معرض التشكيلية فاطمة مرتضى: ثورة بصرية بالخيط والإبرة

تعود التشكيليّة فاطمة مرتضى كي تشاكسنا في معرضها الجديد “حياة خياليّة” في صالة “إل تي” في الأشرفيّة. على عادتها في كلّ مرّة تطلّ فيها على المتلقّي، حاملة رموزها الغرائبيّة، ومفارقاتها المتعاركة مع البديهة، وهذه المرّة يبدو العراك هو الثيمة الجامعة بين اللوحات المصاغة بالأبيض والأسود، مع خرق جزئيّ بالألوان هو أشبه ما يكون بصدمة الجملة الأخيرة من قصيدة الهايكو.
هذه الأعمال الفنّيّة هي شهادة حيّة على تمرّد لونيّ وجرأة مبدع يمتلك رؤية تتخطّى حدود المألوف، تتجلّى في كلّ تفاصيلها رغبة عميقة في تخريب جماليّ يختبر حدود الإبداع ويعيد تعريف ماهيّة الفنّ. من اللحظة الأولى، تصدم الأعمال العين بجرأة واضحة، وكأنّها ثورة بالخيط والإبرة، دعوة صامتة لكنّها صاخبة لإعادة التفكير في معايير الجمال والفنّ، يذكر أن الخياطة من أدوات مرتضى التي استخدمتها في لوحات سابقة.
المواد غير التقليديّة المستخدمة ليست مجرّد اختيار بصريّ، بل هي رسالة فلسفيّة تنبض بالمعنى. استبدال الألوان بالحياكة يخلق تمرّدًا على الأدوات الكلاسيكيّة، حيث يتحوّل الخيط إلى عنصر إبداعيّ يحمل في طيّاته استنهاضًا للروح الطفوليّة المرتبطة بالإحساس الفطريّ والبساطة العميقة. الحياكة هنا تتجاوز دورها التقليديّ لتصبح وسيلة للتعبير عن حكايات النساء، واستحضارًا لرمزيّة المرأة كلبنة أساسيّة في تشكيل الحكاية الإنسانيّة، إنّما بكامل عفويّتها، مثل تلميذ يتلذّذ بخروج قلمه عن السطر.
تقديد الأسئلة
في أعمال فاطمة مرتضى، يبرز التناقض كقوّة دافعة للإبداع. القسوة الظاهرة في تفاصيل الرؤوس التي تظهر بمجملها من زاوية عليا، ملتقطة بعين الصقر، تهدف إلى توريط المشاهِد وتدفعه إلى مواجهة تساؤلات وجوديّة حول الحياة والموت، الفناء والخلود. إنّها أعمال تخلق حوارًا بين المشاعر، حيث تلتقي الرهبة مع الحميميّة، ويصبح الجمال امتدادًا للألم.، أو هي جدليّة “اليينغ يانغ”، حيث يتداخل الشرّ بالخير، والخير بالشرّ.

التخريب الجماليّ هنا ليس تدميرًا للمعايير، بل إعادة تشكيلها من جديد. تتحدى مرتضى الأعراف السائدة وتنتج لغة بصريّة نابضة، تجمع بين الدراما الصارخة والتأمّل العميق. كلّ عنصر في العمل يسهم في إثارة العقل والعاطفة، ليصبح المشاهد شريكًا في رحلة حسّيّة وفكريّة تتجاوز حدود اللوحة، ومع ذلك لا تبدو مرتضى ا\أنّها عابئة بآراء الجمهور أو النقّاد، بل كلّ ما في الأمر أنّها تقتطع كتلة من صخبها وتنشرها على حبال الشرفة بغية تجفيف هواجسها، أو ربّما هو تقديد لأسئلتها.
أصابع ناطقة
ما يميّز مرتضى هو تأثّرها بالمشهد الفنّيّ المعاصر الذي نهلته من دراستها في المملكة المتّحدة. لقد شكّل هذا التأثير نقلة نوعيّة في نهجها الإبداعيّ، إذ استلهمت منه التحرّر من القيود الأكّاديميّة التقليديّة وتبنّي تقنيّات هامشيّة تتّسم بالجرأة والانفتاح على المواد غير المألوفة. هي لا تعمل ضمن نطاق المنطق العاديّ؛ بل تتجاوز ذلك إلى استكشاف موضوعات تتّسم بالغموض والغرائبيّة، مثل الأساطير التي تحتلّ مكانة مركزيّة في مشروعها الفنّيّ.
في مشروعها الأخير، تحافظ مرتضى على بصمتها الإبداعيّة المعهودة، لكنّها تُحدث تحوّلًا جذريًّا في أبطال لوحاتها، فتُكرّس الأصابع لتكون العنصر المحوريّ، رمزًا للتفاعل الإنسانيّ والعراك الوجوديّ. تستحضر هذه الأصابع في أعمالها حركة ديناميكيّة تعكس صراعًا داخليًّا وخارجيًّا، في ثيمات تجسّد العراك كعنصر مركزيّ. تتّسم هذه اللوحات بمزيج من التباينات البصريّة الحادّة، فتطغى ظلال الأبيض والأسود، وتخلق أجواء دراميّة تشدّ الانتباه، من دون أن تفقد العمل حسّه الحداثيّ، الحركيّ.
في مشروعها الأخير، تحافظ مرتضى على بصمتها الإبداعيّة المعهودة، لكنّها تُحدث تحوّلًا جذريًّا في أبطال لوحاتها، فتُكرّس الأصابع لتكون العنصر المحوريّ، رمزًا للتفاعل الإنسانيّ والعراك الوجوديّ.
أيقونات ملوّنة
ما يميّز هذه الأعمال هو إدخال عناصر بصريّة صغيرة وملّونة بأسلوب طفوليّ؛ مثل دمى، سيارات صغيرة، أو حتّى صورة حمار بسيط. هذه الإضافات ليست مجرّد تفاصيل عشوائيّة، بل هي استنهاض للروح الطفوليّة داخل الأعمال، تضفي على المشهد طابعًا ساخرًا وتأمّليًّا في الوقت نفسه. هذا التلاعب بين الجدّيّة والطفولة يفتح أفقًا جديدًا للتفاعل مع اللوحة، فتتحوّل الرموز العفويّة إلى أيقونات دلاليّة تعبّر عن براءة مفقودة وسط صراع الحياة وتعقيداتها.
يمنح هذا المزج أعمال مرتضى قوّة سرديّة تعيد تشكيل العلاقة بين المشاهد واللوحة. بقدرتها على تفكيك الجماليّات التقليديّة وإعادة صياغة الرموز اليوميّة بأسلوب مبتكر، تُثبت مرتضى أنّها قادرة على خلق عوالم تشكيليّة جديدة، تستحضر الماضي والخيال لتتفاعل مع الحاضر بطريقة أصيلة وغير مألوفة.
“كلمات ليست كالكلمات”
في أعمالها الأخيرة، تضيف فاطمة مرتضى بُعدًا جديدًا إلى لوحاتها من خلال إدخال عبارات شعبيّة عفويّة مثل “حنّا السكران”، “ليلة القبض على فاطمة”، و”كلّن عندن سيّارات وجدّي عندو حمار”، إلى جانب عبارات مماثلة مكتوبة بالأحرف اللاتينيّة.
هذا النهج يُعيد صياغة العلاقة بين النصّ والصورة بشكل معاصر، حيث يتداخل النصّ مع العناصر البصريّة دون أن يطغى عليها. يُذكّر هذا الأسلوب بأساليب الفنّ الغرافيكيّ والرسم الصحفيّ، لكنّه يحتفظ بخصوصيّته من خلال الطابع الشخصيّ والحميميّ للنصوص. الأحرف تُكتب بعفويّة، لكنّها تظلّ مدروسة لتُسهم في بناء حوار مفتوح مع المتلقّي، يجعل العمل الفنّيّ نابضًا بالحياة ومشحونًا بالمعاني.
من خلال هذا التكامل بين النصّ واللون، وبين العبارة الشعبيّة والصورة الرمزيّة، تعيد مرتضى تقديم فنّ الرسم كمساحة مفتوحة تتحدّى التصنيفات. إنّها توظّف الكتابة ليس فقط كعنصر جماليّ، بل أيضًا كوسيلة لسرد حكايات صغيرة، تُشرك المشاهد في قراءة بصريّة ونصّيّة تعكس روح الحياة اليوميّة، وتحمل في طيّاتها تمرّدًا على النمطيّة. هذا الأسلوب يجعل أعمالها تلامس الذاكرة الجمعيّة، بينما تظلّ محافظة على بصمتها الحداثيّة والمتفرّدة.
هذا المزج بين النصّ والصورة لا يأخذ العمل الفنّيّ إلى خانة فنّ الحروفيّة التقليديّ، بل يقترب أكثر من عوالم الرسم الصحفيّ، إذ تصبح العبارات بمثابة شروحات مرافقة تُثري العمل وتمنحه طابعًا سرديًّا، ولو أن الفنّانة لا تبتغي تقديم أيّة شروح، بل تجهد لتشويش المعنى على المتلقّي.