“لوبيا” الفلسطينية.. التهجير المرّ من الجليل إلى البرج الشمالي في صور
لم تقهر السنوات الثلاثة والتسعون، ذاكرة محمد فرح هجرس (أبي عصام) رغم ما أصابها من تشرّد وبُعد قسري وهموم الحياة، فأبو عصام هو واحد من القلائل من أبناء قرية “لوبيا” الفلسطينية، الذي يُفرغ من صندوق ذاكرته منذ خمسة وسبعين عامًا إلى الآن، تفاصيل الحياة في قريته التي تهجّر منها في الجليل، والمعارك المتنقلة التي دارت بين شبان بلدته والعصابات الاسرائيلية “الهاغانا”، حيث انتهت بتهجير أبناء الأرض الأصليين إلى خارج بلدتهم، التي لم يبق فيها من الشواهد سوى قبر وبئر مياه، يحج إليهما من بقي من أهالي “لوبيا” داخل فلسطين وآخرين يحملون جنسيات أوروبية وأميركية، يتحسسون ترابها بين فترة وأخرى، يوثقونها بكاميرات هواتفهم، مطمئنين للعودة إليها يوما ما، حتى ذهب بهم الأمر، وخاصة أبناءها المقيمين في مخيم البرج الشمالي للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، إلى إعداد “مخطط توجيهي” يعيدها قرية نموذجية.
“اللَوابنة”
يتوارث الأولاد من أبائهم وأجدادهم، الانتماء إلى قريتهم، ولا يلفظون إسم البقعة التي يعيشون فيها، بالرغم من ولادتهم ونشأتهم عليها. وعند سؤالهم “إنتو من وين”؟ يبادرون “نحن من لوبيا”، وهي التي لا يعرفون أرضها ولا شجرها، لكنهم يحفظون بشكل يومي الحكايات عن البلدة التي وُلد فيها الكثير من أبائهم وأجدادهم قبل تهجيرهم إلى لبنان.
“لوبيا” أخرى وٌلدت في مخيم البرج الشمالي، صور، حيث يُطلق عليهم “اللَوابنة” ويمتازون بالالتفاف حول بعضهم البعض من خلال تشكيل إطار اجتماعي “جمعية” ومبنى خاص لهم في المخيم، دون أن يلغي ذلك ودّهم ومحبتهم لسائر أبناء القرى الفلسطينية، المتواجدة في أرجاء المخيم، الذي يقيم فيه زهاء الـ 16 ألف لاجيء فلسطيني، وتأسس في العام 1957 من القرن الماضي، وهو واحد من أكثر مخيمات اللاجئين الـ 14 اكتظاظًا في لبنان.
أبو عصام يروي
على أبواب كل ذكرى لنكبة فلسطين وغيرها من المناسبات الفلسطينية، يستعيد أبو عصام فرح هجرس، رواية ما حدث في الأشهر الأخيرة لبلدته خلال نكبة فلسطين، ولجوء العدد الأكبر من أهالي قريته الواقعة قرب طبريا إلى جنوب لبنان، عبر بلدة يارون القريبة من بنت جبيل يوم كان في الثامنة عشرة من عمره.
يسرد أبا عصام محطات وأسماء باتت مخلّدة في ذاكرة الكبار والصغار من أبناء لوبيا، كان لها صولات وجولات في الدفاع عن الأرض والاستشهاد ذوداً عنها.
ذلك الضوء الآتي من ناحية مدينة طبريا القريبة من لوبيا، يحضر لدى أبو عصام وكأنه حدث اليوم، ولم يحصل قبل خمسة وسبعين عامًا، وهو عمر سنوات نكبة فلسطين واغتصاب أرضها.
فتح أبا عصام لـ “مناطق نت” رزنامة تلك الأيام الشديدة الصعوبة والخوف والقلق، وفي الوقت نفسه كثيرة العنفوان والإرادة والمروءة عند أبناء بلدته.
ذاكرة “لوبيا” فلسطين لا زالت حاضرة بقوة لدى هجرس إبن الـ 93 عامًا، ومعها يروي سلسلة من المحطات التي عاشتها البلدة وأهلها الموزعين اليوم في مخيمات البرج الشمالي وعين الحلوة وبعلبك والبداوي ومخيمي اليرموك في دمشق وفي الداخل الفلسطيني وإربد شمال الأردن، وفي أماكن الشتات في أوروبا وأميركا.
