مجزرة صبرا وشاتيلا…وقائع الفزع والموت
مناطق نت
وتبقى مجازر صبرا وشاتيلا، لن تُستنفد بتكاثر المجازر هنا أو هناك ولا يطويها تقادم السنين، فقِتْلُ الناس ليس صفحة في كتاب يمكن أن نقلبها، هي شأن الضمائر والأرواح التي لا أيدٍ لها ولا أصابع، وتذكرها ليس نبشا للقبور، فمن الصعب على تراب كل الأرض أن يواري تحته كل ذاك الظلم واللؤم والوحشية التي وقعت على تلك الضحايا البريئة، فما زالت قبورهم مفتوحة وتضيق بالأهوال التي انقضت عليهم، وما زال ذاك الفزع الذي دهمهم في 15 و16 ايلول 1982 رابضا في مخيمهم، ولو تخفى بضجيج حياتنا اليومية أو تغلغل بين طيّات النسيان، فالذاكرة تنتظرهم على حرف او صورة عابرة عفوا، لتسحب الماضي من عمق السنين ليمثل بكل نظرة خوف او صرخة او استغاثة أو محاولة يائسة للنجاة، لتبقى الحكاية بانتظار العدالة واكتناز العظات والدروس.
كان من أهم أهداف الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 هو إزالة المخيمات الفلسطينية في بيروت، والخلاص من مشكلة اللاجئين وحق العودة التي تنكّد على الاحتلال اغتصابه فلسطين، وكان هذا شرطا إسرائيليا على القوات اللبنانية التي تعهدت القيام بهذه العمل الوحشي بتخطيط ومساندة إسرائيليتين، لما تم اغتيال بشير الجميل في تفجير مركز الكتائب بالاشرفية في 14 أيلول، رأى أرييل شارون أن الظرف مواتيا للانتهاء من هذه المهمة. آلان مينارغ في كتابه “أسرار الحرب اللبنانية” ينقل وقائع مما حدث في 15 و16 ايلول 1982 بمخيمي صبرا مؤكدا حدوث المجزرة على 3 دفعات، وهذا ما كتبه بعد اختصاره…..(ح.ح)
الدفعة الأولي
في منتصف ما قبل ظهر يوم الأربعاء 15 أيلول 1982، كان مخيما صبرا وشاتيلا غير مقطوعين تماما عن باقي المدينة، دخلت قوات إسرائيلية إلى المخيمين الفلسطينيين رغم التأكيدات التي أعطاها شارون لبيغن ولحكومته. وبعد أن قصفت الدبابات المتمركزة في جنوب شاتيلا بالمدفعية المخيمين بغية خفض الرؤوس، راحت مجموعات تضم كل واحدة منها عشرة رجال، يرتدون لباس القتال ولا يحملون علامة مميزة ظاهرة، وتابعين لوحدة المغاوير المسماة “الاستكشاف” سايرت ميتكال، تتغلغل سرا في متاهة الأزقة المقفرة، كان الرجال يتحركون بسرعة وصمت، حسب مسارات كان يبدو أنهم يعرفونها تماما، متوجهين نحو مساكن محدّدة. وبدون تردد، خلعوا أبواب هذه المساكن، وأخذوا يذكرون أسماء أمام ساكنيها المذعورين بواسطة ترجمان يتكلم اللغة العربية ولكن بلهجة غير لبنانية، وكلما كان شخص من المنادى عليهم يفصح عن هويته، كان يُطلب منه الخروج ثم يُقتل ببرودة أعصاب برصاصة في عنقه. ظلت تُسمع طوال النهار طلقات نار متقطعة في داخل المخيمين. وأكدت عائلتان استطاعتا الهرب من مخيم شاتيلا أن الجنود كانوا إسرائيليين وأمكن لهم أن يتعرفوا عليهم من “الكيبا” التي كان بعضهم يعتمرها.
في يوم 15 ايلول إياه، ومنذ وصوله إلى مطار بيروت عند الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر، توجه الرقيب بيني حاييم مع وحدته من سايرت متكال نحو الشمال، في الشاحنة أولا ثم سيرا على الأقدام إلى مكان “غير بعيد عن مخيم شاتيلا”. وعند الساعة الخامسة والنصف عصرا جُرح بيني حاييم في ساقه وفي ساعده الأيسر، فبادر ممرض المجموعة إليه وقصّ رباطات حمالة أمشاطه خوفا من أن تنفجر الرمانات اليدوية التي كانت في جيوبه، ورماها إلى مكان بعيد، وكان في إحداها أوراق هوية الرقيب. عُثر على الحمالة فيما بعد في أزقة شاتيلا ومعها الهوية.
أمثال بيني حاييم، هم أولئك الجنود، الذين كان بعضهم أشقر الشعر وأزرق العينين قد قاموا بقتل 63 مثقفا فلسطينيا من رجال ونساء، كان واضحا جدا، أنه كان لدى الجنود الإسرائيليين لائحة باسمائهم. وكان هؤلاء محامين وأطباء ومعلمين وحتى ممرضات، كانوا قد قالوا لمن حولهم إنهم باقون في مراكزهم لأنهم على يقين من أن كونهم غير مقاتلين يجعلهم في منأى عن القتال، وانتهت المرحلة من تصفية المدنيين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا مع نهاية ّذاك النهار، وغادرت قوات سايرت ميتكال المخيمين سرا كما دخلتهما.
الدفعة الثانية
مساء 15 أيلول… كان رجال سعد حداد مكلفين من قبل رفائيل إيتان ب “تفتيش و”إفراغ مكاتب منظمة التحرير من محتوياتها، فاستعانوا على ذلك بأبسط الطرق: وهو إطلاق النار على كل من كان يظهر أمامهم، فيما كان قنّاصة غولاني المتمركزين حول المخيمين يمشطون بمناظير بنادقهم الخاصة، كغطاء لأولئك، الأزقة الخالية التي تتشابك تحت أقدامهم، وهكذا مُحقت عائلات بكاملها فوجئت وهي في الخارج تحاول الفرار. وظلت الطلقات تُسمع طوال جزء من نهار 16 أيلول على مقربة من مستشفى غزة حيث كان قد لجأ عدد كبير من الجرحى الذين نُقل بعضهم إلى مستشفى المقاصد الذي يبعد 500 متر.
الدفعة الثالثة
16 أيلول، استدعى قائد القوات اللبنانية فادي إفرام، إيلي حبيقة وطلب منه تنظيف المخيمات، وحوالى السادسة من مساء ذلك اليوم، كانت الشاحنات التي تقل رجال جهاز الاستخبارات في القوات قرب مداخل مخيم شاتيلا من الجهة الجنوبية، في حين وصل جيسي أي جورج سكر (مسؤول الاستخبارات العسكرية في الجهاز) إلى مقر قيادة عاموس يارون لتامين الاتصال.
كان هؤلاء الشباب يلقبون ب”الهنود” أو “الأباش”من قبل الوحدات النظامية في القوات اللبنانية، وكانوا موزعين على 3 مجموعات، الأولى بقيادة جورج ملكو الذي كان مقر قيادته في حي السريان القريب من “أوتيل ديو”، والثانية تحت إمرة ميشال زوين الذي كان مقر قيادته على مرتفع يشرف على محطة سكة الحديد السابقة، والثالثة يقودها مارون مشعلاني الذي كان مقر قيادته في مدرسة قديمة بالكرنتينا على بعد 100 متر من المقر العام لقيادة القوات اللبنانية.
قبل الساعة السادسة مساء بقليل في يوم الخميس 16 أيلول، نزل هؤلاء من الشاحنات، من دون أن يعلموا أنهم ثالث مجموعة تدخل المخيمات الفلسطينية، كان الضباط الإسرائيليون يستطيعون مراقبتهم من فوق سطح المبنى الذي أقام فيه عاموس يارون قيادته، وكان هؤلاء الضباط مزودين بمناظير تسمح بالرؤية ليلا. ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا بحاجة إليها.
بعد مضي أقل ساعة وصل إيلي حبيقة إلى مقر القيادة ليتابع تقدم رجاله، طرح بضعة اسئلة على جيسي، وهذا بدوره اتصل لاسلكيا بقادة المجموعات، فسأله أحدهم بالعربية عما يجب أن يفعل ب 50 امرأة وطفلا كان قد أوقفهم. ردّ: أنت تعرف جيدا ما يجب أن تفعل بهم.
عند منتصف الليل كان قد تأكد بأنه تم تصفية 300 مدني في المخيم، وفي الصباح، أشرقت شمس يوم الجمعة 17 ايلول في بيروت الغربية، على شوارع شبه خالية بسبب منع التجول الذي فرضه الإسرائيليون. السيارات الوحيدة التي تتجول، كانت سيارات الإسعاف والإطفاء وسيارات الصحافيين والمركبات العسكرية. وبالرغم من منع التجول، ظهرت عند الساعة الثامنة والنصف صباحا، مجموعة من النساء الفلسطينيات المنكوشات الشعر، والباكيات، في شوارع ضيقة قرب بولفار المزرعة وأخذن يصرخن: الكتائب في المخيمات ويقتلون رجالنا.