذلك هناك من يبيع، في المنطقة، الدواء السوريّ متخطّيًا المسؤوليّة القانونيّة المترتّبة عن ذلك، وآخرون يرفضون التعامل معه مُحتمين بالغطاء القانونيّ لهم.
إقبال على الأدويّة السوريّة
“منذ بداية الأزمة الاقتصاديّة في العام 2019، وما رافقها من فقدان بعض السّلع والمواد الأساسيّة وعلى رأسها الدواء، لم يجد المواطن البقاعيّ خيارًا آخر سوى التفتيش عن بديلٍ، فكانت الأدوية السوريّة سبيلًا وحيدًا لإنقاذه من ارتفاع أسعار الدواء الأجنبيّ” كما يؤكّد الصيدليّ محمّد (اسم مستعار) لـ”مناطق نت”.
يقول محمّد: “إنّ تأمين الدواء في لبنان، سواء أكان مصنّعًا محلّيًّا، أم في الخارج، أصبح غالي الثمن بأضعافٍ كبيرةٍ، عمّا كان عليه قبل الأزمة. وما زاد في العبء أيضًا، رفع الدولة الدعم عنه، فكان المواطن هو الضحيّة ولم يعد قادرًا على شرائه، لا سيّما وأنّ بعضه متعلّق بأمراضٍ مزمنةٍ كالسّرطان والقلب والكلى”. ويتابع محمد: “عندها توجّهنا إلى تأمين أدويةٍ من سوريا كخيار لا مفرّ منه تسهيلًا منّا للمريض كي لا يقطع العلاج وتصبح حياته في خطرٍ حتميٍّ”.
وعن فاعليّة الدواء السّوريّ يشير محمّد إلى “أنّ بعض الأدوية السوريّة، تختلف عن الأدوية الأجنبيّة بقلّة تركيزها، ما يستدعي زيادة الجرعة للوصول إلى النتيجة العلاجيّة وهو أمرٌ ميسّر. في حين أنّ بعض الأدوية الأخرى تفي بالغرض وتكون مناسِبةً لحالة المريض وهذا هو المطلوب”.
ويقدّر محمّد نسبة المرضى الذين يشترون الأدوية السوريّة بـ70 بالمئة. مؤكّدًا حرصه الدائم على تأمين هذه الأدوية “فهناك من لا يستطيع تأمين رغيف خبز لأولاده فكيف له أن يؤمّن دواءً تفوق كلفته راتبه الشّهريّ بأضعاف؟”.
تفاوت حادّ بالأسعار
من جهته يقول الصيدليّ فراس (اسم مستعار) ل”مناطق نت”: “إنّ المرضى الذين يتناولون أدوية سوريّة المصدر عندما يصف لهم الطبيب دواءً لمرضٍ معيّنٍ، هم ملزمون بذلك لأسبابٍ مادّيّةٍ، لأنّ الفرق شاسع بالكلفة بين الدواء الأجنبيّ أو اللبنانيّ والدواء السّوريّ”. ويعطي فراس مثالًا على ذلك “أدوية الدهنيّات كـ”ليبتور”؛ السّوري بِـ200 ألف ليرة والأجنبي بمليون ونصف مليون ليرة لبنانيّة. ودواء الأعصاب كـ”سيروكسات”؛ السوريّ بِـ150 ألف ليرة والأجنبي بمليون و300 ألف ليرة. دواء الضغط كـ”أتاكاند”؛ الأجنبيّ بمليون ليرة والسّوري بٍـ100 ألف ليرة”.
ويضيف: “إنّ الدواء الأصليّ أو ما يُسمّى بِـ”الجينيريك” يمكن استبداله بدواءٍ آخر يحمل المواصفات والعناصر نفسها طالما أنّه يؤدّي الوظيفة المطلوبة. وبعض الأدوية السّورية تُظهر نتائجها الإيجابيّة لدى بعض المرضى في حين أنّ بعضهم الآخر يحتاج إلى مدّةٍ أطول للحصول على النتيجة العلاجيّة المرجوّة”.
ويلفت فراس إلى “أنّ نسبة المتناولين للأدوية السّورية في ازدياد مضطرد حتّى إنّ بعض الميسورين يشترونها لكونها تخفّف من كلفتهم عليها”. ويختم فراس “بوجوب إعادة دعم قطاع الدواء من قبل وزارة الصّحّة خصوصًا الأدوية غير المتوافرة في سوريا كي لا يُجبر المريض إمّا على شرائها وحرمان عياله من الطعام أو التخلّي عنها وتعريض حياته للخطر”.
