إبن “العميرية” الدكتور غسان العميري.. وملامح من ذاكرة بعلبك الهرمل

تُدمغ تلك البقعة البقاعية القابعة عند حدود وطن مصاب بشلل الأطراف بوصمات شتّى؛ فبعلبك الهرمل مأوى للطفّار حينًا، وتربة أرضها تلفظ الزراعات البديلة ولا تحتضن إلا نبتة الحشيش حينًا آخر! وهي مذمومة بفقر إنمائها الذي أغدقه السياسيون على أهلها، غير المؤهلين لقبول مكرمات السياسات الإنمائية الطافحة مساواةً وتوازنًا بين المناطق!

إنها المفارقات المريرة الباعثة على السخرية الهازئة من نهج التوصيم الذي يُبقي بعلبك – الهرمل مقصيّة مبعدة، لتحمل وزر الإهمال إيغالاً في شيوع التصوّرات الدونية والسلبية عن أهلها وثقافتهم ومجتمعهم.

لكن الوجه يأبى إلا أن يضيء والوصمة تتكشّف عن بصمة مشعّة يفلح أهل المنطقة في نثرها، عندما يقبضون على نواصي الأحلام، مجتازين مسافات التقصير القسري المفروض عليهم. فتتألق المنطقة بإضاءات أبنائها وتقترن بعض محطاتها بأسماء اللامعين منهم، لينفضوا عنها قليلا غبار النسيان، بخاصة حين يحملونها في قلوبهم وفكرهم، فتصير خصبًا يثمر في نتاجهم الأدبي والفكري والروائي.

الدكتور غسان العميري في مكتبته
ذاكرة بعلبك الهرمل

غسان العميري، الأديب والروائي والطبيب، هو أحد أبرز ملامح بعلبك-الهرمل التي تغور في عتيق تاريخ المنطقة، لتدلّل على الأصيل فيها ولتحفظه في ذاكرة الرواية التي شُغف بها د. غسان، فأبدع في حَبْكِ نسيجها لتكون في أحد مراحل كتابته لها، الصورة الصادقة عن إحدى الحقبات التاريخية للمنطقة الممتدّة من “العميرية” المتنائية في بعدها، حيث الطفولة المتأهبّة دائمًا في وعيه ولا وعيه على السواء، مرورًا بالهرمل التي يوسّعه أهلها حبّهم ودفئهم، وصولًا إلى بعلبك التي طاب له فيها العيش والمقام، وصار أبرز معالمها الثقافية نشاطًا وحضورًا وتأثيرًا.

هو إبن العميرية القابعة عند آخر الحدود الملاصقة لسوريا، حيث العاصي يسخر من ترسيمات الفصل الجغرافي، مستأنسًا إلى الطاحونة القديمة الشاهدة على زمن الهرمل المجبول بالنسيان، في إحدى محطاته. وكأن الزمن في هذا المكان القصيّ يسيل جارفًا معه الحكايات الصغيرة لناسه؛ حيواتهم، معيشهم، سردياتهم التي تتشابك، تعتمل وتجيش فاعلة ومنفعلة في الواقع الهرملي المركون في زوايا الإغفال، منذ ذلك التاريخ وما قبله.

غسان العميري الراوي

لا يريد د. غسان العميري أن يؤرّخ. فالتأريخ يرضخ لقواعد وقوانين لا يستسيغها من أجاد النجاة دومًا من القيود الموضوعة في الكتابة والفكر والعشق والحياة والمجتمع. “… يبقى التاريخ تاريخًا والرواية رواية، فما أن يحاول أحدهما أن يحتل مكان الآخر، ينتهي بفقدان هويّته… روايتي ليست تاريخية ولا تاريخ، تسرد ولا تؤرّخ، تقول ولا تفصح، تنتفض ولا تخضع. تحكي الكثير عن الأحداث والأشخاص والتحوّلات بلغتها وانفعالاتها وقساوته…”. فالتاريخ لن يتنازل مباليًا بالخبريات الفردية لشخوص من لحم ودم وألم وفقر وجوع وحرمان. هي خصوصية الأفراد التي تفلح الرواية في العبور بها من خاص الشخصيات إلى عام المجتمع والواقع والتاريخ.

من روايات د. غسان العميري

وهذا ما نلحظه في روايته “الريح والفخ”، حيث يستحضر د. غسان قصّة “محمد علي” والده، ذاك الفتى الذي قذفته ريح الفقر العاصفة بالأرض الخاوية، بالرغم من مجاورتها للعاصي، إلى بلاد الغربة التي يظفر فيها بالرغم من الشقاء والمهانة بهدفه، ليعود بثروة طائلة يترصّدها فخ البيئة المسوسة بإقطاع جشع، لينشب ذاك الصراع الوجودي المستمر بين الخير والشر، وليصوّر الروائي النزاع الاجتماعي والثقافي الذي استعرّ بين طبقتي الإقطاع والفلاحين في تلك المرحلة.

“تعمل روايتي الجديدة على نقل وتصوير جانب ومرحلة من حياة منطقة عرفت بالتخلف والحرمان في النصف الأول من القرن العشرين، وما فيها من صراع قائم في نظام إقطاعي مكرّس، فمن جانب لا يمكن إخفاء العنف، ومن الجانب الآخر الشعبي لم يتوقف الفعل ورداته على الغضب والسخط… فتلك الطلائع قاومت بكل ما لديها من وسائل وهيأت نضج الوعي…”.

الرحلة من الأب إلى الإبن

مسارب الوعي تسلّلت إلى الإبن الذي تحصّن بالفطنة والفهم ليفقه حيثيات محيط يحاصره. حثّ الأب الولد الطامح على التوجه نحو الغرب ليمسك جذوة العلم علّه حين يعود يبدد ظلمات قهرت الأب القاهر بدوره. فمشيئته سقطت سمعًا وطاعة دافعًا إبنه نحو اختصاص الطب. لم يشفع لقب الطبيب للشاب الذي كتم شغفه بالأدب، في بيئته التي استمرّ أهلها في اللجوء حين يمرضون إلى زيارة من “يقرأ لهم الرقوة ويكتب لهم الحجابات الحارسة”.

لم تكن تجارب العائلة واختباراتها مع المحيط الفلاحي الموغل في فقر جهله المدقع، لتحبط الإبن الذي ورث عن والده إصرارًا وتمسكًا على المضيّ في معاندة التخلّف، والأقدار أيضًا. قدره المؤجل الذي كان يلوح له شغفًا متواريًا في رغبة دفينة ستلازمه كالسر المكنون الذي يترقّب لحظة الانبلاج.

كان استئناسه بالأدب وبخاصة الرواية والقصة، يستبطن نزوعًا فطريًا جارفًا لازم الطبيب الأديب غسان العميري خمسين من السنوات، قبل أن يفيض حقيقة مجلاة في نتاجه القصصي والروائي الذي راكمه روايات وقصصًا، وهو التسعيني بكل ما يختمره هذا القرن من صنوف معاشرة الحياة؛ حبًا ومماحكة، انكفاءً حينًا واقتحامًا لمعاقلها أحيانًا، ومداناة واقعها بكل حدّته وفجاجته، حتى صار الخبير الذي يتّخذ من الواقعية أسلوبه في الحياة ومرجعيته الأولى والحاسمة لإبداع قلمه وتوجه رواياته.

“الرواية لا يمكن أبدًا… أن تستغني عن الواقع، عن صوره ومحسوساته… الواقع هو الحقيقة… هو الوجود الذي عبره ندرك العالم والذات… الواقعية هي أن تكتب الحياة”.

الدكتور المتمرد

لم يأتِ د. غسان إلى كتابة الرواية والقصة من خلفية مدرسية تحشر فعل الكتابة في خانة أو صنف، أو تحدّه ضمن اتجاه أو مذهب. “لا أستطيع أن أصنّف نفسي تلميذًا لهذا الكاتب، أو ذاك أو لتلك المدرسة، وكنت دائمًا أحاول ابتداع فهمي الخاص للرواية كأسلوب في الكتابة”. فالتمدرس كما التمذهب كما التأدلج لا تتواءم مع الطباع الفكرية المتفلتة والمتمردة للدكتور غسان البرم بكل ما يحدّ العقل والفكر ضمن سياجات جامدة. وهنا أيضًا يظهر أديبنا مجدّدًا على طريقته ووفق أسلوبه ومزاجه في تقديم رواية أراد لها أن تكون ملاصقة للحياة لتستمد مصداقيتها من التصاقها بالمناخات التي تعصف بالإنسان ووجوده بكل معانيه وصخبه. فالرواية صنو الحياة” تجتذب الفضول البشري، من السؤال المستمر منذ بداية الإنسان إلى نهايته. من غريزة المعرفة، من الغوص وراء ما هو مجهول، وراء أسرار النفس البشرية وما فيها من غموض والتباس وخبايا…”.

طاحونة العميري في الهرمل

لم ينسلخ د. غسان يومًا وأينما حطت به دروب الحياة عن الطفولة “الطفولة عالم متحرك، ديناميكي ونشيط…”، والعميرية والعائلة والأب والطاحونة، بالرغم من التجوال والأسفار الكثيرة. فالحكاية هي درب العودة إلى الماضي، وطريق المشي إلى الخطوط الأولى المنحفرة عميقًا في الذات. الذات التي عادت أدراجها مهتدية بخيط شغفها إلى رغباتها الغائرة والممنوعة، فكانت كلّما أوغلت في بعدها وتواريها، كلما تمكّنت في إلحاحها وتقوّت في حضورها قدرًا لا بد من الامتثال لمشيئته.

وليس الماضي الحاضر بريحه القادرة على الانبعاث وفخّه الحتمي، وحده ما فتح شهية الكتابة المؤجلة وحرّضها على التجلي في “الدفاتر العتيقة”، فالحياة أيضًا هي مأدبات الأديب الحاذق يتخيّر منها أكثر الدلائل والإشارات والسيميائيات المكثّفة بالمدلولات وبالمعاني لتشكّل كلها مجتمعة مثيرات تلهب الفكر الجسور وتحضّه على الحضور في فعل الكتابة.

المرأة والحب والغربة

فالبدء الطفولي المغلّف بالاستغراب والأسئلة والقسوة والفقر والأحداث غير المفهومة، ومن ثم المرأة والحب والغربة والمهنة واختلاف الثقافات وأحجيات الوجود المستغلقة، انعجنت وتخمّرت وتفتّقت في الستين من خريف العمر روايات وقصصًا، لم تشأ أن تكون شبهًا للسيرة الذاتية ولا تدوينًا لمراحل العمر، وإنما محاكاة لتجارب الإنسان المطلق والوجود بكليته. فالمرأة ترصّدت أبواب القلب في”الأبواب المرصودة”، لتمنحه أزهار العمر الضنين والقتور. وخرائط الطريق المقدّر دلّته على “المفاتيح” التي شرّعت باب الحب، زهو الحياة ووجهها البشوش، تفيض به حينًا وتمسكه عن خريف العمر، فيغذّ الإنسان المحكوم بالعطش السير في طلب ذاك الحب الضائع، باحثًا عن تلك المرأة القادمة أبدًا دون أن تصل، في رواية “القادمة أبدا” .

مهما كانت الناحية التي تقرأ انطلاقا منها مسيرة غسان العميري، فإنّ هويّة هذا الرجل التي صقلتها تلاوين التجارب وتفرّعات دروب الحياة، استطاعت أن تحافظ على أصالة مرنة قابلة للتحديث ومنفتحة على الحداثة. فهو المحدّث الرائد في بيئته طبيبًا وكاتبًا ومفكرًا وأديبًا، وهو الذي اجتاز محرّمات التفكير وسقوفه الدينية والثقافية والاجتماعية ناقدًا لها بكل علمية وموضوعية.

”أنا أكتب بعقلية ومفاهيم معاصرة وخلفية علمية”، ولكنّه وبالرغم من تمايزه لم يحد عن ثابتة الأصل التي كان ولما يزل يعود إليها كذاك الطفل الذي كانه وما زاله، يقفل راجعًا إلى العميرية والهرمل، وهو الذي بالرغم من نقده اللاذع والمتقّد والجريء، إلا أنه يحتل مكانة رمزية فخرية ومرموقة بسبب حيازته احترام وتقدير كل من يعرفه، وهذا ما جعل منه قيمة ثقافية وأدبية في بعلبك الهرمل وفي لبنان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى