مبنى “الزاهد” في الصنوبرة.. حكاية اغتيال القادة الفلسطينيّين الأربعة

عاش “مجتمع بناية الزاهد” كما يصفه الكاتب زياد كاج في كتابه الصادر عن دار “نلسن” ويحمل عنوان “بناية تي. في. تاكسي”، انسجامًا ووئامًا حتّى وقوع الهزّة الأمنيّة الأولى في بيروت سنة 1973. والتي بعدها سيختفي من المشهد كلّ رمز للدولة والنظام، سيغيب عامل البلديّة الليليّ ببزّته الكحليّة النظيفة، وجابي الكهرباء الذي يقصد البناء ويسلّم الإيصالات من دون أن ينبسّ ببنت شفة مع أيّ من السكّان، اهتزّ البناء وسقط منه ما سقط.

يروي الكاتب زياد كاج في كتابه “بناية تي. في. تاكسي” سيرة مكان وأهله، وأحواله وتحوّلاته، على مدى أكثر من نصف قرن. ينطلق من بناية الزاهد أو المبنى الضخم الذي يقع عند زاوية ومفترق من منطقة الصنوبرة في رأس بيروت، ليروي سير عشرات العائلات التي سكنت الطوابق السبعة، وفي كلّ منها خمس شقق، العائلات بتسامحها على تنوّعها الدينيّ وأهوائها السياسيّة، في خلال الحرب الأهلية.

رواية “بناية تي في تاكسي” للكاتب زياد كاج
من بناية التكسيّات إلى الاغتيالات

لا يكتفي الكاتب كاج من التجوال على شقق البناء الذي بات يعرف باسم جديد هو “تي في تاكسي” بسبب اصطفاف أسطول السيارات الأميركيّة تحته، والتي كانت تعمل لصالح مكتب نقليّات نحو جميع المناطق اللبنانيّة، وبين البيروتين: الغربيّة والشرقيّة. وكانت تقلّ الصحافيّين الأجانب، وتنقل موادّهم الإخباريّة طوال يوميّات الحرب.

شكّلت بناية الزاهد، بحسب زياد كاج، “نموذجًا للتنوّع الذي كان يسكن رأس بيروت، والذي ميّزها عن سائر المناطق في إبّان فترة الحرب الأهليّة”. هو سرد يفصح عن عمارة طفولته التي عاشها كابن بوّاب العمارة، الذي لديه حرّيّة الحركة في خدمة وطلبات السكّان؛ وليخرج منها مراهقًا.

ويسرد سيرة شوارع رأس بيروت وامتدادها الجغرافيّ إلى شارع الحمراء و”سينماته” ومحال “الفليبرز”، وغيرها من أماكن اكتشاف المراهق الذي كان يطوف شوارع رأس بيروت سيرًا على الأقدام.

يسرد سيرة شوارع رأس بيروت وامتدادها الجغرافيّ إلى شارع الحمراء و”سينماته” ومحال “الفليبرز”، وغيرها من أماكن اكتشاف المراهق الذي كان يطوف شوارع رأس بيروت سيرًا على الأقدام.

بيد أن البناء الذي يقع على زاوية شارعين، شهد أحداثًا مفصليّة عاشهما أهل الحيّ، رآهما الراوي طفلًا، وكان شاهدًا عليهما. اغتيال ثلاثة من قادة الفلسطينيّين في العام 1973؛ وهم: كمال ناصر، وكمال عدوان وأبو يوسف النجّار، وكان الراوي لمّا يزل في التاسعة من عمره. ثم اغتيال أبو حسن سلامة العام 1979 في الشارع نفسه بسيّارة مفخّخة، وكان قد أصبح في الخامسة عشرة.

ليلة 10 نيسان 1973 الدامية

يروي زياد كاج عن تلك الليلة وأصوات الإنفجارات المرعبة وزخّات الرصاص. قرع باب الشقّة الحارس الخمسينيّ الذي تنقصه الخبرة القتاليّة، وبيده بندقيّته القديمة الطراز، وارتمى على الأرض.

أصوات السكّان الذين أخلوا شققهم المطلّة على مصدر النيران، وهبطوا سلّم الدرج.. صوت الدركيّ اللبنانيّ المصاب في الشارع، والذي راح يخفّ تدريجيًّا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، قبل الفجر بساعات؛ دركيّ، إنسان، يستغيث في عتمة الليل وثكنة الدرك على بعد أمتار قليلة.

