من المجدرة وكبة العدس إلى الهمبرغر والفاهيتا.. الجنوب مطبخ بلا مطبخ

كيف أبدأ بالكتابة عن “المطبخ الجنوبي”، بينما لم يكن هناك مطبخ في البيت الجنوبي؟! السؤال الذي قد يبدو طريفاً اليوم، كان شديد الواقعية منذ سبعين، أو ثمانين سنة، حيث كانت البيوت عبارة عن غرفة واحدة، على أن يكون الطهي في قِدر يغلي على الحطب، بينما يُحفَظ الطعام في بقجة متدلية من السقف.

لإعادة مسرحة ذلك الزمان، علينا استحضار الجانب الطبقي، لعوام الناس، وأغلبهم فقراء، بينما لكل قرية إقطاعييّها الذين يمتلكون أغلب الأراضي التي يشتغل بها الفلاحين، بما يشبه السخرة.

في بيت الغرفة الواحدة ذاك، ثمّة جرّة تسمّى “المنشل” تحفظ فيها المياه على برودتها قبل اختراع البراد أو وصوله إلى القرى. في الجدار هناك “محمل” فيه الفرشات والأغطية، وهناك “كوارة” مبنية ضمن الجدار، لحفظ المؤن، وتحديداً الحبوب  كالقمح والشعير والعدس، أو غيرها من حاجيات البيت الغذائية، وهناك زاوية للداخون حيث إشعال الحطب وخبز العجين، وربما يكون البئر ضمن الغرفة أو خارجها.

جاروشة العدس

أغلب البيوت احتوت جاروشة عدس، وبعدها ماكينة تحميص البن اليدوية ترافقها المطحنة. أمّا طناجر البيت والأوعية (المواعين) التي تستخدم للأكل، ولنقل الماء أو تحميم الأطفال، فكانت نحاسية، يتم التوصية عليها من الشام أو من بيروت أو النبطية. وبعدما يقارب العام يأتي المبيّض إلى القرية ويأخذ زاوية ترابية ينصب فيها مكاناً لأدواته ثم يشعل ناره ويأتي الناس حاملين تلك الأواني لإعادة تبييضها.

عن تلك الأيام، تحكي لنا حاجّة تسعينية: “على العيد كنا نطبخ “كبّة بلبنيّة”، وفي الأيام العادية نطهو “كبّة عدس”، و”كبّة حيلة بشراب”، والأكلة المميزة هي “منسوفة” وهي عبارة عن لحم مفروم نحوّله أقراصاً. هذا بعد أيام الجوع حيث كان الناس يذهبون إلى أطراف بلدتنا، ليأتوا بالورق الأخضر حتى يأكلوه. وقتذاك مات بعض الأطفال، ربما من المرض أو الجوع، لم أعد أذكر”.

أكلات الغداء والعشاء وما يوضع في الزوادة التي تحمل إلى الحقول، هي عبارة عن مجدرة حمراء، أو برغل وحمص، أو بليلة لبن وبرغل، أو كبة بطاطا، وكبة عدس وغيرها من الأطباق التي تعتمد بشكل رئيسي على البقول مثل القمح والعدس والحمص. اللحم الأحمر يدخل بخفر إلى المائدة، والدجاج بنسبة أعلى حيث يربى في أكثر البيوت، أما السمك فهو طبق شبه نادر وليس من أطباق “المطبخ” الجنوبي، اللهم سوى في البلدات والمدن الساحلية القريبة من البحر.

على العيد كنا نطبخ “كبّة بلبنيّة”، وفي الأيام العادية نطهو “كبّة عدس”، و”كبّة حيلة بشراب”، والأكلة المميزة هي “منسوفة” وهي عبارة عن لحم مفروم نحوّله أقراصاً

في تلك الايام، كان لكل بيت مخزونه من الطحين، لأن صناعة الخبز على التنور مسألة أساسية في الدورة الغذائية للبيت، فلا دكان يبيع، وفرن يخبز. كان النمط على الشكل التالي: العجن في الليل، ثم تقريص العجين، على ان يترك ليخمر، ليبدأ الرقّ والخبز مع طلوع الفجر. حينها تنتشر رائحة الخبز على الصاج تدريجياً في الحارات وبين الأزقة، إذ لا يمكن أن يمر نهار دون أن يكون أحد البيوت قد أعدّ عدته للخبز. والذي غالباً ما ينتهي بإعداد المناقيش التي تُصنع من الأقراص الأخيرة للعجين بعدما تكون ربة المنزل قد اطمأنت لعدد “عدات” الخبز والتي تضم الواحدة منها الـعشرين رغيفاً.

كانت القرى تعتمد على الأطعمة التي تنتجها أراضيها بشكل رئيسي، أو ما قد يصل إلى الحوانيت عبر التجار من مناطق بعيدة. على الفطور يكثر حضور البيض، واللبن واللبنة والجبنة والمشاطيح وبقعات الصاج والكشك، وأحياناً الدبس أو المربّى، أو التين اليابس، أو تين الدحروب، أو تين شريحة، مع وجود حبيبات زيتون، وربما الفجل، والبصل الاخضر، والنعناع.

