معاناة أبناء الأطراف إلى ازدياد.. نقص التمويل سببًا
تعيشُ فئة كبيرة من اللبنانيّين راهنًا، ظروفًا معيشيّة واقتصاديّة وأمنيّة صعبة، حتّى باتت أبسط الأساسيّات الحياتيّة مفقودة، فيما تلعب الدّولة دور المتفرّج والمنتظر لفرج لن يأتي قريبًا، طالما لم تسر خطوة باتّجاه إيجاد الحلول. وكلّما اتّجهنا نحو الأطراف، حيث المناطق المهمّشة والمحرومة ساء الوضع أكثر. إذ يصعب هناك تأمين قُوت اليوم الواحد، فما بالك بتأمين الطبابة والاستشفاء والتّعليم؟ وما فاقم الوضع أكثر توقّف منظّمات غير حكوميّة محلّيّة ودوليّة عن تنفيذ مشاريع الدعم التي يستفيد منها الناس، وخفض تمويل بعض المشاريع الأخرى.
في هذا التحقيق، نحاول في “مناطق نت” تسليط الضّوء على واقع الأزمة الطّارئة، تبعاتها وأثرها السلبيّ على المجتمعات المحلّيّة النائية والفقيرة.
أزمات عنيفة ومتراكمة
في السنوات الخمس الأخيرة، احتاج لبنان إلى دعم المنظّمات الدوليّة بفعل الأزمة الاقتصاديّة والنقديّة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد، وانفجار مرفأ بيروت أو ما أطلق عليه “بيروتشيما” تشبيهًا بـ”هيرُوشيما”، وجائحة كوفيد-19 والنزوح السوريّ الذي دخل عامّه الـ14، وتدهور الوضع المعيشيّ لغالبيّة اللبنانيّين أكثر بسبب ظروف البلد غير المستقرّة.
كلّما اتّجهنا نحو الأطراف، حيث المناطق المهمّشة والمحرومة ساء الوضع أكثر. إذ يصعب هناك تأمين قُوت اليوم الواحد، فما بالك بتأمين الطبابة والاستشفاء والتّعليم؟
هذه الأزمات العنيفة التي تتراكم تبعاتها على مرّ السنين، فاقمت التحدّيات التي تواجهها المنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة والمحلّيّة على حدّ سواء، كونها في الأصل، تعمل في عدّة قطاعات تعاني ضعفًا وقصورًا وإهمالًا مقصودًا من قبل المعنيّين، أبرزها التعليم والصحّة والزراعة والصناعات الغذائيّة والبنى التحتيّة وغيرها كثير، ولأنّ مثل هذه المساعدات تتطلّب نفسًا طويلًا واستمراريّة حتّى الوصول إلى مرحلة التعافي، فباتت التحدّيات صعبة ومضاعفة.
وهذا ما أكّدته أحداث الأشهر الأخيرة، حين توقّفت بعض المنظّمات عن تنفيذ مشاريعها في لبنان. إذ بدأ الحديث مع بداية العام الجاري، عن أنّه ثمّة تخفيض عالميّ لتمويل المشاريع الإنسانيّة في لبنان، وبأنّ المانحين الدوليّين عمدوا إلى تقليص حجم التمويل المخصّص لمنظّمات الأمم المتّحدة أيضًا، ونتيجة لذلك أوقفت بعض المنظّمات الحكوميّة وغير الحكوميّة مشاريعها في لبنان.
تواصلنا في “مناطق نت” مع أكثر من جهة عاملة مع منظّمات غير حكوميّة، خصوصًا في الأطراف، وأفادت بصحّة الأخبار التي تحدّثت عن توقّف بعض المشاريع الإنسانيّة وإنهاؤها كلّيًّا لأسباب غير معلنة، حتّى تلك التي كانت لا تزال قيّد التنفيذ، كما تمّ تخفيض التمويل في مشاريع أخرى بعدما أعيد تقييمها كروتين على حدّ تعبير البعض، في حين لا تزال مشاريع مستمرة حتّى العام 2026، فيما أخبرت إحدى الجمعيّات موظّفيها أنّها ستنهي أعمالها في لبنان في نهاية العام 2025، وذلك بالتزامن مع بدء الحرب على غزّة تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي.
هذا ووصلت نسبة الفقر متعدّد الأبعاد بين اللبنانيّين إلى 82 في المئة، في وقت يرزح فيه 32 في المئة تحت فقر مدقع، وفق ما جاء على لسان وزير الشؤون الاجتماعيّة في حكومة تصريف الأعمال هكتور حجّار، نيسان/ أبريل الماضي. علمًا أنّه لا يمكن إغفال تبعات الحرب في الجنوب والتي طالت نقاطًا محدّدة في البقاع أيضًا.
وصلت نسبة الفقر متعدّد الأبعاد بين اللبنانيّين إلى 82 في المئة، في وقت يرزح فيه 32 في المئة تحت فقر مدقع، علمًا أنّه لا يمكن إغفال تبعات الحرب في الجنوب والتي طالت نقاطًا محدّدة في البقاع أيضًا.
شبهة فساد؟
أسباب بالجملة يتحدّث عنها العاملون في هذا المجال، سياسيّة وتنمويّة، كتوجيه المنظّمات الأمميّة دعمها إلى غزّة بدلًا من لبنان، واحتمال إيقاف تمويلها بسبب الحرب الحدوديّة في جبهة الجنوب اللبنانيّ (كعقاب للبنان)، كذلك بسبب عدم التزام الدولة اللبنانيّة بالإصلاحات المطلوبة والإجراءات المتّخذة بحقّ اللاجئين السوريّين، لا سيّما بعدما شهدنا التضييق الممارس عليهم راهنًا.
“حسبما نعرف تمّت إعادة النظر في كيفيّة صرف الأموال وعلى أيّة مشاريع، وحتّى طرق الدفع ومواعيدها، باختصار الموضوع خلفه شبهة فساد”، يقول مدير أحد المشاريع في جمعيّة محلّيّة لـ”مناطق نت” ويضيف: “من المؤكّد أنّ هناك تغييرًا في أشكال ومدد العقود وطرق تعاطي المنظّمات الدوليّة مع كثير من هيئات المجتمع المدنيّ، لكن لن يتوقّف الدّعم الماديّ، لا سيّما أنّ هناك تأكيد دوليّ على إعطاء لبنان فرصة إضافيّة لإقرار الإصلاحات”.
لكن، وبعيدًا من التكهّنات، لا شيء مؤكّد حتّى الآن، إذ ليس هناك تصريح دقيق وواضح، ولا يمكن اعتبار أيّ سبب من التي تمّ ذكرها على أنّه أمر ثابت وموحّد، فلكلّ منظّمة دوليّة حكوميّة وغير حكوميّة أجندتها وأولويّاتها التي تعمل على تنفيذها، وبالتالي فإنّ الإجابة مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
ما يهمُّ الآن، هو أنّ الفئات المتضرّرة كثيرة، أوّلها المجتمعات المحلّيّة الفقيرة التي كانت تتلقّى الدّعم، العاملون في هذا المجال، بسبب غياب الاستقرار نسبيًّا، واللاجئون السوريّون الذين يستفيدون من هذا الدعم. علمًا أنّ المساعدات التي يتلقّونها من مفوضيّة اللاجئين لا تزال مستمرّة.
وكان حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري ونائب حاكم مصرف لبنان بشير يقظان قد شاركا في اجتماعات صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ في واشنطن، منتصف نيسان الماضي، ما اعتبره البعض نقطة إيجابيّة تجاه عودة الدعم كما في السابق، في حين يرى متابعون كثر أنّ هذه المشاركة بلا جدوى، وهناك من يريد إيهام الناس بأنّه ثمّة تحاور مع المجتمع الدوليّ لإخراج لبنان من أزمته.
الناس مهملة ومتعبة
“بعد توقّف المنحة، نقلت بناتي إلى مدرسة جديدة أقلّ كلفة، 50 دولارًا على كلّ واحدة منهما” تقول بسيمة ضاهر، وهي ربّة منزل وأمّ لطفلتين مانيسا (13 سنة – صفّ سابع) ومريم (9 سنوات – صفّ ثالث)، من منطقة الصويري في البقاع الغربيّ.
وتضيف في حديث لـ”مناطق نت”: “كانتا تدرسان في إحدى المدارس الخاصّة في البقاع، من خلال منحة حصلتا عليها من جمعيّة فاعلة هنا هي جمعيّة “الإنماء والتجّدد”، لكنّها توقفت هذا العام لأسباب قيل لنا إنّها ماليّة”.
ولأنّ الظروف المعيشيّة صعبة جدًّا، لم تتمكّن بسيمة من دفع الكلفة الدراسيّة المرتفعة للطفلتين في مدرستهما السابقة، تقول: “زوجي عسكريّ، وراتبه منخفض جدًّا، لا يكفي لشراء حاجاتنا الأساسيّة. فكيف لنا أن ندفع أقساط مدرسة خاصّة؟”. علمًا أنّ الطفلتين تأثّرتا كثيرًا بفعل هذا التغيير وتأقلمتا بصعوبة في المكان الجديد، لا سيّما أنّ فترة التدريس بعد الظهر من الساعة الواحدة وحتّى السابعة والنصف مساء. وهو أمر مستجدّ بالنسبة لهما.
وعلى هذا المنوال، ثمّة طلاب كثر، فقدوا منحهم الدراسيّة هذا العام، بسبب نقص التمويل الذي تعاني منه جمعيّات محلّيّة عديدة. تروي فدوة اللويس، وهي والدة التلميذتين ملاك ولجين اللويس من منطقة برّ الياس البقاعيّة لـ”مناطق نت” كيف اضطرّت إلى نقل طفلتيها إلى مدرسة أخرى أقلّ كلفة وقريبة من المنزل بعد توقّفت المنحة.
وتضيف: “زوجي سائق تاكسي والكلفة المعيشيّة مرتفعة جدًّا، لم نتمكّن من دفع رسوم التسجيل العالية، وليس لدينا أيّ فكرة إن كنّا سنحصل على المنحة مجدّدًا في وقت قريب أو لا”. وتختم “تأقلمتا راهنًا ولكن بصعوبة”.
الجمعيات المحلية تئنُّ
“كنّا نؤمّن دفع تكاليف تعليم ما بين 500 إلى 550 تلميذًا ممّن لديهم تسرّب مدرسيّ، عبر إجراء دورات تعليميّة وتدريبيّة لتأهيلهم قبل دخول المدارس الرسميّة، أمّا هذا العام فلن نتمكّن من تخريج سوى 100 إلى 120 تلميذًا فقط، بعدما انخفض التمويل إلى الثلث تقريبًا” يقول مدير البرامج في جمعيّة “الإنماء والتجدّد”، وهي جمعيّة لبنانيّة غير ربحيّة، تأسّست العام 2003، تُعنى بتقديم خدمات اجتماعيّة مختلفة في البقاع، المهندس علي اللويس. يذكر أنّ هذا المشروع يتمّ بالتعاون مع اليونسيف.
ولا يقتصر الأمر على التعليم إنّما يتخطّى ذلك بكثير، ففي مراكز الرعاية الصحّيّة التابعة للجمعيّة نفسها، ارتفعت كلفة المعاينة من نحو 30 ألف ليرة إلى 400 ألف ليرة لبنانيّة، للأسباب نفسها وكذلك تدنّى حجم المساعدات الدوائيّة المقدّمة من جمعيّات دوليّة.
من جهتها، تشكو أمّ عبدو الحجيري التي تقطن في عرسال (البقاع الشماليّ) ارتفاع كلفة طبابة ابنها الذي تمّ تشخيصه بزيادة في كهرباء الرأس قبل مدّة، وتقول لـ”مناطق نت”: “ارتفعت المعاينة الطبّيّة في المركز الإسلاميّ الذي أقصده في علاج ابني، من 5 ألاف إلى 150 ألفًا، للطّبيب المتخصّص” وتضيف “كنّا نحصل على الدواء من منظّمة أطبّاء بلا حدود ولكن في الفترة الأخيرة لا يكون متوافرًا في غالب الأحيان”.
هذا ويعاني الأطبّاء، كما المرضى، من انخفاض بدل اتعابهم، ففي حسبة بسيطة نجد أنّ بدل أتعاب الطبيب في عمله ليوم كامل في المركز الصحّيّ كان يبلغ 60 دولارًا (دولاران عن كلّ مريض/ 30 معاينة يوميّة) فيما يتقاضى راهنًا، حوالي 10 دولارات فقط نتيجة خفض بدل الأتعاب التي يتقاضاها، وهي لا تكفي راهنًا، كلفة تنقّلاته من وإلى المركز حيث يعاين المرضى.
يحصل هذا الأمر في وقت تمارس فيه الوزارات المعنيّة دور المتفرّج، بسبب عدم قدرتها على سدّ هذه الفجوة التي أحدثها نقص التمويل.
المشاريع الخاصّة أيضًا
يروي المهندس علي اللويس كيف تأثّرت الجمعيّة المذكورة التي تدير مجموعة مؤسّسات ومراكز تقدّم خدمات متنوّعة بشكل كبير، حيثُ اضطرّت إلى خفض عدد الموظّفين والعاملين وسط مخاوف من الإقفال لاحقًا في حال ساء الوضع أكثر.
وكذلك طال نقص التمويل المصالح الخاصّة والناشئة، الذين كانوا يتلقّون الدّعم التقنيّ والماليّ من المنظّمات الدوليّة “أنا كصاحب مؤسّسة خاصّة ناشئة تأثّرت بشكل غير مباشر، بسبب انخفاض الدعم الذي كنت أحصل عليه لضمان فعاليّة واستمرار العمل” يختم اللويس.