يروي زياد كاج عن تلك الليلة وأصوات الإنفجارات المرعبة وزخّات الرصاص. قرع باب الشقّة الحارس الخمسينيّ الذي تنقصه الخبرة القتاليّة، وبيده بندقيّته القديمة الطراز، وارتمى على الأرض.

في تلك الليلة، لفظت الدولة أنفاسها الأخيرة. وعند الصباح استيقظت البناية والحيّ على الأخبار والمشاهد الصادمة. “عمليّة الينبوع الشباب”، هكذا أطلق عليها منفّذوها، ردًّا على عمليّة “ميونيخ” خلال الألعاب الأولمبيّة في ألمانيا صيف 1972.

يقول زياد كاج: “استعرَت حرب أشباح بين المقاومة الفلسطينيّة والعدوّ الإسرائيليّ. غولدا مائير توعّدت ونفّذت. نفّذ كوماندوس العدوّ عمليّة إنزال عند شاطئ الرملة البيضاء، بقيادة إيهود باراك وأنون شاحاك…”.

ويضيف: “قتلوا بدماء باردة القادة الفلسطينيّين الثلاثة: كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجّار. استشهدت زوجة أبو يوسف التي حاولت حمايته، وشرطيّان لبنانيّان، وناطور بناية وامرأة إيطاليّة طاعنة في السنّ..”.

القادة الفلسطينيّين الثلاثة: كمال ناصر، كمال عدوان وأبو يوسف النجار

ويتابع:”شهد البلد تظاهرات استنكارًا لما جرى، ولتقاعس الدولة عن القيام بواجباتها، فطالب الرئيس صائب سلام بإقالة قائد الجيش، لكنّ الرئيس سليمان فرنجيّة رفض، استقالت الحكومة، ودخل البلد ومعه “بناية الزاهد” في مرحلة جديدة لا تشبه سابقتها”.

الأمير الأحمر شهيدًا

بعد ستّ سنوات عن الحادثة الأولى، التي أدخلت البلاد ومنطقة الصنوبرة في مرحلة جديدة، وبعد محاولات فاشلة للنيل من القائد الفلسطينيّ علي سلامة (أبو حسن) الملقّب بـ”الأمير الأحمر”، زرع الموساد المدعوّة إريكا تشامبرس، التي ادّعت أنّها رسّامة وسكنت في الطابق العلويّ من البناء الذي يطلّ على منزل سلامة وزوجته ملكة جمال الكون جورجينا رزق. كانت شقّتها تكشف الطريق الممتدّ من منزلهما وصولًا إلى شارع الصنوبرة، حيث ركنت السيّارة المفخّخة.

يقول زياد كاج في كتابه: “في  ذلك اليوم المشؤوم، وقفت إريكا تراقب الشارع، رأت موكب سلامة المكوّن من سيارتيّ شيفروليه ستيشن واغن، ينطلق باتّجاه ساقية الجنزير، لحضور حفلة عيد ميلاد ابنة شقيقته. عند الساعة 3:35 بعد الظهر، ضغطت على جهاز تفجير عن بعد… وقع الانفجار”.

الشهيد أبو حسن سلامة

يضيف: “استشهد سلامة ومرافقيه وأربعة من المارّة. أصيب في الانفجار ستّة عشر مدنيًّا من بينهم بعض “شوفيريّة” مكتب تي في تاكسي، البعض شاهد جورجينا رزق تصرخ وتبكي مصدومة وسط السيّارات المحترقة. ادخلها رجال الأمن في سيّارة خاصّة واقلعوا بها إلى مكان آمن”.

ست سنوات بين الحادثتين، معالم الشارع وكذلك سكّان بناية الزاهد، لم يعودا كما في السابق. حتّى شجرة الصنوبرة العملاقة التي سمّيت المحلّة باسمها لم تعد كسابق عهدها مظلّلة للشارع وملفتة لجميع العابرين، ومن بينهم عميلة الموساد إريكا تشامبيرس التي رسمت الشجرة في عدّة لوحات، وكانت تعرضها للبيع على جيرانها بأسعار عالية، وقد تركت اللوحات في الشقّة قبل أن تهرب إلى خارج البلاد، في ذلك اليوم المشؤوم.

سيارة أبو حسن سلامة بعد تفجيرها بعبوة ناسفة واستشهاده مع مرافقيه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى