مستشفى بعلبك الحكومي.. أوضاع مزرية وإهمال يحاكي الانهيار
“أُداوم تطوّعًا لا أكثر. الراتب بات لا يشتري لي وجبة غداء، لكنني أشعر بالشفقة على هؤلاء المرضى، الذين لم يتبقَّ لهم سوى هذا المشفى، للرعاية الصحيّة”.. بهذه العبارات لخّصت م. ف. وهي ممرّضة في مستشفى بعلبك الحكوميّ، واقع المشفى المُتهالك، والمُتغاضى عن واقعه رسميًّا.
بالفعل، المستشفى كان نموذجًا وعيّنة عن الحقبة الذهبيّة لدولة المؤسّسات، لكنّه سرعان ما تدهور وضعه لاحقًا، ليصير نموذجًا حيًّا ومؤسفًا عن فشل السّياسات العامّة في هذه المدينة المنكوبة. ولا تقتصر الأزمات على تلك المرتبطة بالبُنى التحتيّة، وصولاً للتقسيم العشوائيّ للأقسام والغرف، الذي بدوره أثّر سلبًا على تنظيم المساحات الداخليّة، بل إنّ المشفى الذي أُهدرت أموالٌ طائلة في محاولات فاشلة لترميمه بواسطة مجلس الإنماء والإعمار، يبقى إلى الآن رهينة التجاذبات والمحاصصات السّياسيّة والعائليّة، ومركزاً “للتنفيعات” الحزبيّة والطائفيّة، مُهمل، وخارج خريطة الإنماء والتطوير كما هي المنطقة برمتها.
مستشفى بعلبك الحكومي
تاريخيًّا، كان مستشفى بعلبك الحكوميّ والذي تأسّس سنة 1956، مركزًا طبّيًّا ذا سمعة طيّبة، وبالتّمييز الطبيّ والحداثة النوعيّة، نال المشفى استحسان سكّان المنطقة، وذاع صيته بين جموع اللبنانيّين، خصوصاً بعدما باتت تجارب زراعة الأعضاء، عمليّات جراحيّة ناجحة، كانت الأولى على يدّ البروفيسور سنّو ولواند، (جراحة زرع قرنيّة عين، أوّل جراحة من نوعها في لبنان بحسب مصادر مُطّلعة)، وتفاعلاً مع هذا التفرّد، استقطب المشفى النخب الطبّيّة اللبنانيّة والأجنبيّة (العربيّة والأوروبيّة) من مختلف الاختصاصات. إلّا أنّ التدهور الطرديّ للمشفى، اُستهل بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 – 1990)، إذ عرف المشفى فترات صعبة من الإهمال والفوضى.
ومع تصاعد وتيرة التأزّم السّياسيّ والصراعات العشائريّة، فقد المشفى تدريجيًّا الإمكانيّة على البقاء، على جودة الرعاية الصحيّة المقدّمة نفسها، والخدمات شبه المجّانيّة، وتأثّرات الخدمات الطبّيّة، وسُحقت آمال الكادر البشريّ تحت عجلة الظروف الاقتصاديّة وتدنّي القدرة التشغيليّة.
تاريخيًّا، كان مستشفى بعلبك الحكوميّ والذي تأسّس سنة 1956، مركزًا طبّيًّا ذا سمعة طيّبة، وبالتّمييز الطبيّ والحداثة النوعيّة، نال المشفى استحسان سكّان المنطقة، وذاع صيته بين جموع اللبنانيّين
أما بُعيد الحرب، وفي منتصف تسعينيّات القرن الماضي، تمّ التوصل إلى اتّفاق مع قسم الطوارئ في الجامعة الأميركيّة لتولّي التعاقد والإشراف على إدارة مستشفى بعلبك الحكوميّ. وبالرغم من موافقة المستشفى على هذه الخطوة، إلّا أنّ المشروع واجه معاناة في النفاذ إلى الضوء، حيث تمّ رفضه في نهاية المطاف. وعلاوةً على ذلك، بدأت ظاهرة الفساد تظهر بوضوح في إدارة الأموال، حيث تمّ صرف أربعة ملايين دولار أميركي من قبل البنك الدوليّ لتنفيذ مشروع إعادة تأهيل المستشفى. ومع ذلك، كانت نتيجة هذه العمليّة غير المدروسة بشكل جيّد، سيّئة، ما أدّى إلى خطأ جوهري في هيكل المستشفى وتوزيعه.