يقول هجرس “كانت قريتنا تضج بالحياة، تظللها أشجار الزيتون وتنتشر فيها كروم التين. كانت بحجم بلدة كبيرة تضم آلاف السكان”. يتابع “كلفني والدي الذي كان واحدًا من كبار الملاكين في البلدة، حراسة بيادر القمح الخاصة بنا في أطراف “لوبيا”، وفي إحدى الليالي، وقرابة الساعة الثانية فجرًا، استيقظت على أضواء كشّافات تتقدم إلى بلدتنا من جهة الشرق، وإذ هي ملالات لعصابات الهاغانا الصهيونية، كان هدفها لفت انتباه أبناء بلدتنا إلى هذه الأضواء لخداعهم، في حين كان هناك مجموعات أخرى كبيرة من الهاغانا تتقدم من ناحية الغرب وجنوب غرب نحو البلدة للاعتداء على أهلها”.
سبق تلك الحادثة يتابع هجرس، عمليات ضد هذه العصابات المسلحة في مستعمرة يمنة من جانب شبان بلدتنا كرد على التحرّشات المستمرة على أهلنا. وكان أهالي قريتنا يدفعون غرامة مئتي ليرة فلسطينية بأمر من سلطات الانتداب الانكليزي، عند كل هجوم دفاعي لهم، إلى أن استحدث الجيش الانكليزي مركزًا له في وسط لوبيا، حيث منع الإضاءة والتجول، وأذكر أنهم أطلقوا النار على إبن بلدتنا سعيد عبد الرحمن، الذي قتل على الفور، وكان في طريقه “لقضاء حاجة” في الخارج، نتيجة عدم توفر المراحيض في كل المنازل حينها.
يضيف “في تلك الليلة البدرية كنت بصحبة أخي الأصغر نائمين على البيدر، وقد لفتنا تقدّم الملالات من ناحية طبريا، بينما تقدّمت قوة مشاة من الهاغانا، من ناحية مستعمرة مسحة قرب العفولة، وعلى الفور إتجهنا ناحية كرم للزيتون، كان فيه مصطفى أبو دهيس، الذي حمل سلاح من نوع “مشين غن” وعلي دياب الطه الذي كان يحمل صندوق ذخيرة، وأن أول من اكتشف الهجوم الاسرائيلي عبد العايدي من قرية حزوري، الذي أبلغ مصطفى أبو دهيس بالأمر، فتهيأ مع آخرين للمواجهة”.
يروي هجرس تفاصيل المعركة التي حدثت عند مدخل البلدة، والتي شارك فيها أكثر من مئة مسلح من أهالي لوبيا. ويشير هجرس إلى أن شباب البلدة كانوا يشترون البنادق النصف آلية أو الرشاشات، بالشراكة فيما بينهم للدفاع عن بلدتهم، وكان سعر البندقيه “البارودة” بين خمسين وثمانين ليرة فلسطينية، وقد آزرهم شبان من بلدة صفورية، بينهم نمر أبو النعاج، الذي كان مدربًا جيدًا، كونه مسؤولاً في قوات حدود الشرق الأوسط (البريطانيه).
يتابع أبا عصام هجرس “انتشر المسلحون في المنطقة الشمالية، وبدأ مصطفى أبو دهيس بإطلاق النار على الملالات، مصوبًا باتجاه إطاراتها، فتمكن من ثقب دواليب الملالتين والانقضاض مع رفاقه على من فيهما وقتل عناصرهما، بينما فرّ المهاجمون المشاة.
ويشير أبا عصام لـ “مناطق نت”، أنه بعد شهر من هذه المعركة التي سقط فيها محمد داوس، هاجم الهاغانا قرية صفورية قضاء الناصرة المجاورة. وقد كانت محاطة بالألغام التي تمّت إزالتها من قبل الاهالي بعد طلب من “جيش الانقاذ”، فخلت الساحة لعصابات الهاغانا الذين هاجموا البلدة واحتلوها بسرعة بعدما كانوا إحتلوا مدن وبلدات أخرى.
يضيف هجرس أن العشرات من الفدائيين من أهالي لوبيا، قرروا التوجه إلى صفورية لمساعدة أهاليها، لكن الاسرائيليين الذين كانوا تحكموا بالتلال أطلقوا النيران الكثيفة نحو هؤلاء الشبان الذين اضطروا للتراجع والعودة إلى لوبيا، فقالوا للأهالي عند عودتهم “اللي ما عندو دابة يشتري دابة” وذلك بعد أن سقطت كل المدن والقرى بيد العصابات الصهيونية.
الرحلة إلى لبنان واللجوء المر
انتقل أبا عصام مع والديه وشقيقه وشقيقته من لوبيا إلى لبنان. وقبل وصولهم إلى الحدود تخفوا في وادي الصلاحي والبقيعة وحرفيش ضمن الأراضي الفلسطينية قبل بلوغهم الحدود مع لبنان ودخولهم إلى بلدة يارون، حيث باتوا مع آخرين في العراء والخيم مدة شهرين تقريبًا. تم بعدها نقلهم من يارون بواسطة حافلات من قبل السلطات اللبنانية إلى ثكنة “ويڤل” التي كان يستخدمها الجيش الفرنسي في بعلبك.
“عمل والدي في الزراعة” يقول هجرس، “بينما أنا توجهت إلى سوريا وعملت لفترة في أوتيل في حماه. عملت بعدها في التمريض في حمانا في جبل لبنان، ومع اندلاع ثورة 1958، جئنا إلى الجنوب حيث مقر مكتب فلسطين الدائم في مخيم البص (المعروف حاليًا مستشفى الدكتور سعدالله الخليل) لنستقر لاحقًا في مخيم البرج الشمالي ولا نزال فيه”.
يأمل أبا عصام أن يكحّل عينيه بأرض فلسطين وخصوصًا قريته لوبيا، موصيًا الأبناء والأحفاد أن لا ينسوا فلسطينهم.
ذاكرة “لوبيا” في البرج الشمالي
لا يترك مصطفى طه “أبو ربيع” شاردة أو واردة، تتعلق بقريته “لوبيا” خصوصًا وفلسطبن عمومًا، إلا ويعمل على أرشفتها بدلال في إحدى غرف منزله في مخيم البرج الشمالي “حي اللوابنة”.
تحضر في مكتبته صور بالأبيض والأسود لوالده والعديد من كبار السن الذين عايشوا النكبة. وأيضًا صحف وكتب ومقابلات تحتوي معلومات عن لوبيا لكي تبقى في الذاكرة ويتوارثها الأجيال.
يقول طه 72 عامًا لـ “مناطق نت” “وُلدت بعد النكبة بثلاث سنوات في بلدة عنجر البقاعية، حيث انتقلت إليها عائلتنا بعد خروجها قسرًا من فلسطين، ونعمل بشكل دائم على حث أبنائنا وأحفادنا على التمسك بالعودة ولو بعد حين، فأرض فلسطين لنا وستبقى. مضيفًا أن أفرادًا من لوبيا في الداخل في ترعان ودير حنا القريبتان من لوبيا، لا ينقطعون عن زيارة البلدة، التي تحولت إلى أطلال، لا يسكنها أحد، مذكرًا بمسيرات العودة السنوية، التي ينظمها أهالي لوبيا إلى تراب بلدتهم.
أما مصطفى طه الحفيد، فيتعلم من جده ويساعد في تنظيم أرشيف الصور والصحف وكل ما يتعلق بفلسطين ولوبيا خصوصًا. ويقول “أنا من لوبيا، وإن شاء الله عائدون”.
رائد خليل والأبناء
يعزز إبن لوبيا رائد قاسم خليل المقيم أيضًا في مخيم البرج الشمالي روح الانتماء في نفوس أبنائه. ويؤكد لـ “مناطق نت” أن وجهتنا ستبقى فلسطين، وأعلم أولادي على التمسك ببلدهم الأم فلسطين وقرية أجدادهم لوبيا، وجميعهم يردد نحن من لوبيا، عندما يسألهم احد أنتم من أي مخيم.