من المحلية نحو العالمية.. حكاية بيع السجاد والأدوات المنزلية في ميس الجبل

إضافة للهوية المناطقية الخاصة التي غالباً ما تتميّز بها كل بلدة أو قرية في لبنان، هناك الهوية المهنية التي كانت قديمًا تطبع تلك البلدات والقرى باسمها، يحتكرونها احتكارًا محببًا. واحدة من تلك القرى هي ميس الجبل، البلدة الحدودية في قضاء مرجعيون، التي امتهن أهلها بيع السجاد والمفروشات والأدوات المنزلية منذ عشرات السنين. فما إن تصل إلى القرية التي تصطف في شوارعها محلات بيع السجاد والأدوات المنزلية، تشعر حينها أنك قد وصلت إلى ميس الجبل.

هي حكاية عمرها ربما يقارب عمر البلدة، توارثتها الأجيال، وطوروها حتى صاروا يملكون معامل ومصانع خاصة سطرت اسمها بالخط “العريض” في الأسواق اللبنانية. صارت البلدة مركزاً تجارياً للمنطقة، لا يجذب سكان القرى المحيطة بها فقط، إنّما يُقصد من مختلف المناطق اللبنانية.

يوجد في البلدة أكثر من 15 محلاً لبيع السجاد وعدد كبير من متاجر الأدوات المنزلية والمفروشات، ويكاد لا يخلو شارع من متاجر عدة، أغلبها يجاور بعضه البعض و”كل واحد إله رزقته” وما يميزه عن غيره.

لم تنحصر محلات أبناء ميس الجبل في بلدتهم فقط، بل امتدت إلى خارج البلدة، حيث عمل أصحابها إلى توسيع تجارتهم، وافتتحوا فروعاً عدّة لمحلاتهم في مختلف الأراضي اللبنانية. إلا أنّ الثابت الوحيد، الإنطلاقة كانت من ميس الجبل.

قاروط، قبلان، حمدان وغيرها من العائلات التي برزت أسمائها في عالم تجارة السجاد والأدوات المنزلية والمفروشات، فامتدت على مساحة الـ 10425 كلم ولم تقف عند حدود تلك البلدة الجنوبية البعيدة.

من التجوال في أزقة القرى والبلدات، إلى محلات بسيطة وصولاً إلى صالات عرض ضخمة
ظروف الحرب.. بداية الحكاية

منذ خمسينيات القرن الماضي وتحديداً إثر اغتصاب فلسطين وإغلاق الحدود اللبنانية الفلسطينية بدأ نساجو هذه الحكاية بحياكتها خيطاً خيطاً، حيث نزح عشرات الشبان من ميس الجبل إلى بيروت، ليعمل قسم منهم كحمّالين في الأسواق ينقلون أغراض الزبائن، فيما اتجه القسم الآخر إلى بيع الزجاج والأدوات المنزلية من خلال سلال القصب. لم يكن أحد يعلم بأنّ خطوة كهذه ستمتد إلى اليوم، لا بل ستكتب جانباً مهماً من تاريخ هذه القرية الجنوبية.

شكلت ظروف الحرب والتهجير القسري منذ العام 1948 الدافع الأول والمحرك الأكبر لنزوح عدد لا يستهان به من أهالي ميس الجبل نحو بيروت. تركوا القرية بحثًا عن فرصة عمل آمنة، فيما كان قلة منهم يعملون في فلسطين، إلا أنّ الاحتلال عرقل المهمة.

في العاصمة، توزعوا للعمل في مهن عدة. بعضهم اتجه نحو تجارة الخضار والفاكهة، وآخرون بدأووا يمسكون بـ”طرف الخيط” فتولوا بيع الأدوات المنزلية والسجاد. منهم من عمل كبائع متجول، فيما من تيسرت أموره استأجر متجراً ليمارس مهنته.

الجدير ذكره أنّ عدداً من أبناء البلدة، من بينهم الحاج محمد شقير والحاج عبد الحسن شقير والحاج علي الزين عمار والحاج علي شرف والحاج علي قبلان والحاج حسن حجازي، والذين ارتحلوا عن عالمنا، كانوا قد افتتحوا عدداً من محلات الـ “أنتيكا” في منطقتي البسطة والضاحية في بيروت.

شكلت ظروف الحرب والتهجير القسري منذ العام 1948 الدافع الأول والمحرك الأكبر لنزوح عدد لا يستهان به من أهالي ميس الجبل نحو بيروت.

وفي رحلة البحث عن أصل الحكاية، يقول رئيس بلدية ميس الجبل عبد المنعم شقير لـ “مناطق.نت” إنّ حكاية أهل ميس مع بيع السجاد والأدوات المنزلية قديمة جداً، تعود لأيام الحرب التي فرضت على شبان البلدة مغادرة البلدة متجهين إلى العاصمة، حيث عانوا ما عانوه من الفقر والتضييق والعوز، ليؤسسوا هناك تاريخاً عريقاً في عالم التجارة والصناعة.

ويلفت شقير إلى أنّ ما تبقى من أهل البلدة يعملون في زراعة التبغ والحبوب والزيتون، إضافةً إلى الدوائر المدنية والعسكرية والسياسية والدينية.

أول تاجر سجاد.. حكاية “قبلان” للسجاد

من رحم الارتباط الوثيق لأبناء ميس مع مهنة بيع السجاد، وُلدت حكايا كثيرة، لعلّ أبرزها حكاية عائلة قبلان الذي أصبح إسمها مرادفاً لمهنة بيع السجاد. إلا أنّ ما وراء الكواليس تفاصيل كثيرة، فما هي حكاية آل قبلان مع السجاد.

بدأت حكاية المرحوم محمود قبلان مع السجّاد في الخمسينيات، حيث كان يزاول تلك المهنة في “بيروت الشرقية”. ولكن إثر اندلاع الحرب الأهلية لم يبق من تجارته تلك، إلا السيارات الخاصة بالمؤسسة، وهي عبارة عن “بيك أب” وسيارة “بيجو 404”. حينها انتقل مع عائلته إلى ميس الجبل، وافتتح مؤسسة هناك، وصار يوزّع البضائع على عدد من أبناء البلدة الذين طلبوا مساعدته ببدء تجارتهم وتأمين عمل لهم، حيث بدأوا بالتجوال قاصدين المناطق للبيع. يسلمهم البضاعة “عالأمانة”، ويسلمونه رأس المال فقط عند البيع.

محمود قبلان.. من الأزقة إلى العالمية

يقول الحاج حسين نجل المرحوم محمود قبلان وصاحب معمل النساجون اللبنانيون، في حديثه لـ “مناطق.نت”، إنه بعد انتهاء الحرب عاد والده إلى بيروت وافتتح مؤسسة في الخندق الغميق وطلب منه ترك المدرسة والتفرغ معه للعمل، لتتوسع بعدها تجارتهم حيث حصلوا على وكالات بيع كثيرة من دول عديدة منها بلجيكا والصين، وافتتحوا فروع عدة.

ويلفت أنّه في التسعينيات لكي يستطيعوا تأمين السجاد بأسعار مناسبة، فكروا ببناء مصنع للسجاد وذلك لهدفين، أولهما تأمين سجاد بأسعار مناسبة وثانيهما تأمين فرص عمل للجنوبيين الذين كانوا يرزحون تحت وطأة الاحتلال، حيث بدأوا ببناء المصنع سنة 1999 في زفتا، وتولى هو إدارته وعمل على تفاصيله كافة، كونه كان على دراية بالعمل وأسراره منذ الطفولة، ليصبح المصنع فيما بعد المزوّد الأول لتجار السوق اللبنانية، ولاحقاً بات يصدّر للدول العربية وأفريقيا ولندن وغيرها. يذكر أنّ حريقاً فتك بالمعمل السنة الماضية، إلا أنّ قبلان يؤكد أنّ رحلة بنائه وانطلاقته من جديد باتت قريبة جداً.

وعن ما يميزهم، يقول قبلان أنّ التجارة ممكنة للكثيرين، إلا أنّ الصناعة هي التي تتطلب ابتكار وإبداع وتخطيط، وهي عبارة عن عمل فني خصوصًا في مجال السجاد، حيث أنّ العملية معقدة وتمر بخمسة مراحل أساسية. “كل مرحلة لها دقتها، وتتطلب وقتاً وجهداً وحرفية عالية، من البداية حتى تنسيق الألوان المهمة الأصعب والأدق، مروراً بالقياس واختيار النوع وغيرها الكثير من هذه الرحلة الشاقة الممتعة”.

يعود قبلان إلى طفولته في ميس، ويؤكد أنّ كل شيء بدأ هناك حيث كانت نقطة التحول، مؤكّداً أنّه وأشقاءه في السابق والآن أولاده نجحوا في المحافظة على استمرارية وتعب وجنى وتاريخ الوالد المرحوم محمود قبلان حتى “ولد الولد” وساهموا في وصول إسمه إلى المحافل العالمية، وكله تقديراً لعصاميته، هو الذي أفنى حياته لكي لا يأكلوا إلا رزقًا حلالًا.

الأدوات المنزلية

في عودة لتقصي من بدأ أولاً بهذه التجارة، تصطف عشرات الأسماء من الذين سلّموا المهمة وركنوا العمر جانباً بعدما أدوها حتى الشغف الأخير. قاسم زهر الدين، حسين زهر الدين، عبد علي زهر الدين، علي اسماعيل، محمد حسين ابراهيم، حسين هزيمة، محمد قبلان، مسعود شقير، أسعد شقير.. وغيرهم. بدأوا ببيع المواد المنزلية، كل بحسب طريقته وكيفما تيسرت أموره.

لطالما كان الجواب الثابت الذي لا يميل لسؤال “من وين بدي جيب أدوات منزلية؟”: “أكيد من ميس!”. جودة البضائع وأنواعها الكثيرة والأسعار المناسبة كانت وسيلة الإغراء الأكبر. صالات كبيرة تحتوي على ما يخطر ولا يخطر في البال، صالات الأحلام لمن يهوى شراء هذا النوع من البضائع، وهم كثر طبعاً، وأولهم “العرسان” الجدد.

يؤكد خضر حمدان، نجل “أبو سمير حمدان” أحد أقدم تجار هذه المصلحة، لـ”مناطق.نت”، أنّهم ورثوا هذه المهنة عن والدهم. ويلفت إلى أنّ والده بدأ بتجارته في العام 1973، حيث كان بائعاً متجولاً يجول بسيارته الصغيرة مختلف المناطق بحثاً عن لقمة العيش. بعدها افتتح محلاً صغيرًا في وسط البلدة، وبدأ يتوسع شيئًا فشيئًا. لم يتميز بالأدوات المنزلية فقط، بل حجز لنفسه اسماً كبيراً في عالم السجاد حيث أنّهم يقدمون تشكيلة كبيرة من السجاد الإيراني والبلجيكي والعجمي المصنع يدوياً.

ويلفت حمدان إلى أنّه بالرغم من كثرة المزاولين للمهنة في ميس الجبل، إلا أنّه لكل تاجر خبرته ونظرته الخاصة بالبيع والشراء وبشكل خاص كيفية التعامل مع الزبائن، مؤكّداً أنّه بالرغم من العوائق الاقتصادية إلا أنّ المهنة في تقدّم مستمر.

الباعة المتجولون

عدد ليس بقليل من أبناء ميس الجبل طبّق المثل القائل “اللي ما إله قديم، ما إله جديد”، فعمدوا إلى ممارسة تلك المهنة من خلال التجوال بسياراتهم قاصدين مختلف المناطق، حاملين السجاد والأدوات المنزلية.

كثير من الأسماء التي شكّلت علامة فارقة في مهنة بيع السجاد أو الأدوات المنزلية لم تبدأها اليوم أو بالأمس، بل بدأتها من الوالد أو ربما الجد، والأخير غالباً ما كان يمارس مهنته من خلال سقف سيارته أو “فانه” أو عبر كتفه، فكانوا يحملون البضائع وخصوصاً السجاد يجوبون بها شوارع البلدات والقرى. أكتاف حملت ما لم تحمله الجبال، إلا أنّ عرق الجبين مسّد الطريق وتحول لينابيع خير ورزق.

“معانا صحون، معانا كاسات، معانا كبايات.. معانا فناجين قهوة”، بهذا النداء كان يعلن الباعة عن وصولهم إلى ساحات القرى وأزقتها، وكانت توكل مهمة الانتظار للأطفال حتى لا تفوّت ربات المنازل موعد الزيارة. تروي إحدى السيدات من بنت جبيل أنّ والدتها كانت تطلب منها انتظار أحد باعة ميس المتجولين، حتى تشتري الأدوات المنزلية منه، أو تبدل ألبسة وأحذية بصحون أو فناجين، حيث كان للمقايضة عزّها في ذلك الوقت.

يقول أحد أهالي ميس إنّ هؤلاء الباعة وصلوا إلى أوروبا والصين بعدما كانوا يجوبون القرى والحارات مشياً على الأقدام، بنوا بيوتاً وأسسوا عائلات، وسطروا لميس الجبل ركناً في زوايا النجاح والإصرار.

“معانا صحون، معانا كاسات، معانا كبايات.. معانا فناجين قهوة”، بهذا النداء كان يعلن الباعة عن وصولهم إلى ساحات القرى وأزقتها، وكانت توكل مهمة الانتظار للأطفال حتى لا يفوّتنَ ربات المنازل موعد الزيارة.

منذ التسعينيات يستمر حسين حمدان بالتجول عبر “الفولفو” خاصته قاصداً مناطق عدة وصولاً إلى بيروت لبيع السجاد والأدوات المنزلية، مشيراً لـ “مناطق.نت” أنّه ورث المهنة عن والده الذي بدأ العمل بها في الستينيات من القرن الماضي. وعن سبب استمراره، يلفت إلى أنّه لا زال هناك زبائن تنتظره للشراء منه.

في المقابل يلفت نمر عطوي، الخمسيني الذي لا يزال يعمل في المهنة حتى اليوم منذ الثمانينيات وارثاً المهنة عن والده أيضاً، متجولاً لبيع السجاد شتاءً وأغطية النوم صيفاً، أنّ اللباقة في الكلام والإبتسامة الجميلة سر استمراريته. وفي سؤالنا له عن ذكرى لا ينساها خلال رحلته عبر السنوات، يشير فوراً إلى التعصب الطائفي الذي كان يواجهه فيما مضى، حيث كان يسأل بشكل متكرر عن طائفته وهويته. ويشير إلى أنّه لا زال ينادي “معنا سجاد، لحِف، مخدّات وحرامات”، ليعلن لمن يسمع أنّه قد وصل ابن ميس الذي ورث المهنة وحافظ عليها “كل شبر بندر”.

لم يكن لينجح ويصل أبناء ميس إلى ما وصلوا عليه اليوم لو لم يمتلكوا مهارتهم بالإقناع. فالمعروف عنهم أنّ الطفل الصغير منهم يستطيع أن يقنع الزبون بالشراء. هي “ميزة” أو “حنكة” اشتهر بها التجار تبعاً لخبرتهم الطويلة في هذ المجال وخصوصاً عندما كانوا باعة متجولين حيث “درسوا” أذواق وخيارات مختلف الناس بدقة وتوارثوها، إضافة إلى تخطيطهم وسعيهم المستمر وعصاميتهم، فاستطاعوا أن يصلوا إلى كل بيت بمنتجاتهم وبضائعهم، فصاروا مقصداً و”مضرب مثل” لقصص النجاح، مثبتين أنّ المستحيل ليس “ميسياً”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى