مئة سيارة كلاسيكيّة في النبطية تتقدمها سيارتا أبو شهلا والصدر
في العام 1927، اقتنى رشيد حمزة المُقدّم سيارة شفروليه Chevrolet Capitol 1927 من صنع (موديل) السنة، قبل أن يبلغ العشرين من عمره، ثم بدّلها لاحقاً بسيارة “فورد” (أبو دعسة) أحبها كثيراً، وبقيت تلازمه في حياته ومماته، إذ أوصى بعد رحيله في العام 1991، أن تجاورَ السيارة التي أحبّ، قبره في حديقة داره، وبقيت كذلك حتى اليوم.
وإذ أوله المُقدّم في اقتناء السيارات الجميلة والفارهة طوال عمره، فقد جمع السيارات “الغريبة” إلى جانب الباصات (البوسطات) العاملة على خطوط صيدا وبيروت ومناطق أخرى، وتشهد صُوَر ذاكرة الأسود والأبيض في النبطية على مشاهد له ولأفراد العائلة بمحاذاة سياراتهم الكلاسيكيّة.
وفيما لم تغادر سيارة الحاج “أبو أنيس” جوار قبره، وتكاد تبلغ مئة عام من عمر صناعتها، فثمة سيارات فارهة لا تحصى غادرت النبطية في أوقات متفاوتة بعدما اقتناها أبناء المدينة الميسورين، سهّل ذلك انفتاح أهلها باكراً وقبل الثلاثينيات على عالم الاغتراب، وتميّز النبطية كذلك بكثرة سائقي الأجرة، ليس نحو المناطق اللبنانية كافة فحسب، بل نحو فلسطين وسوريا والدول العربية، وشغّلوا العديد من السيارات الكلاسيكية الجميلة في هذه المصلحة.
لا تكمن المفاجأة هنا في السياق الطبيعي لتطور تكنولوجيا السيارات والآليات المذهل على مدى قرن وأكثر، بل في ما يسعى إلى تحقيقه عدد كبيرة من أبناء النبطية والجوار، من خلال استعادة مجد السيارات التقليديّة التراثية التي اقتناها أجدادهم وآباؤهم منذ عشرينيات القرن المنصرم. تكرّس ذلك على مدى السنوات العشر الأخيرة، إذ انتشرت “هبّة” شراء السيارات العتيقة، ليشكلوا في مدة وجيزة أكبر تجمّع للسيارات الكلاسيكية القديمة في لبنان، على مستوى مدينة وجوارها القريب، وقد جُمع ما يتجاوز المئة سيارة من مختلف الماركات والطُرز، يتنافس على شرائها أو المتاجرة بها شريحة واسعة خلقت لها “عالماً جديداً”، تجمعُه شبكة من العلاقات والاتصالات وصفحات و”غروبّات” وسائل التواصل الاجتماعي، للتنسيق أو إقامة جولات عرض جماعيّة في مناطق لبنانية مختلفة، أو البحث عن قطعة مفقودة، أو حتى تأجير هذه السيارات وإشراكها في أفلام أو مسلسلات لبنانيّة (منها مسلسل “دهب بنت الأوتيل”)، وحتى في مناسبات الأعراس.
اشتغل الراحل حسين صبّاح في عالم الباصات والنقل الداخلي والخارجي وفي مواسم الزيارات والحج، وكانت لديه مجموعة كبيرة منها، وإلى جانب عالمه هذا بدأت تستهويه السيارات القديمة وراح يقتني السيارة تلو الأخرى، وسرعان ما نقل العدوى إلى أقربائه من آل كمال في النبطية وشكّلوا معاً أسطولاً من السيارات القديمة. رحل صبّاح العام المنصرم إثر عارض صحّي مفاجئ، وقبله رحل ابنه علي الذي دخل إلى هواية والده في جمع السيارات القديمة بعدما سقط عليه باص من الحجم الكبير بينما كان يصلحه.