ماذا يقول المرضى
يؤكّد علي سيف الدين من شمسطار لـ”مناطق نت” أنّه يشتري الدواء السّوري كونه مريضًا بالضغط، “بعد أن بلغ سعر الدواء اللبنانيّ نفسه مليوني ليرة، وهو مبلغ لا أستطيع تحمّله لأنّني أتناول أدويةً أخرى تزيد قيمتها عن خمسة ملايين ليرةٍ، ومدخولي الشهريّ لا يتعدّى الـ200 دولار”. ويضيف “منذ ثلاث سنواتٍ وأنا أتناول الدواء السّوريّ، وحتّى الآن لم يؤثّر سلبًا عليّ، بل إنّي مرتاح بتناوله، ونصحني طبيبي بأن أبقى استعمله طالما أنّه يفيدني، وأنّه بالمعيار الطبّي، كلّ دواء يعالج الحالة المرضيّة مطلوب، بغضّ النّظر عن مكان مصدره”. ويجزم سيف الدين أنّه سيبقى يشتري الدواء السّوريّ له ولعائلته عند المرض “لأنّ النتيجة في الاستفادة لا في السعر وبلد المنشأ”.
“الدواء السوريّ أو الموت”
أمّا محمّد حميّة من بلدة طاريّا فيشير إلى أنّه يعتمد على الأدوية السوريّة في جميع علاجاته المرضيّة. ويقول لـ”مناطق نت”: “إنّني مصاب بأمراض الضّغط والسكّريّ والقلب وهي أمراض تحتاج إلى أدويةٍ دائمةٍ، ولو كنت أشتريها من لبنان فإنّني، حكمًا، سأقع في الديْن أو أموت، لذلك أنا بين خيار الدواء السوريّ أو الموت من دون علاج”.
يتابع حميّة: “بعض الأطبّاء يرفضون الدواء السّوري ليس لأنّه غير مفيدٍ، بل لأنّهم يتعاملون مع شركات أدويةٍ معيّنة، ولهم نسبة أرباحٍ منها، وبهذا يكبّدون الناس أعباءً كبيرة، دون النظر إلى أوضاعهم وظروفهم الماليّة والمعيشيّة”.
ويلفت حميّة إلى أنّ “هناك فئةً كبيرةً من مجتمعنا تعتمد الأدوية السوريّة وتقرّ بفاعليّتها، وإلّا لو كانت عكس ذلك لكانت توقّفت عن استعمالها. وهذا ما تؤكّده الصيدليّات التي تبيع الأدوية السوريّة لأنها تشعر بأوضاع الناس وظروفهم”.
محمد حميّة: إنّني مصاب بأمراض الضّغط والسكّريّ والقلب وهي أمراض تحتاج إلى أدويةٍ دائمةٍ، ولو كنت أشتريها من لبنان فإنّني، حكمًا، سأقع في الديْن أو أموت لذلك أنا بين خيار الدواء السوريّ أو الموت من دون علاج
ويختم بدعوة وزارة الصحّة إلى تأمين الأدوية السوريّة إن لم تستطع تخفيض أسعار الأدوية اللبنانيّة والأجنبيّة “رأفةً بالمواطن الذي لم يعد لديه ما يجعله واقفًا على رجليْه سوى صحّته التي يحاولون ضربها”.
أدوية لبنانيّة للأغنياء
ويرى حسن النّجار من بيت شاما أنّ “الأدوية السوريّة تشكّل المنقذ والمخلّص الوحيد من الغلاء الفاحش والأسعار الجنونيّة لأدوية لبنان، التي أصبحت فقط للمرضى الأغنياء الذين لهم وحدهم الحقّ بالحياة. أمّا نحن فلا يحقّ لنا العيش كوننا فقراء ويجب أن نموت”. ويقول لـ”مناطق نت”: “إنّ لبنان لم يعد يستوعب فقراءه أو يعتني بهم لأنّ غيلان السلطة والمال يتحكّمون بكلّ مفاصل حياتنا، فلجأنا إلى شراء الأدوية السوريّة رغمًا عنّا حتّى نعيش ما تبقّى من أعمارنا بصحّةٍ وعافيةٍ، ولو أنّنا اعتمدنا على أدوية بلدنا لمات آلاف المواطنين على أبواب الصيدليّات منذ سنوات”.
ويضيف: “هناك من يكابر عندما يمرض ويخجل من شراء الأدوية السوريّة لأنّها برأيه تدلّ على الفقر. فهو إمّا أن يشتري الدواء السوريّ سرًّا أو يقول بأنّ دواءه أجنبيّ ليُقنع الآخرين بصوابيّة وفاعليّة ما يتناوله، وهذا طبعًا، عدم ثقة بالنّفس ومكابرة في غير محلّها.” ويختم النجّار متسائلًا: “هل الشّعب السوريّ الذي يتناول أدوية بلده لا يستفيد منها وهو لا يزال على قيد الحياة؟”.
إلى متى ستظلّ الدولة اللبنانيّة تاركة شعبها يئنّ تحت وطأة غلاء أسعار الأدوية وعدم قدرته على شرائها ما يعرّضه في أحيانٍ كثيرةٍ للموت؟