من “الحواكير” إلى شوارع بعلبك نساء يكدحنَ لتأمين قوت عيالهنّ
تقصد وضحة حسن وهي مزارعة من بلدة شعت البقاعيّة، مدينة بعلبك لتبيع نتاجها من الأرض التي اهتمّت بها وزرعتها شهورًا طويلة، تحصدها من حديقة منزلها التي لا تتعدّى مساحتها 400 متر مربّع. تحمل معها الخضراوات الصيفيّة والشتويّة وتقصد المدينة ليوم واحد في الأسبوع بسبب كلفات النقل التي لا يمكن تغطيتها من أرباح البيع. تقول وضحة لـ”مناطق نت”: “أزرع الحديقة لنأكل من نتاجها، ونطعم منها الأقارب والجيران، ثمّ أبيع للناس كي أعوض بأثمانها طعامًا لا نملكه أو بعض الاحتياجات الضروريّة”.
لأنّ عملهن هو قوت يومهنّ، يفترشن الرصيف أمام المتاجر في بعض أحياء مدينة بعلبك وشوارعها، بالقرب من مبنى السراي الحكوميّ القديم. يستأذنّ من أصحاب المحال لاستعارة كرسيّ يخفّف من تعب الوقوف، ويضعنَ بجانبهنّ إنتاجهنّ من الخضراوات والفواكه والألبان والأجبان، هنا بقدونس ونعناع وفجل وخسّ على أنواعه، وهناك الصعتر والكرافس والفراولة والفول والهندباء والسلق والسبانخ.
ينتظرنَ المارّة، إذ قلّما يعبر أحدهم من دون الاستفسار عن أسعار خضرواتهنّ النظيفة والمرويّة بمياه نقيّة. وعلى رغم أنّ الأسواق في المدينة مليئة بالمنتجات والمأكولات الزراعيّة كتلك التي يبعنها، لكنهنّ على ثقة أنّ منتوجاتهنّ مختلفة، نظيفة، رائحتها طيّبة. يدركن ألّا مثيل لها في الأسواق من جهة، وهنّ على قناعة من جهة ثانية أنّ الرزق على الله وأنّه لن يخذلهنّ، حتى لو كان “الرزق لا يكفي”.
لأنّ عملهن هو قوت يومهنّ، يفترشن الرصيف أمام المتاجر في بعض أحياء مدينة بعلبك وشوارعها، بالقرب من مبنى السراي الحكوميّ القديم
حكايات حزينة
تنحدر غالبية هؤلاء النسوة من قرى مشهورة بالزراعة، كبلدة شعت وضواحيها، وبعضهن يحملنَ الجنسيّة السوريّة وينحدرن من بلدة المعرّة على الحدود اللبنانيّة السوريّة. جميعهنّ ربّات أسر، يحببنَ عملهنّ ويفتخرنَ به، على الرغم من أنّ لبعضهنّ حكايات مؤلمة حزينة، إذ لم يخترن العمل بل هو اختارهنّ، لصعوبة الحياة وظروفهنّ المعيشيّة الصعبة.
تحكي وضحة حسن لـ”مناطق نت” عن معاناتها ومعاناة زوجها في جمع الأعشاب البرّيّة كالهندباء والخبّيزة وجميع نباتات السليق، والزهورات البرّيّة كالصعتر (الزعتر) من الجرود والبابونج، والقرّة والجرجير من حوافي السواقي والأنهار، وما يحمله هذا الجمع من عناء شديد وتعب.
لم تختر وضحة هذا العمل بإرادتها، هي التي تبلغ اليوم من العمر ما يناهز 58 عامًا، وزوجها سوريّ الأصل، كان موظّفًا في شركة تسويق الأدوات الطبّيّة في سوريا، تقول: “كنت أسكن في اللاذقيّة، وكان وضعنا المعيشيّ مستورًا، لكنّنا تعرّضنا لانتكاسة بعدما توفيت ابنتي وترك زوجي عمله هناك، فأتينا إلى لبنان حيث ساءت أوضاعنا وأحوالنا المادّيّة والصحّيّة، فأنا وزوجي نعاني من الضغط والسكّريّ والديسك والدهون ومن الأعصاب، وبحاجة إلى تأمين الدواء بشكل دائم”.
مهنة العمر
حديقة وضحة غنيّة بأنواع مختلفة، ففضلًا عن الخضراوات، زرعت الورد الجوريّ المختلف الألوان، تقطفه وتصنع منه باقات وتحمله معها إلى مدينة بعلبك لعلّها تبيعه وتستفيد من ثمنه في تأمين لقمة عيشها. تتابع وضحة: “قضينا عمرنا نعمل في هذه المهنة، في بيروت أمضينا 13 عامًا نعمل فيها، وفي بعلبك أعمل هنا منذ 10 سنوات، لكنّ هذه المهنة اليوم لا تعيل، لكنها وفق المثل القائل “بحصة بتسند خابية”، فتؤمن لنا بعض متطلّبات العيش والاستمرار”.
تختم وضحة: “تقدّم زوجي بالعمر وصار يعمل بشكل متقطّع، أحيانًا في تشذيب الزيتون، ولا يطلب مبلغًا معيّنًا لقاء تعبه، ولو كان المبلغ الذي يأخذه أقلّ من ممّا يستحقّ. أمّا أولادي فهم يعملون أيضًا ولكنهم يتعلّمون ويدفعون أقساط جامعاتهم ومعاهدهم، وهم أيضًا ترهقهم كلفة النقل”.
أسعارٌ زهيدة
تروي سيّدة أخرى (آثرت عدم الإفصاح عن اسمها) لـ”مناطق نت” وهي من بلدة شعت وتبلغ من العمر 45 عامًا وتعمل في مجال الزراعة أيضًا، أنّها بدأت عملها منذ وفاة والدها قبل 8 سنوات، لافتةً إلى أنّ الزراعة كانت مهنة أهلها وعملوا فيها إلى الممات، وقد توارثوها جيلًا بعد جيل.
في حديث لـ “مناطق نت” مع هديّة أبو زيد، البالغة من العمر 53 عامًا من رأس المعرّة في يبرود، وتسكن في جرد بعلبك منذ ثلاثين عامًا، تقول: “أعمل في هذا القطاع منذ كان عمري 16 عامًا، ولا أزال أعمل في المكان نفسه، على مقربة من السراي، منذ أكثر من 20 عامًا، وأنزل من الجرد إلى مكاني المعهود يوميًّا بحثًا عن لقمة العيش”.
لدى هديّة أربعة صبيان وبنت، أحدهم من ذوي الاحتياجات الخاصّة، يعملون جميعهم في جرد بعلبك في الأرض وفي تربية الماشية.
تحضّر هدية اللبنة البلديّة، “الأمبريس”، اللبن، الجبن البلديّ، تُحضره معها من جرد بعلبك إلى المدينة لتبيعه، وأحيانًا تحمله على رأسها وتدور به بين المناطق. تتابع هديّة: “أبيع الجبن البلديّ بأسعار تراوح بين 200 و350 ألفًا بكامل دسمها وليس كالمعامل التي تبيعها من دون القشطة فتسلبها دسمها. أيضًا لا نعطيها للحلّابين المتجوّلين لأنهم يريدون استلامها بأقلّ من نصف ثمنها”.
أسعار زهيدة
على الرغم من مواصفات الخضار والفواكه التي يتعبن في زراعتها وقطفها إلّا أنّ أسعار المنتجات لدى السيدات زهيدة، توازي أسعار السوق لا بل أقلّ، فعلى سبيل المثال باقة البقدونس لديهنّ بـ20 ألف ليرة، الخسّة بين 20 و 30 ألفًا، الهندباء ثلاث باقات بـ100 ألف ليرة، الصعتر للزهورات ما بين 100 و200 و300 ألف ليرة، الفول البلديّ بـ50 ألفًا، الفراولة بـ 150 ألفًا، “القريشة” بـ200 ألف، واللبن البلدي بـ300 ألف. وعلى رغم ذلك فإنّ بعض المارّة “يمتعضون” من الأسعار واصفين إيّاها بأنّها “مثل أسعار السوق”.
لهنّ زبائنهنّ
يشكّل استقرارهنّ في مدينة بعلبك وأماكن تواجدهنّ التي باتت معروفة، عاملين أساسيّين حولهنّ إلى مقصد للزبائن التي تقدّر الخضار المنزليّ والألبان والأجبان البلديّة، من مختلف أنحاء البقاع. وضحة وهدية لسن وحيدات، فهناك أخريات يجلن في شوارع وأحياء مدينة بعلبك، بالقرب من الجوامع وبعض مراكز التسوّق الشعبية، كسوق الأربعاء والسبت (سوق الطرش)، لا يستقرنّ بمكان معيّن.
هي الرغبة في العيش تدفعهن إلى التعب من أجل الأسرة والأولاد، بالرغم من أنّ أعمارهنّ تتطلّب منّهن التقاعد والراحة، التي يقرّر خلالها الإنسان التوقّف عن العمل كي يستريح قليلًا، إلّا أنهنّ يجلسن في الشارع طوال النهار، يبحثن عن رزقهن في بلدٍ لا يحترم مسنًّا أو أمًّا أو أيّ إنسان.