يسعى عدد كبير من أبناء النبطية والجوار، إلى استعادة مجد السيارات التقليديّة التراثية التي اقتناها أجدادهم وآباؤهم منذ عشرينيات القرن المنصرم، فشكّلوا في مدة وجيزة أكبر تجمّع للسيارات الكلاسيكية القديمة في لبنان، وقد جُمع ما يتجاوز المئة سيارة من مختلف الماركات والطُرز
بقيت سيارات “الصبّاحين” الوالد وابنه القديمة لدى العائلة، يرعاها مع سياراته محمد يوسف كمال وقد بلغ مجموعها 12 سيارة، يعينه في الهواية شقيقه رفيق “بدأتُ اهتم في السيارات التي راح يجمعها صهري حسين صبّاح وابنه علي منذ نحو عشر سنوات، عندما لمس الشغف لدي، أخبرني أنّ ثمة سيارة من نوع “دودج” 1956 يريد صاحبها بيعها، فسارعتُ إلى شرائها وكانت أوّل سيارة اقتنيها، ثم اشتريت سيارة ثانية من نوع “كليزر” موديل 1956، وكرّت بعدها السبحة” يقول الحاج محمد كمال.
يفخر كمال أنه يقتني اليوم ضمن مجموعته سيارتين يعتبرهما “بالغتي الأهمّيّة”، الأولى من نوع “بليموث” 1950، تعود لرئيس مجلس النواب اللبنانيّ الأسبق حبيب أبو شهلا (1902- 1957) والثانية للإمام “المغيّب” السيّد موسى الصدر وهي من نوع “أولدزموبيل” 1967.
تتراوح أسعار السيارات القديمة اليوم، بين سبعة آلاف دولار و25 ألفاً “وهذا منوط بقدم السيارة ونظافتها ورونقها، ناهيك عن أهمّيّة تاريخها، وهذا يعني المالك السابق للسيارة وموقعه السياسي أو الديني أو الفني، أو وجهة استعمالها، وهذا ما حصل مع الصبّاح وكمال في اقتناء سيارتي الرئيس حبيب أبو شهلا والسيد موسى الصدر.
لفت الراحل حسين صبّاح اهتمام قريبه محمّد كمال إلى أنّ السيارة التي كان يستخدمها الإمام السيد موسى الصدر وهي من نوع “أولدزموبيل” صناعة 1967، وكانت من أملاك المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى معروضة للبيع، من مالكها الحالي سائق “السيد” والمجلس، موسى عيسى “أبو سليمان” من مارون الراس وسكّان بلدة أنصار. وكان عيسىى قد اشتراها بعدما عرضها المجلس للبيع. يقول محمد كمال لـ “مناطق نت”: “كانت لهفتنا لا توصف ونحن نسابق الفرصة السانحة والوقت للحصول عليها، فهي سيارة مهمّة لأشهر إمام في لبنان، وله العديد من الصور بقربها، وقد استخدمها قبل اختفائه في تنقلاته عبر البلاد وباتجاه الدول العربية. لقد فقدت طاقتي على النوم قبل الحصول عليها، وهي الآن مدلّلة لدي، لأنها قطعة نادرة، وتحتفظ برقم لوحتها القديم 28546 وتكاد تتزعّم في سمعتها وأهميتها مئة سيارة قديمة صارت موجودة في النبطية وجوارها القريب، بالرغم من الأهميّة الصناعيّة والتاريخيّة للسيارات الأخرى”.
يتابع كمال (وهو صاحب مؤسسة لبيع البراغي والخراطة في مدينة النبطية) عن شغف الهواية واتساع دائرتها التشغيليّة: “من جمالية هذه الهواية، أنّ كثراً بدأوا يهتمون بك، باتوا يشكّلون عامل تواصل للدلالة على أمكنة تواجد هذه السيارات أو الإشارة إلى الراغبين في بيعها”. ولا تتوقّف العمليّة عند هذا الحدّ، يضيف كمال: “بل ثمّة عالم آخر من المُلحقين في هذه الهواية والمستفيدين يُولد حولك، من معلّم الحدادة إلى معلّم الدهان، والميكانيكيّ والمنجّد وبائع قطع الغيار. وهنا تبرز حرفيّة كل معلم في مجاله، ليعطيك النتيجة التي ترغب بها. لقد عملنا من خلال ورشتنا (المخرطة) على تأمين العديد من لوازم هذه السيارات عندما كنا لا نستطيع العثور عليها أو توفيرها، الشغل في تصليح أو إعادة التأهيل تحتاج إلى جهود وبحث على عكس السيارات الحديثة، إذ إنّ قطع غيارها متوافرة في الأسواق، تزيل الخَرِب منها وتركّب البديل”.
رفَدَ مستوردو السيارات المستعملة في وقت سَبَق، أيّ قبل قرار الدولة اللبنانية بتحديد عمر السيارات المسموح دخولها إلى لبنان، السوق المحلّيّة بعدد كبير من السيارات القديمة الموزّعة على العشرات ممن اقتنوها كنوع من الرفاهيّة، ثمّ راح هؤلاء يبيعونها إلى من لديهم الحيلة في اهتمام خاص “أنا أتعامل مع سيارتي الكلاسيكية الخاصّة كأنّها جزء من عائلتي، يرتبط بالتاريخ والجغرافيا، وثمّة لذة غريبة في كلّ حركة تتعلّق بالتعامل معها، من مسكة الباب وصوته عندما ينغلق، إلى رنّة إدارة المفتاح، هدير المحرّك، وجمالها عندما تنطلق بها، وكأنّك تركب بساط الريح، بما تشكّله من متانة وارتياح معنوي وتوفير ورياضة روحيّة، هذه السيارات تعزّ صاحبها وهو يمسك بذاك المقود الضخم، لا تعذّبه، وإذا تعطّلت مرة سرعان ما يشغّلها، فلا كفّ الكترونياً يقبض على روح سيارتك ولا مشاكل كهربائية، إنّه العالم المثالي للسيارات”، يوضح كمال.
هواية اقتناء السيارات القديمة والاهتمام بها، مثل أيّ هواية تنتقل بالوراثة العائليّة أو الغيرة، ولذلك تجاوز عدد هواة اقتناء السيارات الكلاسيكيّة وأولادهم الستّين وحتى السبعين في منطقة النبطية، وباتوا يشكّلون تجمّعاً ضخماً إذا ما تداعوا إلى اللقاء أو لإعداد رتل أو مسيرة، وهذا ما يفعلونها بين الحين والآخر. وصارت لهم في خارج المدينة شبكة من العلاقات تدلهم على الراغبين في بيع سيارات قديمة وأمكنتها.
ثمّة لذة غريبة في كلّ حركة تتعلّق بالتعامل مع السيارة القديمة، من مسكة الباب وصوته، إلى رنّة إدارة المفتاح، هدير المحرّك.. كأنّك تركب بساط الريح.. أيضاً بما تشكّله من متانة ورياضة روحيّة، هذه السيارات تعزّ صاحبها وهو يمسك بذاك المقود الضخم، لا تعذّبه، وإذا تعطّلت مرة سرعان ما يشغّلها، فلا كفّ الكترونياً يقبض على روح سيارتك ولا مشاكل كهربائية، إنّه العالم المثالي للسيارات
في العام 2015، ومع افتتاح “بيت الزمن الجميل” في النبطية أقام آل الصباح وكمال مع أصدقائهم الهواة معرضاً للسيارات القديمة في باحة الدار البالغ نحو مئة عام، عرضوا في خلاله 25 “قطعة” منها سيارة الرئيس أبو شهلا وسيارة “فورد” صنع 1890، التي يجرها حصان وهي أوّل سيارة من تصنيع هذه الشركة، ويقتنيها حالياً رجل الأعمال زهير الأخرس بعدما اشتراها من الحاج كايد الصبّاغ، اضافة إلى سيارات فورد “أبو دعسة” تعود إلى سنة 1927، وإلى جرّار قديم من نوع هولدر Holder Bracket صناعة 1950.
وبتاريخ 23 أيلول من العام 2016 نظّم هواة جمع السيّارات القديمة في النبطية مسيرة سيّارة من النبطية إلى مدينة صور، شاركت فيها 80 سيارة، تقدّمتها سيارة السيد موسى الصدر “التي استُقبلت بحفاوة في المدينة التي كانت مقر الإمام الصدر. والتقطت بجانبها مئات الصور”.
يعتبر الحاج زهير الأخرس من كفرتبنيت (النبطية) جامع الرقم القياسي من السيارات “التقليدية” ويملك لوحده أكثر من عشرين سيارة، يوزّعها في مستودع خاص وفي دارته في النبطية الفوقا، منها “فورد” صناعة 1890.
“ليست كل سيارات الحاج زهير قيد التشغيل” يقول قريبه وراعي أملاكه قاسم يونس لـ “مناطق نت” ويشير إلى أنّ الأخرس “بدأ بتكوين مجموعته من السيارات الكلاسيكيّة منذ سنة 2013، لكنّ هناك سيارات اشتريناها وكانت بمثابة خردة، ورحنا نجمع قطعها من هنا وهناك، وصولاً إلى مدينة حلب في سوريا حيث كانت هناك مصانع ومخارط تؤمّن القطع المطلوبة، لذلك نملك اليوم أكثر من سيارة غير جاهزة للتشغيل وتحتاج إلى جهود مضنية، ومنها مرسيدس 170Mercedes- Bens ” (1954).
تمكّن الأخرس ومعه يونس من تأهيل العديد من السيارات وإعادتها إلى هيئتها الأولى، لكن أكثر ما عانَا منه مع غيرهما من جامعي السيارات التقليدية، هو عدم توافر “ورش التصليح المتخصّصة والمعلّمين ممن يتقنون حدادة هذه السيارات، إذ إنّ مثل هذه الأمور تحتاج إلى معلم محترف يستطيع إعادة تصنيع بعض القطع المفقودة. قمنا بعض المرات بتصنيع قوالب خشبية لتكوين قطعة من الحديد، مثل الرفراف أو الباب أو غيره، ولذلك كنا ندفع مبالغ مضاعفة في إعادة جمع وتصليح السيارات القديمة”.
لم يتوقف شغف الهواية عند الأخرس على السيارات فحسب، بل اشترى طيارة خردة من مطار بيروت الدولي، وشحنها إلى النبطية وجُمعت كتحفة تتوسّط حالياً حديقة دارته في النبطية.
تسربّت هواية زهير الأخرس إلى شقيقه حسان، الذي بات يملك 4 سيارات تقليديّة. أما سيارات الصبّاح وكمال قيد السير فهي، إلى سيارتي أبي شهلا والإمام الصدر: “سيتروان” 1945، “كرايزلر” سبيدناير 1951، “ديزوتو” 1957، “دودج” 1957، “فيات 1100” 1959، “بيجو 403” 1958، “بويك سكايلاك” 1962، “بيجو 404” 1964، “أمبالا” 1967، “مرسيدس 220” 1972، “بيجو 404” 1974.
يرغب هواة جمع السيارات القديمة في النبطية في تنظيم معرض لنحو مئة سيارة، لكن الأمر يحتاج إلى باحة كبيرة “محصّنة” وإلى تكلفة مالية، ولتيسير أمور المعارض والمسيرات السيارة، هناك نيّة لدى بعضهم في تشكيل هيئة أو تجمّع “مرخّص”. ويؤكّد معظمهم أن سياراتهم “قانونيّة” أيّ مسجلة في دوائر “النافعة” ومنها على هيئة “انقاض”. هم يقومون بتسديد رسوم الميكانيك المتوجبة على سياراتهم سنويّاً، لكنهم يشكون من عقبة تسعير هذه السيارات بمبالغ عالية عند تسجيلها في مصلحة تسجيل السيارات، أو في حال الموافقة على استيرادها، ويطالبون بإعفائها من رسوم الميكانيك وتخفيف القيود على الاستيراد تعزيزاً للهواية وانتشارها.