وبينما كان من المتوقع أن يتبوّأ هذا المستشفى مكانة مرموقة كمرجعّية استشفائيّة في المنطقة، ويكون استجابةً للحاجات الطبّيّة العاجلة في منطقة بعلبك – الهرمل، حيث يُظهِر الواقع الصحّي في هذه المنطقة الحاجةً الملحة إلى إقامة مستشفى حكوميّ متطوّر ومجهّز بأحدث التقنيّات والمعدّات الطبّيّة لتلبية الاحتياجات الصحّيّة المتنوّعة والمتزايدة للمواطنين في هذه المنطقة المهمّشة، إلا أنّ هناك انخفاضًا ملحوظًا في مستوى التجهيزات الطبّيّة المتوافرة، وهذا يضعه في موقف تنافسي ضعيف مقارنةً بالمستشفيات الحكوميّة الأخرى، بل ويطرحه كحلّ أخير وغير مرغوب به مقارنةً مع المشافي الخاصّة. إذ بقي المشفى على حاله، مبنى رثًّا، وتجهيزات طبيّة شبه بدائيّة، ومرضى يتوجّسون التسجيل فيه خشية الإصابة بأمراض مضاعفة، لا سيما بسبب سوء البنى التحتيّة (أهّمها المتعلقة بالصرف الصحّيّ). هذا الوضع تفاقم مع انتشار جائحة كورونا.
الكادر البشريّ
ليس وحدهم المرضى من يُعانون اليوم من خسارة فرصهم بالاستمراريّة. بل كذلك موظفو المشفى وأجراؤه ومستخدموه ومتعاقدوه، إذ إنّهم حتى الآن يُكافحون باستمرار لنيل حقوقهم من إدارة المشفى المنهارة، فالرواتب التّي فقدت قيمتها مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة، بقيت على حالها، ولم يتمّ مضاعفتها أو فرض زيادات غلاء معيشة كما حصل في مستشفى رفيق الحريريّ، بحيث تمكّن الكادر التّوظيفيّ من انتزاع الزيادات تحت الضغط والتهديد والوعيد، فيما تتراوح المعاشات بين ثلاثة ملايين وعشرة على أقصى تقدير، كما يُشير أحد العاملين في المشفى.
بقي المشفى على حاله، مبنى رثًّا، وتجهيزات طبيّة شبه بدائيّة، ومرضى يتوجّسون التسجيل فيه خشية الإصابة بأمراض مضاعفة، لا سيما بسبب سوء البنى التحتيّة
وعلى منوال سائر المرافق الصحّيّة في لبنان، يُلاحظ تدنّي مُطرد في أعداد الموظّفين والأجراء والعاملين الصحّيّين، بحيث اضطر عددٌ منهم للانتقال من وظائفهم الرسميّة في القطاع العام، نحو تلك المتوافرة في المستشفيات الخاصّة والتّي تعاني بدورها من نقصٍ حاد في الكادر التوظيفيّ بُعيد جائحة كوفيد – 19، وما ترتّب عنها من هجرة للطواقم الطبّيّة والتمريضيّة إلى الخليج وأوروبّا.
وفيما يتعذّر إيجاد إحصاء للأعداد الرسميّة في مستشفى بعلبك الحكوميّ، إلّا أنّ مصدرًا مُطّلعًا في المشفى أشار إلى أنّ الأعداد في تضاؤل مزمن، بين تلك المهاجرة والأخرى التّي تنزح إلى بيروت، لإيجاد فرص أفضل. ناهيك عن الذين يقصدون للتوظّف في المشافي الخاصّة كدار الأمل، والتّي تقدّم رواتب وحوافز أفضل من تلك التّي لا تتجاوز المئة دولار في المشفى الحكوميّ.
يشابه وضع الكادر التّوظيفي بنكبته، وضع المشفى المأزوم، حيث يتجلّى تدهوره بشكل واضح، ويُحاكي مأزق المرفق الصحّيّ العام، إذ يفتقر إلى القدرة على تقديم العناية اللازمة للمرضى. ويتمثل هذا التدهور كذلك في انخفاض جودة الخدمات الطبّيّة والرعاية المقدّمة، حيث تمّ تقليص خدمات المستشفى بشكل كبير ممّا أثّر بشكل سلبيّ على الخدمات الطبّيّة الأساسيّة المتاحة.
وتزداد تأثيرات هذا التدهور مع نقص الأدوية والمستلزمات الطبّيّة المتاحة في المستشفى، ما يؤثّر في جودة العلاج وتنفيذ الإجراءات الجراحيّة. يجد المستشفى نفسه أحيانًا في وضع يستدعي تأجيل العمليّات الحرجة والتدخّلات الطبّيّة الملحّة. بالإضافة إلى ذلك، يعاني مشفى بعلبك الحكوميّ من نقص في الكادر الطبّيّ والتمريضيّ بسبب الظروف الاقتصاديّة الصعبة، حيث تشكّل صعوبات المعيشة وتراجع الرواتب والحوافز، عوامل تؤثّر على استقطاب الكفاءات الصحّيّة وتحفيزها على العمل في المستشفى.
فحال قسم الطوارئ، مثلاً، مُقلق للغاية، إذ إنّ القدرات التّشغيليّة شبه معدومة، لجهة توافر كادر بشريّ قادر على إتمام احتياجات أهمّ أقسام المشفى، بحيث يُشير المصدر الآنف الذكر إلى أنّ هذا القسم الذي يزوره يوميًّا عشرات المراجعين، يعاني من قصور حادّ في تلبية احتياجات المرضى كافّة بصورة سريعة ودقيقة. خصوصاً أن غالبيّة المراجعين هم من الفئات الهشّة اقتصاديًّا أو من اللاجئين، وبالتّالي تنبثق الحاجة لترميمه عمرانيًّا في المرتبة الأولى، لاستيعاب الأعداد الوافدة، وتخصيص ميزانيّة لإنعاشه وإنعاش موظّفيه من الأطبّاء والممرّضين.
معاناة المرضى
هذا الوضع المأزوم يسبّب تأثيرات سلبيّة أخرى، حيث تتبدّى أزمة القدرة الاستيعابيّة المحدودة للمستشفى في مواجهة تدفّق المرضى من جميع الجنسيّات. بالنسبة للمرضى اللبنانيين، يُعدّ نقص الأدوية من التحدّيات الكبيرة التي يواجهونها، إذ يجدون أنفسهم مضطرّين لشراء الأدوية من الخارج، في مقابل نقصها وانعدامها في المستشفى.
قسم الطوارئ الذي يزوره يوميًّا عشرات المراجعين، يعاني من قصور حادّ في تلبية احتياجات المرضى كافّة بصورة سريعة ودقيقة. خصوصاً أن غالبيّة المراجعين هم من الفئات الهشّة اقتصاديًّا أو من اللاجئين
تُزيد الفوارق في التغطية الصحّيّة والضمان الاجتماعيّ من تعقيد الوضع، حيث يتمّ دفع بعض الرسوم بالدولار الأميركيّ، ما يضيف عبئًا آخر على الجوانب الماليّة للمرضى. وفي سياق متصل، يواجه المرضى من اللاجئين السوريّين صعوبات إضافيّة في الحصول على الرعاية الصحّيّة، خصوصاً ممّن لا يكونون غالباً مسجّلين لدى المفوّضيّة. تترتب على هذا الوضع صعوبات إضافيّة في تكاليف العلاج والمستلزمات الطبّيّة، وتفاقم معاناتهم الصحّيّة والاستشفائيّة.
تعكس الحالة الراهنة بوضوح التحدّيات الجمّة التي يواجهها القطاع الصحّيّ في لبنان عمومًا، وفي منطقة بعلبك – الهرمل خصوصًا، وهي تنعكس بسلبيّة حادّة على جميع الجهات المشتركة في هذا الوضع الصحّيّ الحرج. تلك الأزمة ترجمتها تداعيات سلبيّة تؤثّر في مختلف المشاركين في القطاع الصحّيّ، سواء كانوا مرضى، أم أطباء وممرضين، أو مؤسّسات صحية مختلفة.