“مدرسة الأستاذة هيلدا” الرسمية في الهرمل.. قصة نجاح
لا يمكن التغاضي عن ذكر تأثير المزاج والدعم السياسيين اللذين يتدخّلان في دعم مدرسة أو ثانوية رسمية دون أخرى في بعض المدن والمحافظات، ولكن بعيداً عن مزاجية إرادة السياسيين الانتقائية والمصلحية والاستنسابية والموسمية، تنجح بعض المدارس في انتزاع مكانة مرموقة لها تخفف من سوداوية المشهد التربوي الرسمي العام في لبنان، كحالة متوسطة الهرمل الرسمية الثالثة التي انتزعت ثقة المحيط المحلّي، واجتذبت إليها عدداً كبيراً من الطلاب يفوق قدرتها الاستيعابية.
عُرفت هذه المتوسّطة باسم مديرتها الأستاذة هيلدا سجد التي لازم اسمها المدرسة، تمييزاً لها عن بقية المدارس. ولكن مرد هذا الصيت الذائع ليس الاسم، وإنما النجاحات المتراكمة التي هي محصّلة لأداء تربوي متميّز، حقّقتها هذه المؤسسة التعليمية منذ تسلّم الأستاذة هيلدا إدارتها.
أسئلة كثيرة تستثيرها هذه التجربة اللافتة في منطقة طرفية مهملة؛ ما هي العناصر والعوامل التي توفّرت لإنجاح المدرسة؟ وكيف تمّ تجاوز المعوّقات الذاتية المرتبطة بالخصوصية الاجتماعية لواقع المدينة، أو العوائق الموضوعية الناتجة عن القصور الذي يطاول التعليم الرسمي في لبنان بشكل عام؟ وكيف تعاطت وزارة التربية مع الأداء التربوي الرصين والكفوء الذي نهض بالمدرسة وحوّلها إلى حالة نموذجية ناجحة؟
مناطق.نت زارت “مدرسة هيلدا” كما يسمّيها أهل المدينة، لتتعرّف عن قرب على مديرتها، وتحاورها عن المسار التعليمي- التربوي والاجتماعي الذي سلكته المدرسة، سواء في تعثّراته أو نجاحاته.
روح الجماعة وسويّة القانون
تعزو الأستاذة هيلدا سبب الانتظام التربوي الذي لاقى ثماره في التحصيل التعليمي للطلاب، إلى رؤية تربوية التزمت مسار أساسي تمثّل بالحرص على تعزيز الروح والعمل الجماعيين للكادر الإداري والتعليمي في المدرسة. هذه القناعة بأهمية الجهد الجماعي تتجلى في شعور المعلّمين؛ ملاكاً ومتعاقدين بالانتماء إلى مؤسسة وعائلة راكموا فيها عطاءاتهم وتضحياتهم على مدى سنوات. هذا التضامن والتكاتف هو ما يؤمن التلاقي والالتفاف والموافقة لدى الفاعلين التربويين في المدرسة بحسب المديرة، على خطتها وتوجهها.
تعتبر الأستاذة هيلدا أن هذه المساندة شكّلت دعماً كبيراً لها في مواجهة العقبات الناجمة عن محيط اجتماعي ضاغط وغير متعاون في أكثر الأحيان. فالتدخلات الحزبية أو العشائرية تم التصدّي لها بقوة القانون وفرض تطبيقه على النسيج الهرملي ككل، استبعاداً للمفاضلات والاستثناءات، فاكتسبت الإدارة مصداقية الأهل والبيئة بسبب المعاملة المتساوية المحتكمة إلى القوانين والمعايير التي وحدها حكمت أسلوب التعامل مع الجميع بالتساوي. لم يكن الأمر سهلاً في البداية تقول المديرة “فهو احتاج إلى صبر وعناد ووقت طويل لكي يعتاد الأهل على تقبّل نظام المدرسة والتقيد به”.
صعوبة أخرى ترتبط بالبيئة غير المؤهلة علمياً لمواكبة الطلاب في المنزل على المستويين النفسي – التربوي والتعليمي. فذوو المتعلمين غير قادرين على توجيه أبنائهم بسبب من عدم توفرهم على الحد الأدنى من التحصيل العلمي، ما يفرض على المدرسة إضافة الجهود لسد هذا النقص.
ثمار الجهود.. إنجازات ونجاحات
أتت مراكمة الجهود ثمارها على مدى سنوات، نجاحاً وإنجازات وإقبالاً كثيفاً على المدرسة التي بلغ عدد طلابها هذا العام حوالي 2000 طالب. يفوق هذا العدد القدرة الاستيعابية للصفوف التي احتوت 35 تلميذاً للصف الواحد، حتى غرف النظار تم تحويلها إلى صفوف للاستفادة منها. وتشهد المدرسة إقبالاً متزايداً بخاصة في ظل النزوح من القطاع الخاص إلى التعليم الرسمي بعد الأزمة الاقتصادية.
تعجز المدرسة بحسب مديرتها هيلدا عن استيعاب الأعداد الوافدة إليها. وهي لم تلق أي تجاوب أو تعاون أو استماع من قبل وزارة التربية، عندما طلبت إليها الدعم لتشعيب الصفوف والاستفادة من غرف شاغرة في ثانوية الهرمل الأولى الرسمية المحاذية للمدرسة.
استقطبت الشفافية المالية والاستقامة في السلوك والأداء اللتان أظهرتهما الإدارة حيال تعليم النازحين السوريين، الجهات المانحة التي استمرّت في دعمها للمدرسة، بخاصة خلال الفترة التي كان الدعم المادي والمالي يحصل مباشرة بين الجانب المموّل والمدارس. واستطاعت المديرة بحسب قولها أن تطوّر المدرسة على مستوى التجهيزات المادية، فزوّدتها باللوحات التفاعلية ووسائل الإيضاح والتلفزيونات، وذلك بالأموال التي كانت تفيض عن عقود الأساتذة وأجورهم والمخصصات المالية الممنوحة لتعليم السوريين. ولكن عندما دخلت الوزارة على خط الوساطة بين الجهات الداعمة والممولة لتعليم النازحين، شحّت الأموال وجُفّف الدعم، وحتى الأساتذة والإداريين والمتعاقدين لم ينالوا حقوقهم وأجورهم بشكل عادل، كما كل الأساتذة في لبنان الذين يعانون من المشكلة ذاتها.
وزارة تثبيط العزائم
لا تعير وزارة التربية اهتماماً بشؤون المدرسة وشجونها، وبدل أن تقابل الجهود المبذولة بالتقدير والثناء، تقوم هذه الوزارة بدور كابح ومعيق وأحياناً محبط بسبب من تهاونها وصم الآذان عن حاجات المدرسة لسد نواقصها. فمثلاً تقرر الوزارة من دون تسويغ للرفض ألا تستجيب لطلبنا إليها تعيين ناظر اقتضاه تزايد أعداد الطلاب” تقول المديرة، وتضيف: “حتى عندما نطالب بالورق وهو أضعف الإيمان، يكون علينا أن ننتظر مناقصات الوزارة التي يطول أمدها لتأمين مستلزماتنا”.
وقد ظهر تقصير الوزارة الفادح في السنتين الماضيتين حيث اعتمد التعليم عن بعد. فعدد كبير من الطلاب لم تتوفر لديهم الوسائط الالكترونية المطلوبة من تلفونات ومحمولات لمواكبة الـ online. والأهل عاجزون مالياً عن تأمين هذه المستلزمات، ما أسفر عن انقطاع البعض منهم، الأمر الذي اضطرهم إلى إعادة السنة الدراسية. (في المقابل استحصلت المدارس الكاثوليكية على ٥٠ ألف جهاز كمبيوتر محمول، ادّعت أنها مخصصة لها حصراً، في حين تقول مصادر أخرى أن هذه الأجهزة هي لكل طلاب لبنان، وذلك بحسب جريدة المدن). كما أن الوزارة لم تهتم بتدريب الأساتذة على برامج التعليم عن بعد، فهم اعتمدوا على مبدأ التطوير الذاتي وبقدر الإمكان لتوفير جهوزية تبقيهم على تواصل مع الطلاب.
حتى التدريب المستمر الذي تقوم به الوزارة، تأهيلاً للأساتذة والمعلمين وتطويراً لقدراتهم ورفداً لإمكانياتهم، غير كاف برأي المديرة هيلدا، لذا فهي تطلب إليهم أن يستفيدوا من الإنترنت والخبرات التي يستطيع توفيرها لهم لإثراء معلوماتهم وطرائقهم التعليمية.
المناهج.. عبئاً على الطالب
تشكو المديرة أيضاً كما كثر من مديري المدارس والثانويات من العشوائية التي وجّهت تقليص المناهج وحذف الدروس في السنة الماضية، وهو إجراء قامت به الوزارة مع المركز التربوي للبحوث والإنماء لجعل حجم الدروس متناسباً مع أيام التعليم، ولتسهيل إجراء الامتحانات لا سيما الرسمية منها. فهذا الحذف بتر تسلسل الدروس والمنهج عبر السنوات الدراسية في بعض المواد! كما أن هذه المناهج بحد ذاتها صارت عبئاً على الطالب، بقدر ما هي بعيدة كل البعد عن واقعه وهي التي لم يُعمل على تجديدها منذ العام 1997″!.
وعن إمكانية استمرارية العام الدراسي الحالي بالرغم من الصعوبات، تأمل المديرة خيراً ولا تعويل بالنسبة لها إلا على الإصرار والإرادة في استمرار إنجاح هذه المدرسة، وتكريس كل الجهود للوصول إلى هذا الهدف، لأن أبناء الهرمل برأيها يستحقون مدرسة تحتضنهم ليحصلوا على حقّهم في التعليم، حتى لا يكونوا عرضة للتسرّب المدرسي أو العمالة أو ضياع المستقبل.
لا تراعي “وزارة الفرمانات” واقع المنطقة وبعدها الجغرافي، ولا تعير انتباهاً لحاجيات المدرسة والطلاب. فلا هي تقوم بدورها، ولا تشجع من يأخذ على عاتقه أن ينفح المدرسة بجهد صادق وإرادة مهنية عالية ومسؤولة. فالكفاءات الناهضة بالمدارس والثانويات الرسمية لا تدخل في حسابات وزارة تدور في فلك مصالح النظام السياسي والطائفي. هي لا تجعل التعليم الرسمي في آخر اهتماماتها وحسب، بل وتدفع به نحو الإفقار والتجفيف والتجهيل. والسؤال: هل تستطيع الإرادات الفردية وحدها مهما كانت متفانية وصادقة أن تنقذ المدرسة الرسمية مما يُخطط لها؟