مجدرة حمرا
أسماء أوعية الطعام

لم تكن الأوضاع المعيشيّة تحتمل اقتناء صحون أو كاسات مصنّعة من مواد قابلة للكسر. فكانت جلّ الأوعية معدنية، أو من الفخّار في حالات الضرورة. هنا أمثلة عن بعضها:

خابية = وعاء فخاري لحفظ الزيت أو اللبن ومشتقاته.
كوارة = تجويف في الجدار مصنوع من الطين تُحفظ فيه أنواع المؤن.
طاسة = وعاء يكال به الحليب.
جنطاس = وعاء نحاسي يوضع فيه المرق.
جبلية= قدر نحاسي يُحفظ فيه الحليب وهي بقياسات عدة منها “ربعية” و”نصية” وغيرها
دست = وعاء معدني للطهي
خلقينة = وعاء كبير من النحاس يُسلق فيه القمح، والهريسة في عاشوراء.
جاروشة = حجران مستديران فوق بعضهما، يحرَّك يدوياً لطحن الحبوب، خاصة العدس.
منخل = يفرز الطحين عن النخالة، يشبه الغربال.
مسرد = غربال بفتحات واسعة لتمرير حُبيبات الحمّص.

الكبّة أو خلطة الريف بالبادية

على عكس الصورة الشائعة اليوم، فإن الكبّة النيئة، لم تكن طبقاً جنوبياً حاضراً على السفرة بتلك البديهية التي نظن، فاللحم كما ذكرنا يدخل البيوت بتقطير كبير، وبالغالب في الأعياد والمناسبات فقط. ولذلك كان اللجوء إلى أنواع الكبّة “الكذّابة”.

لا، لم تكن الكبّة جنوبية، من الناحية التاريخية، ولا لبنانية حصراً، إذ يقول الباحث صقر أبو فخر بأنها: “شامية، تمتد مواطنها من غزّة جنوباً حتى حلب شمالاً، ومن بادية الشام إلى ساحل البحر المتوسط”. في الكبّة يلتقي الريف والبادية. فاللحم من البادية، والبرغل من الريف، ليمتزج الاثنان في الجرن ذاته.
 ربما تكمن الخصوصية في “الفراكة” الجنوبية، حيث للتحويجة النكهة الفصل في تركيبتها، وهو حال اللحمة المدقوقة “الملسة”، التي صارت اليوم سندويش مطلوب من ملاحم الجنوب، خاصة تلك الساحلية منها.

كبة نية

بالنسبة إلى التبّولة، رفيق الكبّة، فهي أكلة فلّاحية، ليس لها أي تقاطع مع اللحم في تركيبتها، وهي أيضاً ليست لبنانية الأصل كما يشير أبو فخر، بل لها أصول عراقية أكاديّة، وإسمها الأصلي “بلالو” أي مزج عناصر عدّة بعضها مع بعض. 
لطالما كان الفتوش أكلة الفقراء، فهي مزيج من الخضراوات المتاحة في محيط أي بيت جنوبي، على أن يُفَتّ فوق الخليط الخبز البائت اليابس، ليصبح بذلك أكلة بذاتها، وليس ملحقاً بالسفرة كما نتعامل معه اليوم.

الطعام ثقافة وهوية

ينقسم الطعام إلى أنواع وضروب، مثل الهرائس، والثرائد، والعصائد، والأكارع، والمقالي. غير ان هذا التصنيف قد جاء متأخراً، فالبشر لم يمتلكوا هذا الترف، حيث عملوا لملايين السنين على التهام الطعام حتى التخمة، كلما أتاحت لهم الظروف بلوغ ما يؤكل، وبذلك لا نتوقّع أبداً توزيع الأكل على ثلاث وجبات، كما هو الحال الآن. كذلك لم يعتد الانسان على ادخار طعامه إلا في وقت متأخّر، والأرجح انه قد اكتسب هذه العادة بعد مراقبته للنمل، والنحل، وحيوانات أخرى مثل السناجب. وما الكوارة في البيوت الجنوبية القديمة، سوى خزائن طمأنينة، حيث يجود الجدار بما يحفظه من الحبوب. ولا ننسى تخزين اللحم، بصيغة القاورما، حيث يتم اللجوء إلى تلك الجرّة في حالات الضرورة.

اليوم صار لكل بيت مطبخه الخاص، ونعيش ثورة في عالم الاطعمة، ومن جميع النواحي، من التخزين، إلى التنوع الذي ما عاد مقتصراً على ما تجود به الأرض، فساحات الجنوب ملأى بالمطاعم، التي تفيض بلوائح المأكولات، من الهمبرغر، إلى البيتزا، إلى الفاهيتا، والفرنسيسكو، وتشاينيز، وماكسيكن. بينما الحلويات: دوناتس، وكريب، وكوكتيل، وآيس كريم، وبابا روم…
كل هذا جميل، بل ما فوق الحلم، إذا ما عدنا قرن من الزمان إلى الوراء. وليس لكل هذا سوى ضريبة واحدة: فقدان الهوية. وهو أمر لا يقتصر على الجنوب، أو البقاع، والجبل. ففي زمن العولمة، اختلطت الهويات في كل العالم، وهو أمر فيه ما فيه من النقاش الفكري، والاجتماعي، والاقتصادي، ففي محو الخصوصية، فعل تذويب للذاكرة، وتشويه الانا الجمعية، في مرآة الحاضر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى