“مطعم فيصل”.. نكهة المدينة ومطبخها الثقافي والفكري لعشرات السنين
“رائحة الموت والذكرى ومدينة تودّع أماكنها”.. لعلّ هذه المرثية التي كتبها المسرحي والصحافي عبيدو باشا عن مطعم فيصل لحظة إعلانه إغلاق أبوابه قبل ثمانية وثلاثين عاماً تصح اليوم. والمفارقة أن الكتابة عن المطعم لم تتوقف منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم أيضاً، إذ لا يزال مادة شهية للكتابة، التي انقسمت إلى شطرين، الأول كان أشبه بورقات النعي لحظة الإقفال، والثاني بعده تحوّل إلى نوستالجيا تحاكي تاريخ بيروت وذاكرتها ومعالمها التي اندثرت تباعاً ولم يبقَ منها شيء.
بالرغم من كل ما كتب عن “مطعم فيصل”، إلا أنه يبقى المكان الأكثر ثراء في سردية التحولات والمتغيّرات العميقة التي شهدها لبنان والمنطقة، على مدى أكثر من خمسة وستّين عامًا، حيث كانت تجري تلك التحولات في الخارج، وعلى طاولات المطعم الذي كانت تختلط فيه قرقعة السكاكين والملاعق والشوك، بالنقاشات الأيديولوجيّة، والطروحات الثوريّة، والأسئلة الكبرى عن مصير هذي البلاد والمسارات التي يجب أن تسلكها بين القوميّة العربيّة، أو الخيارات الأمميّة.
في ذاك المطعم، لم يكن المشهد سورياليًّا متناقضًا مع الواقع المحيط، إذ كان بعض روّاد المطعم من صنّاع المشهد السياسيّ والثقافيّ والإعلاميّ في لبنان والعالم المحيط، وحتّى الأمني العسكريّ في ما بعد، وكانت هناك لقاءات لشخصيّات مؤثّرة، مثل جورج حبش، الذي ساهم في تأسيس حركة “القوميّين العرب”، وازدادت يساريّة حين تحوّلت إلى “الجبهة الشعبيّة”، وصولًا إلى مرحلة اختطاف الطائرات مع وديع حدّاد وليلى خالد.
مطبخ الزعامات كتابًا
عنه يقول الصحافيّ اللبنانيّ سمير عطالله في مقدّمة كتاب يحمل اسم ذاك المطعم “مطعم فيصل” إنّه “تأسّس في مطلع عشرينيّات القرن الماضي، واستمر بدوره المتجاوز للطعام والشراب، حتّى أغلق أبوابه في العام 1985”.
منذ أسابيع قليلة، صدر كتاب “مطعم فيصل” لإيمان عبد الله، عن دار نلسن، في بيروت، كمحاولة للمحافظة على ذاكرة الناس في المكان، قبل رحيل الشهود على تلك الحقبات التي تبدّل فيها روّاد المطعم وتبدّلت طروحاتهم، بل وأطباقهم، بحسب الأجيال التي تعاقبت وما تمثّله من مواقع اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة مختلفة.
استندت ايمان عبد الله، إلى الكثير من الوثائق التي يحتشد بعضها في أرشيف الجامعة الأميركيّة في بيروت، حيث تعمل عبدالله في مكتبتها. وهناك مقابلات شخصيّة أجرتها الكاتبة مع شخصيّات مثل معن بشّور وبشارة مرهج وطلال سلمان وكرم كرم.
ما من شك في أنّ خصوصيّة “فيصل” تعود لأهمّيّة مركزه الجغرافيّ في شارع “بلسّ” مقابل مدخل الجامعة الأميركيّة، إذ كان المطعم امتدادًا لها، ولحصصها الدراسيّة. ولا يمكننا أن نغفل التصنيف البرجوازيّ لغالبيّة طلّاب الجامعة وأساتذتها، وبعضهم من العرب الذين ينتمون إلى كبرى العائلات الحاكمة، أو التي سوف تحكم، وهو ما حصل مع بعض روّاد المطعم ممّن احتلّوا مناصب عليا.
ساحة جدال
يبدو “مطعم فيصل” كنقطة التقاء لميسوري الأرياف، إذ كان محطة لبلورة شخصيّاتهم، وتمتين علاقاتهم، وتعزيز مكاناتهم الآنيّة واللاحقة. فها هو (الرئيس) كامل الأسعد على رأس طاولة، وقبالته على الطاولة الأخرى، يجلس أديب الفرزلي، أو (الرئيس) عادل عسيران، أو (الرئيس) أمين الحافظ وزوجته الأديبة ليلى عسيران. في مطعم فيصل جلس كذلك الإعلاميّون والأدباء ميشال أبو جودة، وسونيا بيروتي، ويوسف الخال، وكمال الصليبي، ورضا كبريت، وسيزار نمّور، وعبدالله أبو حبيب، ومحمّد قبّاني، وهاقوب دمرجيان.
أمّا الحلقة الأشهر، فكانت تلك التي يرأسها منح الصلح، وقد كان أشبه بمختار أو مستشار، وكان حينما يتحدّث وينظّر يرفع من مستوى الحوار، فيأخذ منحى جدال في بعض الأحيان، ويتحوّل المطعم إلى ساحة “أغورا” اليونانيّة القديمة، التي كانت مركز حوار يتشارك فيه المزارعون والفلاسفة والتجّار والسياسيّون. في تلك الساحة، ذات الشكل الدائريّ، كانت تقرّر السياسات الأساسيّة للمجتمع الإغريقي.
آل سعادة والأصل
تأسّس “مطعم فيصل” على يد توفيق سعادة، ومن بعده ابنه فريد، ويقال إنّ اسم فيصل يعود إلى لقب كان يحمله جدّ توفيق، يعني أنّه لا يحمل دلالة واضحة، أو قصّة مشوّقة، فـ”فيصل” كان مجرّد اسم لمطعم.
لم يتوقّع صاحبه أنّه سيكون جزءًا من التحوّلات المفصليّة التي شهدتها بيروت، والأقطار، التي لم يكن بعضها قد تبلور كبلد مستقلّ، ولإيضاح هذه الجزئيّة، يكفينا الذكر الأوّل للجامعة وقد كان “الكلّيّة السوريّة الإنجيليّة”، ليصبح “الجامعة الأميركيّة” التي أسّسها القسّ دانيال بلسّ، والذي سمّي الشارع باسمه.
أصالة شرقية
إذا ما تجاوزنا مساحة المطبخ، فنستطيع تقدير مساحة المطعم بـ 230 مترًا مربّعًا، تحوي طاولات وكراسٍ خشبيّة ثقيلة، “حادّة ومتينة، تذكّر بطابعه الذكوريّ” كما تذكر المؤلّفة، ليضيف الحفيد توفيق سعادة، “إنّ النساء لم يدخلن المطعم إلّا في أواخر الخمسينيّات، وبداية الستينيّات، مع العلم أنّ النساء دخلن الجامعة الأميركيّة باكرًا”.
كثيرة هي الأطباق التي كان يقدّمها “فيصل”، كانت بغالبيّتها شرقيّة وفق لائحة طعام مدروسة، ومختلفة عن مطاعم أخرى شهيرة، مثل “الأونكل سامز”، جار “فيصل” الذي طرح أطباقًا أكثر جرأة وانفتاحًا، بينما اهتمّت أصالة “فيصل” بالكبّة الأرنبيّة، وورق العنب، والصيّاديّة، والبامية بالأرزّ، والمغربيّة، والبرغل بدفين…
كثيرة هي الأطباق التي كان يقدّمها “فيصل”، كانت بغالبيّتها شرقيّة وفق لائحة طعام مدروسة، ومختلفة عن مطاعم أخرى شهيرة، مثل “الأونكل سامز”، جار “فيصل” الذي طرح أطباقًا أكثر جرأة وانفتاحًا.
يقول الوزير “الخياميّ” الأسبق كرم كرم: “كان صحن اليخنة بخمسة وثمانين قرشًا، وعايشتُ الاحتجاج على رفعه إلى مئة وعشرة قروش دفعة واحدة، لكنّ دماثة فريد فيصل، وسعة صدر أبو نجيب بارودي، وصرامة الأستاذ إميل شعيب، كلّها ساعدت على إخماد الثورة. على كلّ حال، حصلت الزيادة، والزبائن منشغلون بالانقلابات، مشاريع الانقلابات”.
صندوق بريد
من ضمن لائحة تمظهراته، المتخطّية كيانته كمطعم، كان “فيصل” صندوق بريد، خصوصًا لبعض الطلّاب العرب، فيودعون فيه رسائلهم، ويستلمون منه الردود ورسائل الأهل.
يقول النائب السابق بشارة مرهج: “في مطعم فيصل، كنت تحسب نفسك أحيانًا في رام الله، أو عمّان، أو دمشق، أو بغداد، نسبة إلى كثافة الحضور من هذا البلد العربيّ أو ذاك”. ويواصل شهادته في الكتاب، مستطردًا نحو الأجواء المحيطة بالمطعم، “حيث صالة الألعاب التي يديرها “آرام”، بينما يتكفّل “جرداق”، و”مايك”، و”سفر” بحلاقة شعر الشبّان، في حين تخصّص “بخعازي” بالوجبات السريعة، بينما تفرّد “أنيس صابر” بالفلافل الشهيّة دون سواها”.
نهاية مرحلة
بعد 38 عامًا على إغلاق ذلك المطعم الشهير، لا يمكن المراقب تناول الأمر من زوايا تجاريّة بحتة، حيث نتنبّه اليوم لمؤشّرات تلك المرحلة في منتصف الثمانينيّات، بعقائدها التي راحت تغلق تباعًا لتتولّد نماذج أخرى، ليست أحسن بالضرورة، لكنها أقرب ما يكون إلى اللّامبالاة، مع إعطاء حيّز أوسع للذات ومتطلّباتها، من دون الذوبان بالأفكار الجاهزة. لا لم يُغلق “فيصل” بصفته مطعمًا، بل بقي ساحة “أغورا” التي تقلّصت، وضاقت بها العاصمة.
مهلًا، هل أخبرناكم أنّ “ماكدونالدز” هو من ورث المكان؟