مصطفى جرادي.. الجرّاح والتشكيليّ من كتاب العلوم إلى ألف لوحة ولوحة
قاده إصرار ابن الفلّاح سليم عبدالله جرادي على متابعة تعليمه وشقيقه علي إلى أن يرسم كتاب العلوم (الأحياء) الصادر “حديثًا” سنة 1971 من الغلاف إلى الغلاف، توفيرًا لمبلغ 16 ليرة، لم يكن بإمكان العائلة أن تدفعها مرّة واحدة لكتاب يوازي في حينه سعر 16 كتابًا. منذ ذاك الحين صار مصطفى عبدالله جرادي رسّامًًا بالفطرة قبل أن يصبح طبيبًا ثمّ رسّاما محترفًا تفوق لوحاته اليوم ألف لوحة ولوحة.
يقودنا موقع التواصل الاجتماعيّ “واتس أب” إلى سؤال بات يلحّ عن فنّان غزير الإنتاج، يعرض مع إشراقة كلّ صباح لوحة جديدة، أو رسمة من تاريخ سابق أو عابر، ممهورة باسم د. مصطفى جرادي تواكب في مضمونها حدثًا يوميًّا، سياسيًّا أو أمنيًّا أو ثقافيًّا، أو تحيّة خاصّة يخفّف من خلالها ناشرُها ورسّامُها عن كاهل أصدقائه في مجموعة (غروب) “حوارات ثقافيّة” ممّن يتنافسون على نشر تحليلات سياسيّة ومقالات مطوّلة أو موضوعات ثقافيّة؛ نسأل فنعلم أنّه الطبيب وجرّاح العظام الدكتور مصطفى جرادي ابن بلدة معركة في قضاء صور.
نقصده حيث يسكن وزوجته الطبيبة أمل صليبي في محلّة قدموس المطلّة على البحر ومدينة صور وتتبع عقاريًّا إلى بلدة العبّاسيّة. من هناك يرصد البحر والطبيعة الخلّابة فيستشفّ وحيًا سرعان ما يغدو لوحة ثمّ تليها لوحة. ونسارع إلى سؤال بديهيّ: كيف لطبيب جرّاح معروف أن يجد وقتًا للرسم والتلوين والتنويع بين خيارات الزيتيّات أو المائيّات أو “الغواشيّات”، “الباستيل”، وأقلام الرصاص والفحم؟
يختار صديقنا أوقات الصباح الباكر لتنفيذ لوحاته ورسوماته “أنهض باكرًا، فأعدّ فنجان قهوة، وألجأ إلى الورق، لأبدأ “سكتش” ما، ربّما لفكرة عالقة بذهني من أمس، من الليل، أو لخبر صباحيّ أطّلع عليه من مواقع التواصل الاجتماعيّ، خربشات أولى ثمّ أقرّر منحاها، إذا كانت ستغدو لوحة زيتيّة، أو مائيّة أو سريعة بأقلام الرصاص أو أقلام الحبر الصينيّ، إنّ الوقت الصباحي الباكر هو من أفضل أوقات الرسم عندي، وهذا لا يمنع أن أرسم في خلال النهار أو المساء، أو في إبّان رحلة ما”.
لوحة المنصوري في “الإندبّندنت”
في مجزرة “إسعاف المنصوري” التي ارتكبتها الطائرات الإسرائيليّة بعد ظهر يوم 13 نيسان/ أبريل 1996 عند مفترق الحنّيةّ قرب مركز “اليونفيل”، نُقل المصابون والشهداء الستّة إلى مستشفيات صور.
يقول الطبيب جرادي: “كنت في مستشفى جبل عامل، في الغرفة المجاورة رسمت على غلاف صورة شعاعيّة الطفلة الشهيدة التي تدلّى رأسها من نافذة السيّارة، وبدا في جانب من الرسمة رئيس وزراء الكيان شيمون بيريز يحمل سكّينًا مخضّبًا بالدماء، وصودف وجود الصحافيّ البريطانيّ روبرت فيسك، مراسل “_الإندبّندنت_” لشؤون الشرق الأوسط في المستشفى، أخذ اللوحة منّي ونشرها في الصفحة الأولى في الإندبّندنت. حاولت في حينه أن أحصل على عدد الصحيفة لكنّني لم أوفّق، وكانت أوّل لوحة لي تنشر عالميًّا”.
مصطفى جرادي: أنهض باكرًا، فأعدّ فنجان قهوة، وألجأ إلى الورق، لأبدأ “سكتش” ما، ربّما لفكرة عالقة بذهني من أمس، من الليل، أو لخبر صباحيّ أطّلع عليه من مواقع التواصل الاجتماعيّ، خربشات أولى ثمّ أقرّر منحاها
بداية ترسم كتاب العلوم
نعود إلى بدايات الرسم عند الطفل مصطفى جرادي، إذ كان في حينه لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره (مواليد 1957)، يوم قرّر الوالد الفلّاح سليم عبدالله جرادي إنهاء تعليم ابنيه مصطفى وعلي، إذ لم يعد بمقدوره تحمّل نفقات التعليم، وأخبر زوجته بذلك، فردّت بأن يترك لها الأمر. “نادت أمّي علينا وأخبرتنا بقرار الوالد وأنّه يريدكما أن تتعلّما مصلحة ما، لكن، قالت أمي: إذا أردتما متابعة تعليمكما فعليكما نسيان أيّام الجمعة والأحد، وأيّام العطل على أنواعها، فهي أيّام ستكون للعمل كي تؤمّنا قسطًا من التعليم” يروي الطبيب جرادي.
ويتابع: “وهكذا صار، وبعد مدّة قال أبي أنّه سيساعد في أثمان الكتب على ألّا يتعدّى المبلغ المدفوع منه لقاء أيّ كتاب ليرة واحدة، وكنا نحن وأمي نتحمّل الباقي، إذ لجأت هي إلى الخبز على الصاج وبيع الأرغفة للجيران وأهل القرية، وزراعة الحقل بالخضروات الموسميّة وتربية الدجاج وبيع بيوضها. لكن ما كنّا لا نتوقّعه هو أن تصدر وزارة التربية كتابًا للعلوم (Science) عن المركز التربويّ للبحوث والإنماء بسعر 16 ليرة لبنانيّة، فجميع الكتب بـ16 ليرة وكتاب العلوم لوحده بـ16 ليرة، إنّه أمر كارثة، فماذا سنفعل؟”.
لجأ التلميذ مصطفى إلى زميله سعيد روميّه، وكانت عائلته مكتفية مادّيًّا “فذهبت إليه وطلبت استعارة الكتاب، فألحّ عليّ أن آخذه لأنّه لن يقرأ فيه، لكنّني أصرّيت على أن أستعيره، وقمت بنسخه كاملًا مع الرسومات وبخطّ جميل، من الغلاف إلى الغلاف، وقد أغرتني صوره الملوّنة فدقّقت فيها واحدة واحدة، وأوراقه الملساء البرّاقة. صرت أذهب إلى المدرسة أحمل دفتر العلوم، بينما يحمل رفاقي كتبهم، لاحظ أستاذي الدكتور هاني روميّه الأمر، فسألني وحكيت له، فأعجبته الحكاية وأخبرني أنّه بإمكاني اعتماد كتابي”.
“أجمل هديّة”
في آخر العام الدراسيّ سأل المعلّم تلميذه: “ماذا ستفعل بكتابك المرسوم؟”، فأجابه: “لا شيء”. عندها طلبه منه وقال: “اهدني إيّاه” فأهداه التلميذ مصطفى الدفتر الكتاب. بعد عشرين عامًا، وعودة الدكتور مصطفى جرادي إلى صور، متخصّصًا في جراحة وطبّ العظام، زاره أستاذه الدكتور هاني روميّه في عيادته يحمل هديّة في صندوقة خشبيّة أعدّها بنفسه، “وقال لي: يمكنك أن تفتحها عندما تصل إلى البيت، ولمّا فتحتها وجدت في داخلها دفتري الكتاب، الذي رسمته من عشرين عامًا، وكانت أجمل هديّة، ما زلت احتفظ بها حتّى اليوم، أيّ بباكورة رسوماتي”.
رسم بزيت الزيتون
أعجب الرسم مصطفى جرادي وقام في العام عينه 1971 برسم والدته زكيّة أحمد خليل بلوحة زيتيّة على قماش “الخيش” يعلّقها اليوم عند مدخل البيت، في غرفة الاستقبال، ورسم في الوقت عينه خاله الكاتب والمنظّر في الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ، صديق كمال جنبلاط، الدكتور خليل أحمد خليل مستخدمًا القماش عينه. يقول: “يوم رسمت أمّي وخالي لم أكن قد رأيت وأنا طفل لم أتجاوز الرابعة عشرة رسّامًا يرسم، أو كيف يرسم، ذهبت إلى صُور واشتريت علبة ألوان زيتيّة وريشة وحيدة، واستخدمت في الرسم زيت الزيتون، وكرّت بعدها السبحة”.
قادته هوايته في جمع الطوابع، من رسائل قادمة إلى القرية من مغتربين في الكويت وغيرها، إلى استبدال بعض لوحاته بطوابع أراد أن يحتفظ بها. بعدها بسنوات صارت لديه مجموعات كاملة أو شبه كاملة لطوابع لبنان وسوريّا ومصر والعراق وفلسطين وفرنسا وروسيّا والنازيّة، ناهيك بطوابع ذات مواضيع متعدّدة كالفراشات والزهور. لاحقًا “وبعدما صرت طبيبًا واستقرّ بي الأمر هنا استعدت بعض لوحاتي القديمة، بينما لم أتمكّن من استعادتها كلّها”.
خامات التجارب وحي يوحى
يؤمن الطبيب مصطفى جرادي، أنّ في كلّ بيت “ثمّة رسّامًا، لكن معظمهم رسّامون يفتقدون إلى ثقافة الرسم، بل إنّها موجّهة باتّجاه معيّن أو واحد. أزعل عندما أتلمّس خامات فنّيّة كبيرة عند شبّان يافعين ولا يريد أكثرهم أن يرسم إلّا عصفورًا على شجرة وتفاحة على غصن، للأسف لا يملكون رصيد التجارب التي عشناها، هم اليوم جيل “الدجيتال” الذي يعيشه أولادنا، الـ”أون لاين”، الانترنت، والتكنولوجيا الحديثة، فمن أين سيأتي الإلهام؟”.
نسأله عن المصادر التي تشكّل له نقطة بداية إلى لوحة كاملة بعد وقت وجيز؟ فيقول: “الخامات التي اختمرت لديّ خلقت عندي نوعًا من الرصد لكلّ شيء يحصل حولي، فتتولّد الفكرة، ولذا فإنّ أكثر لوحاتي ترتبط بحدث معيّن حصل، أو شخصيّة فنّيّة أو فكريّة أو أدبيّة رحلت، فألجأ مباشرة إلى الرسم، كي أعبّر عن حنيني، عن استنكاري أو عن حزني وحبّي”.
وما هي الخامات التي أشرت إليها؟
يقول: “لقد اعتمدت طوال حياتي مثل أبناء جيلي على الثقافة الفكريّة التي رافقتنا منذ الصغر ومطلع الشباب، من مطالعات الروايات وكتب الفلسفة والسياسة والتاريخ، خصوصًا بعدما عشنا التحوّلات جميعها، حتّى التعليم الكلاسيكيّ عايشناه، والثورات التحرّريّة في الجزائر واليمن ومصر وهنا وهناك وهنالك، إلى الفكر القوميّ واليساريّ والوطنيّ والعلمانيّ، وفي المقابل رأينا الثورات الدينيّة والمذهبيّة والأفكار التي لا علاقة لها بالإنسان والإنسانيّة والفكر الداعشيّ والتطرّف، كلّ ذلك شكّل لي مخزونًا يوحي لي بالمواضيع التي أختارها للرسم، ورؤية ما لا يراها آخرون”.
غزّة والجنوب وحي لوحات
يلاحظ متابعو الدكتور جرادي على مجموعات “واتس آب” منحى أعماله التشكيليّة المستلهمة من حرب غزّة وما يحصل في جنوب لبنان.
يقول: “منذ أحداث غزّة وحتّى اليوم رسمت أكثر من خمسين لوحة، كانت في البدايات تتضمّن انفعالاتي تجاه أولاد يبكون، مبلّلين بالدماء والقهر والهلع، ثمّ قرّرت أن أقلع عن ذلك بعيدًا عن الانكسار، فعدلت، خصوصًا بعدما عاينت هذا الصمود الجبّار لأطفال تحمّلوا الجوع والبرد والعواصف والطائرات التي لم تغادر أجواءهم منذ سبعة أشهر، أطفال غزّة لم ينتصروا بعد، لكنّهم لم ينكسروا وقد شاهدوا مقتل ذويهم وأفراد من عائلاتهم أو معظمها أو كلّها، لذلك لم أعد أرسمهم مكبّلين بالدماء، بل أرسم بالحبر الصينيّ أطفالًا من غزّة لا يصرخون أو يبكون، أرسم وجوههم البديعة الرائعة التي توحي بالانتصار، بوجوههم الجميلة”.
صارت القرى الحدوديّة التي تتعرّض هي الأخرى للعدوان المستمرّ منذ سبعة أشهر من أولى اهتمامات الطبيب الرسّام، “فأنا من مكاني وسط الطبيعة في قدموس، أرصد وأتابع أخبار الضيع الحدوديّة وقد صارت أسماؤها تتردّد يوميًّا في الإعلام، أسماء لم يكن يسمع بها أحد، كالضهيرة، اللبونة وغيرها من أسماء القرى الحُسنى، رحت أرسمها تباعًا، وقد بلغت حتّى اليوم 16 لوحة لقرى هي في قلب الحرب، على نحو: عيتا الشعب، حولا، يارون، مرجعيون، خربة سلم، إبل السقي، بليدا، عيترون، رميش، مروحين، رشاف، الهبّاريّة، كفرشوبا، الضهيرة، ميس الجبل والعديسة، وسأكمل”.
في الرصيد التشكيليّ
من جديد، نسأل الطبيب جرادي عن تقنيّات الرسم المستخدمة لديه وعن عالم لوحاته الكثيرة؟ فيجيب: “أنا أستخدم جميع التقنيّات في الرسم، الرسم الزيتيّ، الأكواريل، الغواش، الباستيل، الفحم، الحبر الصينيّ، أقلام الرصاص وغيرها، أنا أنحاز إلى الرسم الواقعي، وهذا يخيّم على جميع أعمالي”.
لا يميل الطبيب الفنّان إلى الرسم التجريديّ “أنا أعتقد أنّه أسهل الرسم، وأظنّ أنّه هروب من التعبير المباشر نحو التجريديّ. صارت لديّ أكثر من ألف لوحة، من مختلف الأحجام، وهناك عديد من الدفاتر الملأى بالأعمال المختلفة، وكيفما درت أرسم من دون توقّف”.
هو عالم الفنّان المبدع الذي يسعى إلى تحويل رصيده الكبير من اللوحات والمقتنيات إلى متحف دائم، “هنا في بيتي الذي أقيم فيه، وجعلته ملكًا أميريًّا غير قابل للبيع، صحيح أنّه سيكون لولديّ فادي (دكتوراه في الكيمياء) وداني (دكتوراه في الفيزياء) اللذين يعملان في الولايات المتّحدة الأميركيّة ويعيشان هناك بعدما تخرّجا من جامعة هارفارد، لكن لا أمل لي بعودتهما إلى هذه البلاد التي تلفظ أبناءها وخيراتها فيهم، لذا سأجعله متحف لوحاتي ومقتنياتي ومجموعاتي الطوابعيّة ومكتبتي الضخمة، سيكون من بعد أولادي لأحفادي أو لأيّ آخر من عائلتي”.
يوزع التشكيليّ الموهوب أعماله اليوم بين بيروت وقدموس والعيادة في صور، يشير إلى أنّه يحاول من خلال توزيعها أن يحميها “في ظلّ ظروف الحرب الدائرة، كي لا أخسرها كلّها في مكان واحد إذا ما تطورت هذه الحرب نحو الأعنف، وهذا ما فعلته بمجموعات الطوابع وعديد من الوثائق التاريخيّة التي أملكها”.
منحة للرسم صارت للطبّ
سنة 1975 وبعد إنهائه الشهادة الثانويّة التحق الطالب مصطفى جرادي بالخدمة العسكريّة الإلزاميّة في الجيش اللبنانيّ، وصودف أن “خدم” في نقطة ميناء مدينة صور، وحصل يومها أن غرقت باخرة كانت محمّلة بالطحين تتبع لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، وتحديدًا لحركة فتح، “زارنا يومها ياسر عرفات وأنّب الجميع على غرقها من دون أن يتنبّه أحد إلى ذلك، ثمّ أتتنا أوامر من قيادة الجيش بأن نخلي منطقة المرفأ من غير عناصر الجيش اللبناني، وعندما بدأنا بتنفيذ الأوامر حصلت مواجهة بيننا وبين عناصر حركة فتح التي استنفرت وطلبت بتوقيف 4 عناصر من الجيش لديها، وأنا واحد منهم”.
بعد ثلاثة أيّام، فرّ جرادي ورفاقه عبر البحر إلى قبرص ثمّ إلى مصر ومن هناك إلى ليبيا. بعد عدّة أشهر حضر إلى هناك الزعيم كمال جنبلاط، ونزل في فندق طرابلس الكبير. يقول جرادي: “حاولت مقابلته فمنعني محسن دلّول وكان برفقته، فنصحني أحد العاملين هناك أن أحضر في الصباح الباكر، حيث يمارس جنبلاط رياضته الصباحيّة لوحده، وهذا ما حصل، قابلته وحكيت له قصّتي، فقال: بما أنّك مجنّد، يعني أنّك أتممت علومك الثانويّة، هل تريد متابعة تعليمك؟ يمكنني أن أرسلك إلى موسكو لدراسة الطبّ أو ما ترتأيه، فوافقت، وذهبت بعد عدّة أشهر لدراسة الرسم في الاتّحاد السوفييتّي”.
تقدّم جرادي إلى امتحان الرسم ونجح، لكنّ عميدة الكلّيّة التحضيريّة هناك، نصحته بأن يدرس الطبّ، وقالت: “أنت أتيت لتتعلّم الرسم، لكنّك رسّام، اذهب وادرس الطبّ فتغدو طبيبًا ورسّاما ولن تموت بعدها من الجوع”.
تقدّم جرادي إلى امتحان الرسم ونجح، لكنّ عميدة الكلّيّة التحضيريّة هناك، نصحته بأن يدرس الطبّ، وقالت: “أنت أتيت لتتعلّم الرسم، لكنّك رسّام، اذهب وادرس الطبّ فتغدو طبيبًا ورسّاما ولن تموت بعدها من الجوع”.
على متن العودة والإبداع
في العام 1989 عاد مصطفى جرادي إلى مدينة صور، طبيبًا متخصّصًا في جراحة العظم “عدت والأجواء معقّدة جدًّا، الإسرائيليّون يحتلّون معظم المنطقة الحدوديّة، ويقصفون القرى والبلدات المحرّرة، عمليّات للمقاومة، وكلّ ما حولنا يغلي، وكان عليّ أن أكون مستنفرًا وفي حالة طوارئ دائمة، وعمليّات جراحيّة لا تتوقّف خصوصًا لطبيب متخصّص بجراحة العظام، فكنت لا أهدأ”.
تنقّل الطبيب جرادي في مهمّات طبّيّة متعدّدة، فتسلّم إدارة مستشفى صور الحكوميّ من العام 2000 إلى العام 2021، وعمل جرّاحًا في مختلف مستشفيات صور والجوار. وعلى رغم ذلك، لم يتخلّ عن نشاطه الثقافيّ، فتسلم إدارة “جمعيّة الأمل الثقافيّة” في مسقط رأسه معركة بين 1998 و2019، ورئاسة “حلقة الحوار الثقافيّ في لبنان” بين 2005 و2007 ويستمرّ عضوًا فيها حتّى اليوم، إلى تأسيس “رابطة أطبّاء صور” مع زملائه الأطباء. وبين نشاطه الطبّيّ الجراحيّ.
مع كلّ هذه المهام، ينكبّ صديقنا على كتابة مذكّراته تحت عنوان “صدفة” إذ ساهمت الصدف بتحوّلات جذريّة في مسارات حياته. وكان قد وضع سابقًا مسودّة كتاب يتضمّن مجموعة من لوحاته، ونصوصًا لخاله الكاتب الدكتور خليل أحمد خليل، ومسودّة كتاب آخر لم ينشر تحت عنوان: ” أيقونة الحرب مستشفى صور الحكومي خلال حرب تمّوز- آب 2006″.
وسط كلّ هذا، كانت حصّة الرسم مقدّسة عنده، فثمّة وقت يجب أو يوفّره لتحقيق هوايته التي بدأها بالصدفة والفطرة، واحترفها أكثر من 53 عامًا، ليتجاوز إبداعه اليوم ألف لوحة ولوحة.